بقلم عفت بركات 
 
 
عن دار روافد صدرت المجموعة الثالثة للقاصة والروائية عبير درويش تحت عنوان " حدود الكادر " بعد صدور مجموعتيها زهرة اللانتانا وتعاريج.والمجموعة تضم احدي وعشرون قصة قصيرة. 
 
قصص تلك المجموعة تنتمي إلى القصص السيكولوجية التي تهدف إلى تصوير الإنسان وتعكس أفكاره الداخلية وترصد المكنون الداخلي لدي أبطالها إلا أنها اتسمت بلغة شاعرية متوهجة طوال الوقت ، لعبيردرويش أسلوب خاص تستلهمه من حياة الشخوص داخل العمل بسلاسةٍ لا تشعر القارئ بالغرابة حين القراءة لأنها سريعا ما تدخله دهاليز الحكاية كشاهدٍ معها على الحدث غير أن الأنا لديها طاغية على القصص لرغبة مُلحةٍ في البوح.
جاء العنوان لافتا وموحيا للعديد من الدلالات البصرية كمعظم عناوين المجموعة مثل " الظل المنفصل – مفتاح – زحام – السوق – كوبان من الشاي – النعل – حمى – أول أيام العام " وبعضها يوحي بدلالات نفسية متسمًا بالغموض اللفظي أيضا كــ (مكرر – الحجل في البحر – تجليات حديث عابر – أسئلة موقوفة – الحلم الحجري -) بينما حملت المجموعة عنوان القصة الأخيرة فيها (داخل الكادر – خارج الكادر) المتسمة بالشكل السينمائي في الكتابة ظاهريا فقط ومن الداخل ما هى إلا مشاعر متأججة تدور في فلك الأنا الكاتبة والآخر الذي يتجسد لنا من زاوية رؤيتها الخاصة ووصفها له ، وشخوص أخرى على هامش الحياة وضعتها الكاتبة داخل حدود الكادر حيث رأت أنهم جميعا يشتركون في نفس السمات رغم اختلاف الزمان والمكان.
واتفقت القصتين الأولى " بعلم الوصول " والأخيرة في نفس المضمون فكلاهما رسائل ذاتية جدا ، تتعمد كشف الذات ومهاجمتها. لكن هاتين القصتين بالتحديد صالحتين كنواة عمل روائي .
لعبير عين ثاقبة ماهرة في رصد التفاصيل الصغيرة لإعادة طرحها في صور طازجة ومدهشة أحيانا لكنها تميل إلى الصور المركبة التي قد لا نراها إلا في الشعر ، كثير من الصور والمفردات تؤكد وقوعها تحت براثن الخوف من البوح المطلق - الذي تربينا عليه كجيل متفرد في التلذذ بالخوف - رغم جرأتها في التناول أحيانا فمفردة مثل " معقوصة" التي أطلقتها على الجدائل في قصتي " الحجل في البحر ، وضفيرة " تؤكد معاناة الذات القاصة من قيود لا مرئية للقارئ إذ لم تفصح عنها الكاتبة ، وكذلك استخدام الألوان في بعض القصص كاللون الأبيض والاحمر لدلالاتٍ عديدة داخل العمل.
والنصوص لديها مقطوعات نثرية رائقة تنتمي للرومانسية الحالمة لفظا وصياغة وتصويرا لذا فمن الممكن أن أصفها بأنه نزيف الذاكرة وشظايا الروح وانعكاساتها. كما أن القاصة عمدت إلى الإيجاز والكثافة التي تحمل في طياتها الكثير من المضامين والدلالات التي تثري القصة بالتفاصيل.وتثبت مدى براعتها في الحكي.
ففي قصة " حياة " سطعت فيها الحياة فجأة لشيخ أثقلته الذكريات وخرج ليزور قبر زوجته بعد غياب عنها ليجد الحياة تدب في حوش المدفن من خلال سيدة بسيطة تقيم بطفلتيها الصغيرتين فينهرها وطفلتيها أول الأمر ويصرخ في وجه حارس المدفن الذي أكد له أنهم بلا مأوى وسيرحلون ، ولكنه بعد أيامٍ ثلاث يميل إلى اختراق تلك الحياة التي أخذته من حالة الموات التي يحياها وحده ويقرر التقرب منهم ليحيا معهم لحظات المرح والسعادة التي يفتقدها في انسانية بسيطة ورائعة التناول وساخرة من الواقع الذي نحياه ونزيده تعقيدا. 
وفي قصة المفتاح التي رصدت فيها السيدة العجوز التي تحيا بمفردها وكل يوم تنزل إلى حوش العمارة المقيمة بها وتبحث عن مفتاح شقتها وهو مدلى برقبتها إلى أن تستدر عطف أحد السكان فيستضيفها مع أسرته حتى تعود ابنتها بالمفتاح كما تزعم العجوز في كل مرة .
ومن أكثر قصص المجموعة جمالا " كوبان من الشاى" قصة الشاب النمطي الذي دفعه جاره الشيخ إلى اختراق حدود الجهل والبحث عن المعرفة بلغة مثقف واعٍ لاستخدام مفرداته.
بعض قصص المجموعة تتكون من قصص متفرقة تجمعها حالة نفسية متقاربة مثل (تجليات حديث عابر) التي تتكون من (يوم – شرف – عدسة – غياب) فكل قصة داخل الحكاية مكتملة بذاتها لكنها في النهاية تجمعها حالة نفسية متشابهة وكذلك الأمر كما في قصتي (أسئلة موقوفة و أشياء). 
عبير درويش ليست مجرد ساردة للحدث والتفاصيل فحسب بل لديها القدرة على رسم المشاعر الداخلية لشخصياتها بدقة متناهية في كثير من قصص المجموعة.
استوفت " حدود الكادر " عَناصرها الفنية بقوة ، واستطاعت أن تنقلنا إلى عوالم كثيرة مختلفة الطقوس والمشاعر وعبرت بدقة عن كل الشخوص المتوهجة داخل العمل بقدرة عالية مستخدمة كل ما لديها من خبرات وطاقات إبداعية وأسلوبٍ رقيق. كما برعت في نسيج إحكام القصص برصد التفاصيل الدقيقة ووصفها بثراءٍ لغوى يميزها كما تنوعت الشخوص الحيوية داخل قصص المجموعة فلم تتشابه . 
وأخيرا توفرت في " حدود الكادر " مقومات العمل القصصي الجيد. تهانينا للقاصة عبير درويش وفي انتظار القادم من أعمالها.