&

&بعد ان سلم مفتاحها
&جاء الملك العربي أبو عبد لله بن أبي الحسن،
&إلى المرتفع الصخري الأخير،
&الذي يطل على مملكته: غرناطة.
وفيما كان بصره يجول للمرة الأخيرة في مشهد افول ملكه ،
&أجهش بالبكاء ،
&فقالت له والدته: "حسناً تفعل،
&ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال!"

...

والمكان هذا الذي شهد نظرة الوداع الأخيرة على غرناطة،
&عرف باسم "زفرة العربي الأخيرة".


١

لا ابالغ ان حكمت ان&تداعيات احداث الاندلس بكل مرها وحلوها ثم نهايتها الفاجعة اسست الى بنية وجدانية مؤلمة رسخت بعمق في قلب وعقل الانسان العربي، وهو امر اصبح بديهة لا يحتاج المرء الى كثير من العناء للتعرف على اثارها. وفي عين الوقت، لم تتمكن الخمسمائة سنة التي مرت منذ وقت تلك النهاية، من محو البنية الثقافية والوجدانية العربية حتى من شخصية الاسباني كما هو حال الشخصية العربية. فقبل خمسمائة سنة تقريبا خسر ملوك الطوائف في الاندلس ملكهم، الامر الذي تمخض فيما بعد عن حنين تجذر فينا يدعونا الى مقارنة ما يحدث اليوم بغد. فمازال الزمن الاندلسي بكل بهائه وبريقه، يراود المخيلة العربية رغم بحار الدم والنكبات التي حدثت.
خمسمائة سنة لم تتمكن من طمس اثار حنين يتملكنا حين نتذكر الاندلس وما جرى فيها من احداث لعل اهمها احداث دول الطوائف في القرن الخامس الهجري والتي تخللتها سلسلة طويلة من الحروب الصغيرة دامت ما يقارب القرن من الزمان بين دويلات عديدة وصل عددها الى اكثر من اثنين وعشرين دويلة عاشت في حالة تشظي لم تكن لها سابقة في العهود الاسلامية القديمة، الامر الذي ادى الى سقوط بعض هذه الدول بأيدي اياد اجنبية، فبدأت الدولة الأندلسية تتراوح بين القوة والضعف حتى آلت بها الاحداث إلى مرحلة السقوط النهائي في بداية القرن الخامس عشر، وهي مرحلة الخسارة الكبرى والتي انتهت بسقوط غرناطة، آخر حصون المسلمين عام 1492 ميلادي، وقد تسلمها الملك فرديناندو من حاكمها أبو عبد لله بن أبي الحسن. سقطت الاندلس لتبدآ بعد ذلك فترة محاكم التفتيش والتعذيب والاجبار على التنصر والغاء الكثير من اثار الثقافة العربية والاسلامية، ومرت خمسمائة سنة منذ ذلك الحين.

