مضت عشرة ايام على الشهر الفضيل ، ومضت معها عشر حلقات من المسلسلات الرمضانية ، منها المسلسلات التاريخية التي أعشقها وأتابعها كل عام في هذا الموسم المزدحم بالأعمال الدرامية . أشغلني هذا العام مسلسلان هما ( هارون الرشيد ) و ( المهلب بن أبي صفرة ). لكن من خلال متابعة الحلقات العشر الأولى للمسلسلين وهما بالمناسبة إنتاج سوري ، أذهلني هذا الكم الهائل من التزييف للتاريخ والتجني عليه بهدف توظيف الدراما لمآرب غيرخدمة التاريخ وكشف حقائقه ، وهو تاريخ بالأصل مشوه ومكتوب من قبل أقلام مأجورة بالدرهم والدينار . للأسف هناك بعض المخرجين ومؤلفي المسلسلات التاريخية في هذا العصر انضموا الى ذلك الرهط بتقديمهم تاريخا مزيفا يريدون من وراء أعمالهم كسب أموال اعلانات البيبسي كولا ومزيلات الشعر والمقرمشات .

ما يرويه لنا هؤلاء ، لايمت الى التاريخ بصلة ولو بعيدة ، فالمبالغة السمجة هي الطاغية على الكثير من المسلسلات التاريخية وخاصة التي تتحدث عن فترة أو حدث من احداث التاريخ الاسلامي ، فكتاب الدراما وقبلهم كتاب سيناريوهات الافلام التي تعرف بالاسلامية ، أو التي تتحدث عن احداثشهدتها العصور السالفة ، نجد مثلا أن المخرجين يأتون بأقبح الممثلين بوجوه مجعدة ليمثلوا دور الكفار ، في حين يختارون الوجوه الجميلة الصافية ليمثلوا دور الصحابة وقادة الاسلام ؟!. فتجد في بداية الفلم أو المسلسل أن الممثل الذي يؤدي دور الكافر يزأر وينهق كالحمار وهو منفوش الشعر يرتدي ملابس سوداء ويسيل اللعاب من فمه ، ويتحول بعد اشهار اسلامه بقدرة قادر الى وجه بديع بملابس بيضاء وكأنه ملاك نازل من السماء ، يتحدث بصوت خفيض خاشع تهتز لنبراته الابدان؟! .

وترى في الكثير من المسلسلات الدينية المصرية تعظيما مبالغا جدا لشخصيات لاتستحق التعظيم ، فترى كل الخلفاء الأمويين والعباسين قاطبة أمراء للمؤمنين حقا وخلفاء الله على الأرض ، يقراؤون القرآن، يقومون الليل ويصومون دهرا ، في حين التاريخ يروي لنا الكثير من موبقاتهم ومخالفاتهم لشرع الله ، ويكشف لنا بأن معظم هؤلاء كانوا من أصحاب اللهو والشرب يطربون للغلمان والجواري ، بل فيهم من أمر بقصف الكعبة ومنهم من مزق القرآن ، ومن شرب الخمر فوق الكعبة ، وفيهم أمير مؤمنين لوطي ، وآخر يمتلك الآلاف من الجواري ، ولكن كاتب المسلسل أو السيناريو يظهر لنا هؤلاء وكأنهم فعلا ملائكة أرسلهم الله لهدى المسلمين وحفظ دينه !.

يبدو أن هذه العادة إنتقلت الى كتاب الدراما السورية الذين كنت أحسبهم أكثر جرأة على كشف حقائق التاريخ ، ولكن ظهر لي بأن هؤلاء لايختلفون عن غيرهم، وأن هدفهم هو الكسب والمتاجرة على قاعدة ( الجمهور عايز كدة ) ، وإلا بماذا نفسر مرور عشر حلقات من مسلسل ( المهلب بن أبي صفرة ) وكلهاتتحدث عن عشق الجارية رباب لوالد المهلب ، ثم تأتي ابنتها لتعشق المهلب . لم نفهم من الحلقات العشر الأولى غير الصراع المرير الدائر بين الجارية رباب وزوجة ظالم لكسب قلبه ، ثم تأتي ميمونة ابنة الجارية لتتصارع مع زوجة المهلب على كسب قلبه أيضا !!. ولا أدري من أين جاء صناع هذا المسلسل بآلة العود في سنة ثلاثين للهجرة تضربها الجاريات!. كان يفترض على هؤلاء أن يطلقوا عليه اسم ( الحب المستحيل ) أو أي اسم آخر يدل على حب فاشل أو خاسر بدل إختيار اسم المهلب بن أبي الصفرة .

أما مسلسل هارون الرشيد فقد رأينا فيها أعجب من ذلك ، حين أرانا المخرج مغنية في عصر هارون الرشيد تقف مثل أم كلثوم ، وورائها تخت موسيقى كامل ماعدا آلة الجيتار الكهربائي التي أعتقد بأن سيادة المخرج قد نسي حتما وضعها ضمن الجوقة الموسيقية . بل أننا رأينا ملحنا مثل السنباطي وبليغ حمدي يجري بروفات مع المغنية ويدربها على كيفية أداء آخر ألحانه أمام أمام الرشيد !.

ولم نقرأ في بطون كتب التاريخ أن جعفرا البرمكي تعرض الى تسميم خاطيء بيد جارية دفعها يحيى البرمكي لاغتيال الرشيد ، والخطأ الأكبر في هذا الأمر هو، اننا حتى لو صدقنا أن يحيى البرمكي حاول اغتيال الرشيد وهذا اختلاق لشيء لم يقع أصلا ، فإن غاية البرمكي من اغتيال الرشيد كانت لاجل تنصيب المأمون خليفة بعد الرشيد لكي ينعم البرامكة بمباهج السلطة خصوصا وأن المأمون كان تحت سيطرتهم ، وفات المخرج أن الرشيد كان قد عقد البيعة لولده الأمين ، وبذلك فإنه حتى لو نجحت مؤامرة يحيى لاغتيال الرشيد فإن الخلافة كانت ستؤول الى الأمين وليس المأمون ، فما الدفاع اذن من وراء اغتيال الرشيد ؟ . يبدو أن كاتب السيناريو ومخرج المسلسل أرادا زيادة التشويق والاثارة باختلاق مثل هذه الاكاذيب والافتراء على التاريخ لمجرد تطويل المسلسل الى ثلاثين حلقة ؟!..

في الختام أقول ألا تكفينا الأقلام المأجورة لسلاطين الجور والظلم التي شوهت تاريخنا وتراثنا لكي يأتي اليوم مخرجون يشوهونه أكثر بإختلاق أكاذيب وافتراءات ، حتى التاريخ بدا هناك من يستسهل التجاوز عليه وتزييفه .