غالب حسن الشابندر
&

&
البداية الصريحة
&رواية "القاهرة الجديدة" تتجاوز التاريخ رغم أنّها تتحدث عن مرحلة من مراحل التاريخ المصري الذي نعاصره، فالرواية تتحدّث عن المجتمع المصري قبل سنة 1932، مجتمع الكسل والبلادة الاجتماعية، مجتمع الرخاوة الفكرية والإستحمام بدفيء الحياة الراكد، مجتمع الإتكال على تعاقب الزمن كي نتخلص من مسؤوليّة الزمن بالذات !
وفي لُجّة هذه اللزوجة الإجتماعية التي تزكم الأنوف، كان هناك ثلّة تفكر بمهمة الإنقاذ، تريد ان تقوم بعمل ما، ينتشل هذا المجتمع من رقدة الموت التي إستبدت بالضمير، ولكن أين تجاوز التاريخ هنا ؟ ألسنا نتعامل مع حدث بعينه وزمن بعينه ؟ وهل التاريخ غير حدث مقترن بزمن ؟
محفوظ في ( القاهرة الجديدة ) يغور في أعماق الذات الانسانية ليسجِّل لنا تقلّباتها وعجائبها ومفارقاتها، يحفر هناك، يحفر في طباقات الذات ليفجّر من بين تضاعيفها ذلك المخبوء الهائل، لا ابالغ بالقول ان محفوظ بطل الرواية النفسيّة في عالمنا العربي. وهو يتجاوز التاريخ لانّه يجعل من التاريخ مجرد نقطة مرور، مشرحة مؤقَّتة يحتاجها لكي يتمكن من الإمساك بالحدث، كي لا يفلت بعيدا، ومن ثمّ يبدأ بالتشريح ليعلن عن النتيجة التي تصلح للنظر والاستلهام والتفسير لمن ياتي فيما بعد.
هذه الثلّة الحاملة بمستقبل حي للمجتمع عينة من طلبة كلية الأداب / فرع الفلسفة، وهذا الإختيار في تصوري جاء لسببين في تصوري : ــ
الأول : أن دراسة الفلسفة قد تشجِّع على الانخراط في هذا اللون من الا حساس والمسؤولية.
الثاني : أن الكاتب الكبير كان من طلاب الفلسفة في تلك الفترة.
من غرفة بدار الطلبة تبدأ رحلة الرواية الرهيبة، رحلة الهدف الكبير، الهم الرسالي المتوهّج بالثورة على الوضع القائم، وكان حملة الهم أربعة طلاب تتضح هوايتهم الفكرية من الوهلة الأولى.
&الإتجاه الإسلامي... مأمون رضوان.
&الإتجاه المادي..... علي طه.
&الإتجاه الوفدي... أحمد بدير.
&الإتجاه الفوضوي... محجوب عبد الدائم.
ومنذ البداية يرسم الكاتب العملاق الإتجاهات الاربعة ببيان سريع، خاطف، متماسك، ينطلق من البنيات الجوهرية للك مذهب.
&مأمون رضوان : ألله في السماء والاسلام على الارض، هاكم مبادئي.
&علي طه : الإيمان بالعلم بدل الغيب، المجتمع بدل الجنّة، الإشتراكية بدل المنافسة.
&محمّد محجوب : أن أصدق معادلة في الدنيا هي ( الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طز ).
&أحمد بدير: انا وفدي !
&

تماهي الخارج والداخل
&محفوظ مُغرم بداخل الإنسان، يعيش هناك، يحفر كما قلنا بالطبقات النفسية للذات البشرية كي يُمسك على المخفي، يقلّبه بإدواته النفسية الدقيقة، لا تغرّه المظاهر، هذه مجرّد أقنعة، ربما تخفي المصائب والأهوال، ويرصد التحولات النفسية بعمق، خاصّة تلك التحولات الهائلة، ولكن محفوظ في الوقت ذاته كان شديد الحساسية تجاه الخارج، مغرم به أيضا، يستغرق في وصف البيئة بأسهاب، ولعل رواية ( زقاق المدق ) من أروع مصاديق هذه الحقيقة، وعلى هذا الإمتداد يحاول محفوظ أن يماهي بين الداخل والخارج على مستوى ا لشخصية، إبتداء من الا سم حتى التكوين الجسدي.