والسؤال الان: هل اننا نمر بمرحلة مشابهه الى حد ما لتلك الحقبة من الزمن ؟
خصوصا وانها تحمل في طياتها ضعف وخصومات بين الحكام والملوك العرب الذين انشغلوا بمتعهم الدنيوية وخلافاتهم الداخلية وصراعاتهم بين بعضهم البعض حتى غشيت ابصارهم عن رؤية المتربصين بهم منشغلين حتى عن تحصين بلادهم ضد عدوهم الذي بدأ يزداد قوة يوما بعد يوم، وهم غافلون نيام، اما عدوهم فهو يزيد من قوته مستغلا ضعفهم وحروبهم وصراعاتهم. شهدت الاندلس حضارة عظيمة قلت مثيلاتها في التاريخ. فلم تقتصر العمارة الاسلامية مثلا فى الأندلس على المساجد التي لاتزال آثارها حاضرة. فقد ملء المسلمون َ الأندلس بالابنية الجميلة : القصور، الحدائق، الجسور، الاسوار، النافورات، وحتى المدن باكملها. وفى الفلسفة الأسلامية، ظهر كبار من الفلاسفة : ابنِ طفيل، ابن رشد، وفى العلوم : ابن البيطار، موسى بنِ ميمون.. وفي التصوف الإسلامي : ابن سبعين، ابن عربي.واضافة الى ما سبق فقد جاء علماء أندلسيين من الأندلس إلى حواضر العالم الإسلامي الاخرى، فكان لهم تأثيرا عظيما ومنهم الشيخ الأكبر : محيي الدين بن عربي الذى تعلم وعاش بالأندلس - والتقى هناك بابن رشد - ثم برزت رؤاه الصوفية فى مصر وسوريا والجزيرة العربية، وهو من أشهر صوفيَّةِ الإسلام واهمهم.
وفى الفلسفة والطبِّ، نجد موسى بن ميمون ذي الاهمية الخاصة، والذي صار طبيبا خاصا لصلاح الدين الأيوبىِّ، وفى الدين وفقهه نجد ابنُ حَزْمٍ وعدا اهماماته الدينية سنقرآ له كتبا فى الحب وهو طوق الحمامة، والموشحات التي هي ابداْع اندلسي خالص، وستجد في مكتبة دير الاسكوريال بقايا المخطوطات العربية وهي بالمئات والتي تم الاحتفاظ بها كشواهد لعظمة هذا التراث الكبير. لن تسعفنا صفحات عديدة في الاحاطة بحضارة الاندلس، حتى لو اقتضى الامر الاختصار، فوهج هذه الحضارة امتد من زمن شروقها المبكر على افق الحياة الاسلامية ولحد يومنا هذا.
فمنذ دخول طارق بن زياد وموسى بن النصير في سنة ٧١١ ميلادية وهو الدخول الذي تراوح بين تسمية احتلال وفتح تبعا لوجهتي النظر الغربية والاسلامية ولحد اليوم ما خفت هذا الوهج ولا طواه النسيان. لكننا هنا لسنا بمعرض التصدي للرؤيتين ( فتح ام احتلال ) بقدر اهتمامنا بالنتائج التي برزت في العديد من الشواهد المادية المؤشرة الى حضارة تزاوجت فيها هويتين هما الاوربية والعربية وهو الامر الاكثر اهمية في مضمار البحث البصري والمقترح الابداعي الذي يقدمه لنا نزار يحيى.

٢
سبق لنزار يحيى ان قرأ رواية ( المخطوط القرمزي ) لانتونيو غالا، حيث يؤكد الكاتب على الجوانب المشرقة في تاريخ المسلمين في الاندلس، وهي على شكل يوميات لاخر ملوكها، ووصف للعصر الذهبي حيث تعايش الناس بمختلف اديانهم بشكل لم يتكرر بعد، وهو من احدى الروافد التي دعمت ومدت تجربته الحالية في هذا المعرض.
لا يريد نزار يحيى ان يقدم لنا الاندلس كذريعة لصناعة صوره بطريقة تقريرية توضيحية، ولا هو بالمشغول بفكرة الحكم على مرحلة تاريخية، تداعت فيها وتوافقت احوال تمخضت عن رسائل، تحكم فيها وجدان يستشعر الخسارة او عظم الاخطاء وفداحتها، فهذه الرسالة وصلت، وتفاقم الشعور بها في الزمن الحاضر، بقدر محاولته الى جمع كل ما يتعلق بمفردات الهاجس الصعب الذي يتملكنا حين نطالع مفردات المشهد الاندلسي، بكل ما يؤثثه من رموز سايكولوجية اسس لها وجدانه ووجداننا، داخل مجموعة من الايقونات اختارها نزار لنا والتقطها من مشهد عظيم الحجم، لكي تتخذ على عاتقها مهمة بث ليس من شأنها الخوض في معمعة الرثاء الذاتي او النقد، ولا حتى جلد الذات، بقدر ماهي مهمة بث منحازة الى الارتحال في دهاليز النفس الانسانية وهي تقف على منعطف النجاح او الخيبة في زمانيها الافل والمستقبل.

هي اذن ايقونات مثل الصورة الشخصية لعبد الله بن ابي الحسن، الحصان وقناع الحصان، المرأة وجسدها وشعرها ومرآتها، الحمامة، الشباك، العباءة، الزخرفة والمجوهرة والنافورة وجذوة النار ومفتاح تسليم غرناطة وغيرها، وهي الكفيلة بتشييد المشهد بصري المقترح من قبل الفنان، نلم بتفاصيله لتفعيل مخيلة سوف تتفاعل فيها هذه العناصر ضمن كيميائية ينداح فيها ويتسع مشهد داخلي وجداني زاخر بالمعطيات الحلمية التي لن تبوح فيه بأمر جلي زاخر بالتفاصيل كما يتراءى للبعض، بالقدر الذي تكتفي فيه بالايماءة او الاشارة، فهي اعمال تهمس بدلا من ان تثرثر او تصرخ، ساكنة ثابتة اكثر من متحركة وصاخبة، مشغولة ومتمحورة حول ذاتها، الى الحد الذي مكنها من ان ترسخ طابع التكوين المركزي المنغلق على نفسه، واهملت المفتوح المتمدد خارج حواشي اللوحة، فتقربت بهذه الصفة من الشكل المتمحور حول ذاته، حيث الطابع المركزي المدعوم بمبدأ التقابل، يقوي الاحساس بالوحدة والتجانس والوئام ضد التعدد والاختلاف والتضاد
وسيتناول نزار مفردة الحصان في اكثر من معالجة درامية حيث يكرر صورته منفردا في بناء تكويني هرمي فيبدأ من الكبير وينتهي بالصغير وعلى ضهره فارس في قمة هذا التراكم الهرمي، وكأن هذا العمل صنوا لتقنية حكايات الف ليلة وليلة المعروفة بتعدد القصص في القصة الواحدة ( حكاية داخل حكاية داخل حكاية اخرى وهكذا دواليك ) والمعروف ان الاندلس هي التي انتشرت منها حكايات الف ليلة وليلة الى العالم الغربي، وترجمت الى لغاته، وفي ضمن هذه المحاولة سوف يتخذ جسد الحصان شكل دمية خشبية مرسومة. وكما هو الحال مع اغلب صور هذا المعرض، سيلتزم نزار بنمط اسلوبي يقترن الى درجة قوية من الاسلوب الفارسي والتركي الذي يتحرز من المبالغة في التعبير الثلاثي الابعاد ( التعبير عن وهم البعد الثالث ).
وفي حالة اخرى سيتحول الحصان الى كائن مركب ( رأس حصان بجسم انسان ) وهي الحالة المعكوسة لهيئة البراق حيث الرأس البشري يرتبط بالجسم الحيواني. وسيعمد في حال اخر للحصان الى عرضه مقطع الاوصال وفي تصعيد درامي كبير.
يقول نزار في مفردة الحصان: الحصان، في عملي يبدو كدمية مصنوعة من مادة الخشب او المعدن، او مواد مختلفة كما نراها في محلات لعب الاطفال. تظهر الدمية في لوحاتي بحالة قتال، وهو ما اوكد عليه في السخرية من الحرب، وزج الابرياء فيها من اجل شهوة الملوك في النصر والسلطة. الحصان الدمية كدال على الالة، والجندي.
وفي موضوع استخدام الزخرفة كعنصر من عناصر عمله يقرر نزار : الزخارف الاندلسية، على الرغم من جمالها، الا انني لم اركز عليها لكي لا ابتعد عن الانسجام مع طريقة تفكيري بحل المشكلات، حيث اذهب باحثا عن اجوبة وجودية تختص بمعنى ان يعيش الانسان انسانيته دون ان يلجأ الى الصراع القائم على شرط نفي الاخر او قتله، واحاول التركيز قدر الامكان على وصف الاشياء برمزية واضحة.
اذن لم يشأ نزار ان تكون مدركاته الشكلانية في عمله الفني مزينة بالطابع الديكوري المتضمن للزخرفة، الامر الذي يجده ليس اكثر من بهرجة او ديكور لا فعالية مهمة له، وهو في معمعة التركيز على الاسئلة الوجودية المتعلقة بحالة الحرب حيث القلق مابين خيار الموت او الحياة، وهو القلق الذي يأبى ان يتم تجهيزه بأي صيغة ديكورية او تزيينية. ولكنه مع ذلك، سوف يرسم ربما دون ان ينتبه صورا شخصية لنساء اندلسيات تتخذ مفردات اجسامهن شكلا زخرفيا قائما على مبدأ التقابل، وسيعتني كثيرا بمفردات تنبعث منها نفحات من الشهوانية والحسية المفعمة بالطابع السحري الحلمي.