لنلاحظ بدقة أسم حامل الإتجاه الإسلامي ( مأمون رضوان )، هو مأمون، حيث تنعقد العلاقة بشكل واضح بين الأسم والإتجاه، وهكذا مع حامل الإتجاه ( علي طه )، وهل ينكر أحد بانّ علي هو ممثل اليسار في التاريخ الاسلامي ؟ ومحجوب كان غائم الرؤية أزاء كل شي، كل شي في هذه الدنيا لا يحمل معنى، المعاني محجوبة عن رؤيته، بل رؤيته هي هذه العدمية الفكرية والروحية الضاربة، ويبقى أحمد بدير، اسم لا يشير إلى هويّة، لأن الوفد كان بلا طعم حقيقي صارخ يكشف عن فلسفة في الحياة.
هذا التماهي بين الإسم ومضمون الحمولة الأ يدولجية هل هو فن روائي ؟
ولكن ما هي مواصفات مأمون ا لخلْقية ؟
هنا تأتي الريشة لتكون من آدوات السرد الروائي ( جسم رشيق، جذاب، ممشوق، نحيف غير هزال، أبيض الوجه مشرّباً بحمرة، أجمل ما في عينان سوداوان نحلاوان، تلوح فيهما نظرة لامعة ـ تذكي صفاء وجمالا... نظرته صافية، قامته عالية، يذكّرنا منظره بعمر بن أبي ربيعة، ولكنّه ذا عفّة واستقامة وطهر... ضمير تقي، خلق قويم... متفوّق دراسيِّاً، لم يسمح لمخلوق أن يدانيه تفوّقه، ولكن لم ترسب في نفسه بسبب المنافسة أبخرة خبيثة، وذلك بفضل إيمانه الراسخ بالله، وقوّته الخارقة، فسما بإنسانيته إلى أعلى المراتب...
الإتجاه الاسلامي كثيرا ما يكون من نصيب شباب موفور الصحّة، من منتسبي الطبقات البرجوازية الصغيرة أو الكبيرة، متقدم في الدراسة، متفوّق على زملائه، هذا من الرصد العام للواقع.
نقرا عن حامل الإتجاه الاشتراكي علي طه ( كان فتى جميلاً ذا عينين خضراوين وشعر ضارب إلى الصفرة، عريض المنكبين... والواقع : أنّه لم يكن يخلو من تناقض، كان كثيراً ما يستهين بالملابس والمآكل ونظام الطبقات، ولكنّه كان يلبس فيتأنق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، وينفق عن سعة... كان إجتماعياً، لا يصبر على التأمل طويلا ).
هي ملامح الأ شتراكي الوسطي الى حد بعيد، لا يبالي بالمظهر الخارجي، ولكن لا يمنع ذلك من الإهتمام بهذا ا لمظهر في أوقات معينة، وبالتالي ليس هو قضية جوهرية.
ولكن ما هي مواصفات محجوب ؟
يصفه محفوظ ( كان... طويلاً مخيفا، شاحب الوجه، مفلفل الشعر، جاحظ العينين، شعرات حاجبه صاعدة إلى الإعلى، ذا نظرة قلقة متقلّبة، ولم يكن كصاحبيه، فليس فيه جمال، ولكن لم يكن فيه قبح منفّر، وكان يرى حياته مليئة بالمشاكل، خاصة من الجنسية ).
تماهي بين الشكل الخارجي والمضمون الداخلي، هناك عدمية داخلية تتماهي مع مظهر خارجي بائس يدلّ على التعامل الرافض مع الكون والحياة التاريخ.
ولكن ما هي مواصفات الوفدي أحمد بدير ؟
لا شيئ !
تُرى هل لانّه بلا طعم أديولجي حقيقي ؟
لماذا هذا الحرص على تجسيد وحدة متطابقة بين المضمون الداخلي للبطل وشكله الخارجي ؟ يبدو أنّ محفوظ يريد تقديم بطل متماسك، أداة قادرة على إ داء الدور المناط به، ولعلّ ممّا يؤيد أو يعزّز هذا التصور أو المراعاة الدقيقة التي يبذلها محفوظ للتماهي بين الإسم والحمولة الإيدولجية، وعليه كان ( مأمون ) بطلاً على صعيد الأسم والجسم والمضمون ! لندقق النظر في مواصفات سالم الأخشيدي الذي يمثل عنصر الشر المطلق في الرواية ( متوسط القامة مع ميل إلى القصر والبدانة، مثلث الوجه كبيره، كثيف الحاجبين، حاد البصر، مستدير العينين... )، أليست هي مواصفات ماكر مخادع ؟ مواصفات ثعلبية ذئبية مخيفة تكشف عن نفسية متردية متامرة ؟
هل هي صدفة ؟
أم هي تخطيط ادبي فني ؟
أم هي عقيدة يتبناها الكاتب ؟
أم هي نزعة شرقية باتجاه التجسيد ؟
في تصوري أنّها جزء من تقنية روائية، تقوم على تقديم بطل كامل الاوصاف، يستحوذ على حواس القاري او ليكون المشهد الروائي مملوءً بالارقام التي تشبعه.
الحياة بين المبادئ والضرورات الكمالية
&ليس المقصود بالحياة هنا معناها البايلوجي بطبيعة الحال، وليست هي نمطاً عاديِّاً من العيش، بل أقصد الطموح المُستغرَق في تحقيق الحواس بأعلى مستوى ممكن، المال الوفير، والسيارة الفارهة، والبيت الأسطوري، والجسد الناعم، والفراش الحالم، والمتع الليلية الصاخبة، والجاه الإجتماعي، والراحة الجسدية... هذه الحياة كانت تشغل حيّزاً كبيرا من جسد الرواية... وهي المقترب الذي حددّ العلاقة النهائية بين على طه الإشتراكي وحبيبته الفقيرة المُعدمة ( إحسان تركي شحاتة )، لقد كانت في غاية الفتنة، جميلة جدا ( فتاة في الثامة عشرة تضي صباها بشرة عاجية، وعينان سوداوان يجري السحر في حورهما والاهداب، أما شعرها الفاحم وما يحدثه من تجاوب سواده مع بياض البشرة، فيخطف الأبصار، وقد حوى معطفها الرمادي جسماً لدناً، ناضجاً ينشر سحراً ووهجا ) ــ ص 36 ــ، ولكنّها تعاني من شضف العيش ومعاناة الذات الجريحة بسبب ممارسة الاب لمهنة القيادة المستترة، وقد وجدت في البداية مهربها من جهنم الضمير المكلوم الكرامة في حب علي طه،الإشتراكي ذي النزعة الإنسانية الرائعة الشفافة، وهل هناك اروع من هذا الشاب الذي كان على درجة رائعة من الجمال البريئ، صاحب الحمولة الإديولجية الإنسانية بأخلاص ومثابرة ؟ وهل هناك أروع من هذا الصفاء الروحي والنقاء المعنوي ؟ هنا مكمن الخلاص، وهنا نقطة العودة من جديد الى برائة الخلْق الأولى، وقد كان علي يسعى لان يكون حبه لـ ( إحسان تركي شحاتة ) آية تتغنّى بها فلسفة الحب ( لنكون عقلاً واحداً وفناً واحدة ومهنة واحدة ) أنها فلسفة الحب الرشيق، الحب الحالم، حب التماهي الجسدي والروحي والوظيفي، ربما الأفكار الاشتراكية التي تصرّ على تحقيق المجتمع اللاطبقي كرّست في وجدان هذا الشاب الطيب الكريم تلك الصورة المثالية للحب، ألم يكن مشروع المجتمع اللاطبقي إسطورة الحالمين ؟
كان والدها ( القواد الرمزي ) قد حاول أكثر من مرّة إستغلال جسدها الممشوق لأنقاذ وضعه الإقتصادي المتردّي، وهو الأب لسبع أبناء صغار وبنت واحدة هي ذاتها احسان، يبيع السجائر على عبتة داره المسكون بهمٍ واحد لا غير، كسرة خبز يتيمة تسدُّ جوعتهم طمعاً في رمق مخنوق من حق الحياة، ولكنّها أبت وتمرّدت وإستطاعت أن تحفظ خفقة الضمير الحي تسري في أوصال روحها المعذّبة، وليس سرّاّ كان ذلك بفضل هذا الشاب الواعد الكريم !