ولكنه لن يقبل بعرض المشهد الدرامي لتداعيات أحداث الاندلس بصيغة بانورامية، فبدلا من ذلك عرض علينا ( دوالا او رموزا محكومة بالطابع التقليلي ) وقد اكتفى بجعل المشهد مختزلا ومقتصرا على عدد قليل من المفردات المعدودة والواضحة دون مؤاربة في الكشف عن تفاصيلها، فالطائر هو هو بكامل حلته وشكله التشريحي، وهكذا الحال مع الحصان ووجوه الشخوص والاكسسوارات، كل هذا في مناخ حلمي يتضمن الكابوس والمتعة في ان واحد.
لم التق بنزار كحضور جسدي لحد لحظة كتابة هذا النص !
الا ان حضوره الصوتي - من خلال الاتصال التلفوني به فقط - يشي بروحه الرقيقة التي تتميز بالحساسية الانسانية التواقة الى البوح بآلامها الانسانية ومعاناتها الإبداعية. وهي روح متوجهة مرارا الى اجتراح المفردات الأكثر تعبيرا عن هواجس وجدانه الذي أسست له معاناته كعراقي طوقته الآلام والذكريات الاليمة لحياة لم تكن سهلة ابدا.
فهو كأغلب العراقيين تتنازعه قطبية الشعور بالخراب مقابل قطبية التوق الى البناء والتأسيس بالصيغ الإبداعية المتاحة، وهو الفنان الذكي كما عرفته من أعماله التي ظلت مسكونة باختزالية المفردات ومفاهيمية التقليل وآلياته التي اختبرها مرارا في أعماله الفنية.
ففي الوقت الذي وضع فيه الرسام الإسباني فيلاسكيز شيئا عظيما من روح عصره (الباروك ) في لوحته الملغزة ( الأميرة ووصيفاتها )
وكما كان ولا يزال يبدو لنا، فأنّ أحد الاسباب التي تقف وراء اهمية هذه اللوحة يعود إلى طريقة عرضها لموضوعها الذي ما يزال يشكل سرا ومادة صعبة للقراءة والتفسير.
هناك بعض الاسئلة المهمة والتي تداولها مؤرخو الفن حول هذه اللوحة، فما الذي دفع فيلاسكيز الى ان يرسم الاميرة بتلك الطريقة الغير التقليدية ( جالسة في مرسمه }،وما الذي دفعه الى تلك المناورة مع الحقيقي والوهمي والمفترض في محمول اللوحة ومفرداتها ؟
ثمّ من من شخوص اللوحة كان محط اهتمامه على وجه التحديد؟ هل كان يرسم الاميرة ام نفسه أم الملك والملكة المنعكسة صورتهما في المرآة المعلّقة على الحائط؟
وهل أراد فيلاسكيز أن يشير إلى حضور متخيل او وهمي للأفراد مقابل حضورهم المادي ؟
ربما اسست لوحة ( الأميرة ووصيفاتها ) للرسام الاسباني دييغو فيلاسكيز الى مرجعية مفاهيمية سيتبناها نزار في بعض اعماله فسنجد نفحة من ذات اللعبة القائمة على الكشف عن معنى تعدد الحقائق واختلافها وعبثية الاحتكام الى حقيقة واحدة وذلك من خلال استخدامه مفردة المرآة التي تشي في احدى لوحاته بوجود الملك واقفا بيننا وبين جسد المرأة المغطى بشعرها الكثيف ( صورة وجه الملك منعكسة في المرآة ) حيث تكشف لنا المرآة اننا لسنا وحدنا كمشاهدين في مواجهة تلك المرأة المغرية والمثيرة للشهوة بل يقف بيننا وبينها الملك المفترض ذو الحضور الذهني وهو ينظر الى تلك المرأة السافرة والكاشفة عن شعرها الكثيف الذي يتخذ شكل حركة ماء الشلال او ينابيع الماء وهو ربما من اكثر مغريات جسد المرأة اثارة بالنسبة للرجل العربي ! وهكذا سيتعمد نزار الى المبالغة في طول الشعر وكثافته وكأنه بهذا الفعل يستعيد تقاليد نحت جسد الالهة الام والذي يتوافر بشكل واضح للعيان على سمة المبالغة في نحت اجزاء الجسم الاكثر تعلقا بفكرة الخصوبة والتناسل.