هل يكفي ذلك للسير على طريق الشوك الدامي مع علي طه ؟
هل يكفي ذلك ضماناً سحريّاً يحمي الحب من هجمات السؤال الشرس عن معنى الحياة بلا دنيا تبتهج في عيون أصحابها ؟
هل تكفي المبادئ الشفافة لحراسة الضمير المقموع جوعاً من مفاجأة الثورة على قيم تغذي الروح، ولكنّها لا تغني جسداً محموما بالتطلع الى حقوقه الطبيعية ؟
هنا ياتي دور ( قاسم بك ) ليجيب على هذه الاسئلة الكبيرة...
( علي طه ) صدى لذلك الجزء المثالي من تركيب الذات الإنسانية، والأن جاء دور( قاسم بك ) صدى اللاشعور، صدى الرغبات المقموعة، صدى التطلّع الى دنيا مجنونة بصخبها في الشارع الليلي، ومرتخية على نغم هدوءها الشاعري في صالات البيت الإرستقراطي المنظّم الوسيع.
&

بدأ الصراع...
واي صراع...

ليس صراعاً بين قديم وجديد، ولا هو صراع بين نثريات الحياة العابرة، بل هو صراع أزلي، ميدانه النفس بكل مذخورها ومخزونها من روافد الإيغال الى الاعماق، وما اكثرها، وما أغزرها، وكانت النتيجة محسومة سَلفا على صعيد القوة، وخَلفا على صعيد الفعل، وهل ينتصر الحب المجرّد على فورة الجسد لمّا يشتدّ اوارها ؟ ذلك إنتصار نادر، ولذا صار مضرب الأمثال ( تردّدت بين البك وعلي طه، بين حياة الدعة والإطمئنان وحياة الكد والكدح، بين عيش رغيد لها ولاسرتها وحياة جلها مغالبة لفقر لا يُغلب وضنك لا يزول، ثم أختارت دامعة العينين، خافقة الفؤاد، وأوهمت نفسها أنّها تضحي بسعادتها في سبيل الاخرين... ) ص 115 ــ فصعدت سيارة ( البك ) لتكون بداية الرحلة الجديدة باتجاه نفحات الجسد المتطلّع الى غذاء من جنسه بالدرجة الأولى، باتجاه الامل الساخن بشهوة الدنيا المشبّعة بذاتها وحسب، وفي لحظة من سيرالزمن المخطوط في نيّة ( قاسم بك ) أنتهك النهد الفائر، كان يتكوّر من داخله، تحرّكه أسراره اللاهوتية، ولكن في هذه اللحظة تحرّكه أصابع ( قاسم بك )، وأشترع الجسد يرهز تحت أنّات محمومة بالرغبة من إشباع شيطانها اللعين، ضاع جهد ( علي طه ) في فضاء الانفاس المختلطة تحت جنح الليل البهيم على سرير الأمل الذي كان يراودها، غابت الحواس، وتعطّل العقل، وساد صمت الإنتقام من الماضي، ولكن دون وعي من الجسد المسجّى على فراش الأحلام الوردية !
هي البداية الجديدة !