عالجت لوحة نزار ثلاث احوال للحضور :

المرأة المرسومة الحاضرة فعليا داخل اللوحة.

الملك ذو الحضور الصوري داخل المرآة.
الملك ذو الحضور الذهني المفترض، اي انه بيننا وبين المرأة المرسومة رغم اننا لا ن
يحاول نزار ان يعيد تشكيل المادة التاريخية من جهة حضورها المتنوع ( شواهد مادية، صور، لوحات، وثائق ونصوص.. ألخ ) بحسب متطلبات عمله الفني وما تقترحه التجربة العملية ذاتها، فكما اسلفت، هو ليس معنيا بالنمط التقريري الوصفي للحوادث التاريخية وتداعيتها بالقدر الذي يحاول فيه التماهي مع بعض الرموز والمفردات التي تم له انتقائها بحرص واضح واناة من اجل تأسيس بنية شكلية وتكوينية محكمة الصنع وقائمة في اغلب الحالات على مبدأ التقابل والمركزية في التكوين والتحرز من استخدام التكوينات المفتوحة او التكوينات الحيوية ( الديناميكية ).
فهو لا ينجز نموذجه الخاص للوحة ( المعركة ) وهي احدى كبريات اعماله في هذا المعرض، على اسس استعادة او استلهام العنصر الديناميكي الحيوي المبالغ به في اغلب صور المعارك لرسامين اخرين، بل على العكس، سوف يلجأ الى التكوين الاقرب الى السكوني الهرمي القائم على تكرار وحدات متشابهة من ناحية الحجم والهيئة وهي مختلفة فقط من ناحية التكوين والتموضع والاتجاه الحركي.
ولن تخطئ عين المتلقي الحاذق وجود رؤية تهكمية ساخرة وعبثية دادائية في تصوير المشهد حيث تتحول الاحصنة الى دمى اشبه بدمى الحلوى الملونة التي اشتهرت في وطن نزار الام وهو العراق، وفي عين الوقت ستكون قريبة جدا من لعبة ركوب الحصان المكونة من الرأس مرتبطا بعصا كما هو الحال مع اوربا وبقية دول العالم. وعن لوحة " تسليم غرناطة " لفرانسيسكو بارديا يكتب نزار مايلي:
" لوحة "تسليم غرناطة" لفرانسيسكو بارديا التي رسمها في العام 1882، تصور تسليم أبي عبدالله الصغير مفتاح المدينة لفرناندو وإيزابيلا. واضح في المشهد انكسار الجيش المسلم امام غرور وفرح الجيش المسيحي، وواضح ايضا ان هذه اللوحة هي نتيج وجهة نظر المنتصر، ولكنها كمصدر للتأمل ستقدم لي قيم جديدة اعتمدها في عملي، ومثال ذلك، التركيز على شكل ووضعية الخيول، وخاصة الحصان الذي يركب على ضهره ابو عبد الله، يبدوا برقبة محنية الى الاسفل وفيها بالنسبة لي من التعبير عن الخسارة اكثر من مما هو في وجه ابو عبد الله، وبالمقابل الفرس التي تحمل اليزابيث مرفوعة الراس، ومزينة بملابس النصر".
ولعل انحناء رأس الحصان المتكرر في عمل نزار ( المعركة ) هو ما استعاره بشكل واضح ومركز من لوحة فرانسيسكو بارديا.
ان ما يلفت النظر في اعمال نزار هو عدم استخدامه للزخارف الاندلسية بالرغم من جمالها كما يؤكد هو، وهو اجراء اتخذه تحرزا من الابتعاد عن طريقة تفكير محدد بحل المشكلات الخاصة باللوحة، حيث التركيز قدر الامكان على عرض حيثيات المناخ التاريخي للاندلس من خلال رمزية عالية، وبمواضيع ذات طابع سوريالي، مع الحفاظ على قيمة العلاقات البريئة بين عناصر اللوحة، لذلك تبدوا النتائج مثل " الرسوم الساذجة " على حد وصف نزار نفسه، وهو ما يتلائم مع بحثه كما سينوه فيما بعد.
فالاعمال منفذة بتقنية التخطيط مع التلوين الزيتي على القماش، وفي التخطيط تبقى الطاقة التعبيرية الكرافيكية المباشرة مكرسة وذات اهمية قصوى، وتبدو المفردات في صيغة تقربها من الطابع الايقوني الديني المقدس حيث التبجيل الواضح للشخصية ووضعها في مركز الصورة بشكل متكرر، اضافة الى صلتها الكبيرة ببعض المعالجات العائدة الى فترة عصر النهضة الايطالية من جهة الاعلاء من قيمة الخط الخارجي في تحديد حدود المفردة المرسومة وفي ابراز تفاصيل الاجزاء المحاطة بالخط الخارجي، وهناك ايضا العديد من ملامح الرسم الفارسي والتركي، حيث المؤاربة في التعبير عن وهم البعد الثالث في الصورة، فلا هي بالاعمال المسطحة ثنائية الابعاد، ولا هي متوفرة على وهم البعد الثالث بالشكل الصريح والكامل، ففي اعمال نزار مواجهة صريحة مابين الواضح والمبهم، الخاص والعام، السراني والعلني، البوح والكتم واخيرا الهمس والجهر، والصلة بين عين المتلقي وسطوح اعمال نزار تبقى محكومة بما يتوفر عليه المتلقي من حساسية تجاه تقنية رسم تعمدت ان تصيغ الخلفيات بالوان احادية، وذلك لكي لا تبدوا الشخصيات المرسومة ضمن فضاء واقعي، كما يحصل في المنظور العادي، ربما ستكون اقرب الى ما يعرف بوسائل الايضاح او الايقونات الدينية، الامر الذي يشي بالتأكيد الى حذر نزار من الانقياد الى الصورة الواقعية ومتطلباتها. ان احتكاك اقلامه الملونة بسطح القماشة والامعان في عملية الاحتكاك، ستنتج حالة جمالية وحساسية سطح مميزة تذكر بملمس سطح مادة الخشب او البرونز، وحتى الذهاب ابعد والاحساس كما لو ان هذا الرسم تم بجلد او مادة الحصان نفسه في حالة رسم الحصان مثلا !
يتعمد نزار الى مد صوره بسمات الطابع التهكمي الساخر او الحلمي الخيالي الصادم، حيث الاشكال تتقابل او تتواشج في كلية او مناخ يدعم عملية ايحائها بمناخ حلمي، يجعل صلاتها غير متوقعه ومثيرة للدهشة لدى المتلقي، حيث لا ايمان بالثوابت فيما يخص التواشجات الطبيعية او العادية المألوفة، ان اللوحة لديه تأخذ ما تحتاجه بالضبط ضمن مناخها وفضائها الخاص، وما يشترطه ضمن حيزه المفتوح الى شتى امكانيات الخيال، وهذا ما يجعل نزار متجددا في كل لحظة والية عمل داخل فضاء الرسم.
يعتمد نزار على المصادر المتاحة مسبقا: مصادر بصرية بكل ما تحتويه من ثراء مفرداتي ونصوص مقروءة من شعر وتوثيق ووصف لحوادث، لكنه لا يتورع من ان يخضعها الى قوانين اللوحة الانية بما تتضمنه هذه القوانين من إعادة بناء او صياغة جديدة للمفردة او ايجاد علاقة جديدة بين الاشكال والعناصر ينزهها من هوية المصدر المعطاة، كما هو الامر مع الية المناورة مع اللغة في صياغاتها الشعرية من تقديم وتأخير او تلاعبا مع المعنى.