بداية تاريخ مضطهد، شارك في صنعه أكثر من مسؤول، الفقر اللعين، والاب، ذلك القواد الرمزي المتسكّع على طرقات الأمل المسموم، وقاسم بك الذي يساوي علي طه في جماله ولكن يفترق عنه بماله وسيارته وضيعاته وتجارته وقصوره وجاهه، والاخشيدي السمسار الذي يجيد عرض الزيف بابهى صورة، وكان ( محجوب ) نقطة الضبط في العملية كلها، ولكن أين هي مسؤولية القدر هنا ؟ أين هي مسؤولية هذا المجتمع الزفر ؟ أين هي مسؤوليّة الأصابع المشتبكة وراء حجاب ؟ أين هي مفاصل ليلة القدر ؟ أين هي مسؤوليّة المعلوم وجوداً المجهول كنها؟ يدير دفّة السفينة مختبئاً ينتظر إكتشافه على يد الأخرين، يديرها بأشارات قهرية تخترق المسافات البعيدة... البعيدة... ثم يتجلّى أمره فعلاً يسطع بوجوده كما يقولون.
لست ادري...
لستُ أدري...
ولكن لنشرب كؤوس الأحزان مترعة على مائدة نجيب محفوظ، نشربها ثم نخرج الى غابات الله عراة نصرخ إحتجاجا على سلطان اللغة وسحرها وقهرها وشرفها وقذارتها...
دوائر متناظرة ودوائر متوتّرة
&
&( القاهرة الجديدة ) جسد لغوي متوتر، هناك دوائر متوتّرة ومتناظرة على جهتين، تتوزّع على هذا الجسد، وكل دائرة تتشكل من نقطة صاخبة، صخبها من قدرها وحسب، من عنفوانها الذاتي، من تلاطم أمواجها الغاضبة، تتصاعد حدّة التوتر من باطنها الحي، وتتواصل على علاقة ساخنة متناقضة مع مشاركاتها في تاسيس هذا الجسد اللغوي الشهي إلى حد اللعنة.
الدائرة الأولى
&لنتمعّن في هذه التشكيلة البشرية الغريبة : ـ
&محجوب عبد الدائم : ( الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طز ).
&سالم الأخشيدي : كان مناضلا كبيرا ولكن بمجرّد لقاء عابر مع مسؤول الكلية إنقلب الى سمسار سياسي : ثمّ ترقّى بمهنته الباطنية ليتحوّل الى سمسار جسدي محترف لقاسم بك.
&تركي شحاذة : قواد متفِّن بممارسة المهنى رمزيّاّ، والد إحسان.
( القيادة ) هي نقطة التجميع هنا، هي القاسم المشترك، ولم تكن قيادة كل صنف من هذه الاصناف بالمهنة العابرة، بل هي مهنة تتجاذب سحرها من داخل ضمير كل صنف، تتمحور داخل الذات المسلوبة لتتحول الى فلسفة حياة، تذبل في سياقها كرامة الوجود، كل منهما يعيش داخل الأخر، ولكن يريد ان يلتهمه حقداً ونفياً.
القيادة فن تنوّعت مدارسه وتعددت طرائقه، قيادة تتراوح بين عشق ظاهر وإبتذال خفي، ضحيته العشيقة المسكينة، وقيادة يعلم بها الزوج ولكن حب السلامة ينأى بالزوج عن التجاوب مع وخزة الضمير إذا تحرّك مرّة ولو صدفة، وقيادة يختارها الزوج للذة او الفائدة، ويختمها بجامع الفنون كلها ( كنت أوّل مرّة تجهل ما انت مبتلى به، ثم يُكشف لك، فتتجاهله إيثاراً للسلامة، ثمّ تعودته فاستلذذته ) ــ ص 147 ــ وقد وجدت كل الاصناف مصاديقها الحية في جسد السرد الرهيب، فكانت القيادة نقطة التوتر المسؤولة عن تخليق هذه الدائرة الجهنمية من البشر، ولكن إذا كانت الدائرة هذه منسجمة الهوية والمهنة والإتجاه فإنّها من جانب أخر تعج بالحركة التنافسية، ربما ليس طمعاً في مال، بل كراهية متبادلة بسبب كراهية الذات من الداخل، تتقوّم باحتقار متبادل، نابع من وعي مباشر باقتسام حصة الرذيلة المتجانسة !
&

الدائرة الثانية
&تقابل هذه الدائرة نقيضها، دائرة المخيال الإديولجي، من سمائه الى ارضه، دائرة تهدف سعادة الإنسان في سياق من أختلاف الرأي على نحو التناقض الرهيب ! وهنا تتبدى عبقرية هذه الدائرة، وهو الامر الذي أدهش محجوب ( القواد ) بالنيابة، ولكن لنسمع إلى مأمون المتدين الملتزم ماذا يقول لمحجوب ( علي طه شيوعي بنّاء ولكن أنت مدمّر ) !
إنّهما ( الإصدقاء الأعداء ) ص 209.
حقاً لدائرة تثير الإنتباه وتستحق الإعجاب والتقديس، وهي منسجمة الهدف ولكنّها متوترة المضمون، ساخنة الساحة الداخلية، هناك حرب شرسة ولكن كل المحاربين يريدون سعادة الإنسان ! إئتلاف وأختلاف، لقاء وافتراق، تصالح وتعاند.
ذاك هو علي طه، فقير واشتراكي، ملحد وشريف، عاشق عذري ! وذاك هو مأمون، يدين بالغيب وكريم، متزوج عفيف، لا ينسى صديقه مهما كان إتجاهه، حتى إذا كان مدمّراً في منظوره !
تُرى أين هي نقطة التخليق في هذه الدائرة الجميلة الرائعة ؟
هي المبادئ وشرف الحياة، هناك مثل أعلى يختمر في ذهن كل منهما، إنقاذ المجمتع، تطويره، محاربة الشر، الخير هو النقطة التي تفجّر هذه الدائرة، تُظهرها من فضاء العدم إلى فضاء الوجود، ومن ثمّ أستطيع ان أوجز هذه النقطة الكبيرة بكلمتين : ــ
كرامة الوجود !
&

الدائرة الثالثة
&كان احمد بدير بلا طعم وبلا رائحة، بلا نكهة، هضبة رملية تكتسب شكلها من تلاعب الريح، من حركتها التي لا تعرف شكلاً منتظما، تتماوج على نفسها باتجهات لا يمكن ضبطها، ولا التحكّم بها، تتداخل أمواجها وفي هذا النطاق يمكن أن تدخل ( احسان )، فهي ذاك الانسان ذي البعد الواحد، تطلب الدنيا للدنيا ( أن العيش السعيد شباب وثياب ) ــ ص17 ـ ثم ألم تكن تقل لعلي طه ( أيسوؤك أن ترى دائماً هذا المعطف العتيق )، فهي ليست مثل محجوب، هناك فارق نوعي بين الشخصيتين، محجوب تجاوز لذّة المال من أجل المال، كان يريد السيادة العرفية والبروز الإجتماعي، يريد أن يكون مرهوب الجانب ( المال، ا لمال، هو السيادة في الدنيا، وهو القوة، وهو كل شي في الدنيا ) ـ ص 93 ــ فالمال في فلسفة ( القوَّاد ) محجوب ليس لذّة إقتناء بل هو لذّة تخليق تتجاوز اللقمة الدسمة والثياب الوثيرة، لذّة تسبيب، يتحوّل الى قوِّة وسلطان وهيبة، بل يتحوّل إلى كل شي، بما في ذلك الشرف والذِمام، فيما ( أحسان ) تهدف للمال من اجل اللقمة الدسمة والفراش الوثير والسيارة الفارهة، في حدود مطامع اللذّة الوقتية، في حدود البطن وليس حدود سيادية وخلود ومجد، ويندرج في هذه الخانة ( قاسم بك )، شخصية تافهة، باردة الأعصاب ميتة الضمير، مستهترة بأعراض الناس، تستغل الفقر والعوز لإشباع نهمها الجنسي الوسخ، بلا وازع من ضمير أو دين، وضمن هذا النسق من الناس نلتفي بشلّة ( اليخت )، تلك الشلّة الفارغة، قصف وأكل وشرب وعربدة وهيام بالجنس اللحظي العابر.