٣
غالبية اعمال نزار في هذا المعرض ذات طابع ايقوني يعتني بتقديس المفردة واضفاء طابع الاهمية القصوى عليها، وينشغل بمعنى التبجيل والمركزية التكوينية التي تمنحها ثقلا اعتباريا، يزيد من وقع الروح التعبيرية المبثوثة من خلالها. حيث ترتقي بالحياة الروحية للناظر إليها وتنقله من واقعية المعاناة الأرضية الى القيم والمعاني الروحية، وتتحول شخصية المفردة المرسومة من مقامها العادي ( الواقعي ) الى مقام استثنائي ( متعالي )، وكأن هذا المقام يطل علينا من جهة عالم اخر، مفارق، ربما يصح نعته بالميتافيزيقي او ما فوق الواقعي !
لم تكن رسوم نزار الاولى في التسعينات منشغلة بالاثر العاطفي او الحكائي الواضح المعالم، كما هو الحال في هذا المعرض، فقد كانت تتمحور حول المفردات ذات الاشكال الصافية، التي لا تحيلنا الى قراءة مرتبطة بحكاية او الى احالة واضحة لواقعة ما، كما هو الحال مع معرضه الحالي، وايضا ما سبقه من محاولات اخرى في بعض من معارضه الشخصية الاخيرة في غالري البارح في البحرين، ومعرضه بعنوان ( انا يوسف يا ابي ) ومعرضه المعنون ب ( ماء الورد ) في غالري كريم، لقد انشغل نزار منذ مطلع الالفية الثانية بالبحث عن محمولات مفاهيمية تقف وراء مبحثه في الرسم وجرب تقنية الفوتو ارت، لكنه في هذ المعرض، طفق يجرب الرسم من اكثر مناحيه حساسية وعمقا. هذا المعرض نتيجة لبحث جاد وقيم تعبيرية اراد لها الفنان ان تصل بأفضل صورة ممكنة، تحية واحترام له لتجربته المميزة.
&

السويد
&