هذه الدائرة تنبثق من نقطة مركزية هي التفاهة، البلادة الروحية، دائرة سمجة، تمرّ الايام وبمرورها تتسع هوّة الفراغ في داخلها، فهذا ( عفّت ) ابن الشيخ الاقطاعي عضو مجلس البرلمان يقول ( لا تجري في عروفي قطرة دم مصرية )، هو وأبوه متفقان على أنّ السوط هو الآداة الوحيدة التي تصلح للتفاهم مع الفلاح المصري ص 186. وهي بلا شك منسجمة الهويّة، تتقاسمها هوية وفيَّة بإنطباقها على أفرادها بالتساوي، ولكن متوتّرة بداخلها، فهناك التآمر الخفي الساقط، وهناك الملاحقة السريّة، وهناك المستشري المتبادل، فليس عجيبا ان يحاول ( عفّت ) السطو على جسد ( أحسان ) وهي مع زوجها الزائف في ضيافته !
&دوائر متناظرة ودوائر متوترة، والسائد في المحصّلة النهائية هو الصراع، صراع عنيف، صراع بين القيم، وصراع بين المصالح، وصراع بين الأشخاص، وجسد الرواية هو قطعة من صراع.
ثلاثة في واحد !
الشخصيّة المعقّدة ظاهرة متسيِّدة في روايات محفوظ، يتناولها بالوصف الدقيق من خلال الصراع، صراع مع الذات وصراع مع الحياة وصراع مع الآخر، صراع شرس مدمّر، يتوسل بذلك إلى تعدّد الشخصيات في الشخص الواحد، وفي رواية القاهرة الجديدة نلتقي بهذه الظاهرة بشكل واضح، بل هي قضية مركزية في الرواية، مسؤولة بدرجة كبيرة عن تصميم شكلها ومضمونها، ولعلّ إحسان تركي شحادة مثال بارز في هذا المجال، فهي لم تكن ذلك الشخص الواحد، بل مجموعة شخوص، شخصيّة مركبة، كانت هناك شخصية أحسان المتطلّعة الى حياة المتعة واللذة مثلها مثل معظم الناس، ولكن بمرور الزمن وتوالي الاحداث تحوّلت إلى أكثر من شخصيِّة...
&كانت حبيبة / علي طه...
وكانت زوجة / محجوب عبد الدائم...
وكانت قحبة / قاسم بك...
ثلاث في واحد...
ولم تتقاطع هذه المقتربات في نقطة، بل كل مقترب يملك حق السيادة على نفسه في داخل الروح المُمّزقة، فهي حبيبة على ذمّة تحترم الحياة والكرامة، عن أخلاص وشغف بالمجد المعنوي، وهي زوجة زائفة، فان محجوب تزوّجها ليتسوّل بفخذها وصدرها وبطنها وأباطها، ولكن على ذمّة الحقوق المتبادلة من ذات المصدر الخبيث ( إنّه لا يروم من حياته الزوجية معنى اجتماعيا، ولا ذرية صالحة، ولا أحتراماً متبادلا، كل ما يريده رغبة متبادلة، ميل يعادل ميله، شهوة بشهوة، وحسبه هذا من زواج هو وسيلة لا غاية، إنّه يروم حبا بلا غيرة، يرد ماءها الحين بعد الحين ) ص 132 ــ وهي قحبة مخصوصة لواحد يجيد التوغل في اللحم بطريقة شرهة، وقد كان السبت هو اليوم الذي تتحقق بها عهريتها على وجه الخصوص.
هذه هي ( إحسان )، ولكن بمرور الايام تبخّر علي طه من منطقة الضمير القابع في أعماق الذات، وكان ذلك عن قرار مسبق، فالحب والفقر لا يجتمعان في تصور إحسان، فرجّحت حياة الراحة على التعب، الدعة والاطمئنان على الكد والكدح ــ ص 108 ــ يعني لم يتحوّل الى شخصية نابتة في اللاشعور، مات علي طه، منذ اللحظة التي تزوّجت بها محجوب ليكون غطاء للوطر الحرام ( لا محل لذكره )، هكذا قالت لمّا نطق محجوب باسم علي طه صدفة في سياق نقاش ساخن عن سبب هذا المأل لكلا الطرفين، وقد قالتها عن إصرار داخلي يروم نسيان كل شي يتصل بهذا التاريخ، ولكن لم يمت محجوب عبد الدائم ولم يمت قاسم بك، والغريب أن تنسجم الشخصيتان بعد فترة من المران داخل ضمير إحسان ! كل واحد منهما يمارس دوره معها بكل حرية وإطمئنان.

ما ذا يعني هذا ؟
وعلامَ يدل ؟

محجوب عبد الدائم كان يخاف علي طه من داخله، ويخاف الاخشيدي من خارجه، كان علي طه شبحاً معنويِّاً يرعبه من الداخل، فيم كان الاخشيدي شبحاً ماديِّاً يخيفه، وما ذلك إلا للفارق النوعي بين الرجلين، فهناك المعنى والضمير، وهنا القوة الغاشمة والإفتضاح الاخلاقي والخيانة، وكان محجوب ممزّقاً بين هذه الشبحين المخيفين، كان يحقد على علي طه لانّه الدليل على تفاهته وسقوطه، فيما يحقد على الا خشيدي لانّه عارف بسر إفتضاحه، ولأنّه يهدده بالقوة الغاشمة.
لم يعدم محجوب ا لشوق الى حياة أخرى، ذات وجه اخر، لم يعدم التطلّع الى حياة كريمة، تشرق كأمنية مثل البرق، ولكن سرعان ما تختفي وينتهي كل شي، فهل هو قدر ؟ أم هي عواقب الاستسلام إلى هوان النفس ورخصها رغم ان هناك فرصة ا لخلاص ؟

ما السبب ؟
فيما كان الرفاق ا لثلاثة ( علي طه، أحمد بدير، مأمون رضوان ) يستعدون لأصدار مجلة النور الناقدة، كان هناك نقاش طويل عن الاسباب الكامنة وراء هذه السلوك المشين لمحجوب، كيف يخون صديقه علي طه ؟ كيف يمارس هذه الوظيفة القذرة ؟
يطرح أحمد بدير تاريخ محجوب الاستهتاري ( طز ) ولكن ينبري مأمون ليقول ( إذا تزعزع إيمان الإنسان بالله غدا صيداً سهلاً لكل شر ) ــ ص 208 ــ وفي قبال هذا التعليل ينبري علي طه ليقول ( أسمح لي أن أحتجّ على هذا الاتهام )، فيعلّق مأمون مستدركا ( أنت لك إيمانك الخاص وإن كنت أراه دون الكفاية ) ــ ص 208 ــ
ولم يبين محفوظ رأيه، تركه للقاري، وتلك من مناطق الفراغ التي ينبغي على القارئ ان يملأه.
ولكن بطولة نجيب محفوظ متهاوية أو مترددة أو تنتهي الى فراغ في اكثر الاحيان، تُرى اين وصل مأمون ؟ وإلى أين وصل علي طه ؟
لم يكن مأمون قوّة فاعلة في المجتمع رغم إيمانه العميق بالاسلام، لانّه شبه منزو، ولم يكن علي طه قوّة فاعلة في المجتمع أيضا، رغم إشتراكيته العملاقة، إشتراكيته الخيّرة، لانه رومانس حالم، قليل التأمل.
السويد دائرة المنفى الطوعي / القهري.
&