&
منذ ان غنّت السيدة فيروز أغنيتها الشهيرة المسماة " دار السلام " لبغداد عام / 1960 لكاتبها الأستاذ الملحن المتجدد والشاعر الفصيح والزجّال الممتع &منصور الرحباني ومن تلحين الأخوين عاصي ومنصور رحباني والتي اذكر منها بعض ابياتها هنا :
دار السلام على الانسام ألحان ------ &يزفُّــها طائرٌ والصبح فـتّــانُ&
ياجنّة في الظلال السمر وارفة ------ نسيمها بالهوى العذريّ نديان&
حيـيت دجلة والأيام هانـئة ---- تغـفو وتصحو على شاطيـك أزمان&
في حينها ومنذ مطلع ستينات القرن الماضي ؛ كانت بغداد مازالت تئن من أوجاعها التي خلّفها لها انقلاب 14/ تموز / 1958 حيث الدماء لم تجفّ بعد على اسفلت الشوارع والجثث مازالت تنزف دما بريئا من خلال سحْلها في الأماكن العامة وما تلاها بعد ذلك من صراع بين اليسار الشيوعي والجماهير الملتفّة حوله وبين مؤيدي التمرّد الذي قاده الضابط عبد الوهاب الشواف وزمرته من العسكريتاريا في بداية ربيع العام / 1959والتفاف التيار القومي حوله تضامنا معه والمجازر التي حصلت وقتذاك في الموصل وكركوك مما يندى لها جبين الانسانية لبشاعتها&
ومهما حاول ساسة السلطة ممن سمّوا بالضباط الاحرار وقتذاك من إرضاء الرعية وتقديم الخدمات لهم وتوفير المساكن الشعبية للفقراء والخروج من حالة الجوع والفاقة التي عانى منها الناس ايام الملكية وتحرير الانسان العراقي الريفي من نير الاقطاع لكن الجرح ظل عميقا ينزّ دما كلما حركته ذكريات ايام الملكية الدستورية التي نعمَ فيها العراق بأجواء رحيبة من السلام والأمن مع ما فيها من حاجة وعوز لاننا باختصار شديد فتحنا بوابات جهنم على مصراعيها لهذا العراق الذي كان أمينا مسالما وادخلنا مريدي العنف ومثيري الفتن والقلاقل ليؤرجحونا يمنة ويسرة حتى &وقعنا في هوىً عميقة في قاعها أفاعي وعقارب القومية الشوفينية والحزبية الضيقة ووقفنا ضد ايّ تيار ليبرالي مؤيد لانظمة الحكم الاوروبية او الملكية الدستورية كنظام الحكم البريطاني مثلا ، والويل الويل لمن كان يصرّح بحبّه وتعلقه بايجابيات المدنية الديمقراطية والليبرالية وينشد دستورا يحترم حقوق الانسان فأنت في عداد المحبين للاستعمار ومغرق في العمالة للمستعمر وتستحق ان تشنق امام الملأ لتكون عبرة لغيرك من العملاء واذناب المستعمر وانك امبريالي النزعة وعدو للشعوب المناضلة وتقف بالضد من العروبة وهكذا بقيت هذه الشماعة والاتهامات الجاهزة حائلا دون ان تصبو النخبة الراقية المثقفة المدنية النزعة والنابذة للدكتاتورية ونزعة العسكريتاريا ترتجف هلعا من اي رد فعل يقوم به دعاة القومية او مما يطلق عليهم الشيوعيون اعداء الامبريالية والرأسمالية&
وكم حاولت تلك النخبة فضح قناعات القومية والاشتراكية الطيّعة للاتحاد السوفياتي السابق &والتخلص والنهوض من حراب العسكريتاريا وانقلاباتها لكنها في كل بضع سنين &تُوقعنا مجددا فيها فتتلقى اجسادهم لسعات السموم ولدغات الموت والاتهامات الجاهزة المسلفنة بعناية / عمالة وامبريالية وخيانات ومكائد ---- الخ&
بغداد كانت دار الحرب منذ ان تجهّم يوم 14/ تموز /1958 بطلعته الدامية ونعجب كيف غنّت فيروز وأسمت بغداد دار السلام وبرك الدماء منتشرة في كلّ الانحاء لم تتيبس بعد والعائلة المالكة بنسوتها واطفالها وغالب شخصياتها قد غيبهم الموت ولم ينجُ من الهلاك الاّ القليل القليل منهم ؛ ووزراؤها ومن كان في جرابها سحلوا جثثا على الاسفلت وتنكروا بزيّ النساء خوفا من ان يكونوا لقمة سائغة بيد الموتورين وطالبي الثأر&
اهزأ ضاحكا ومرارا ابكي حزنا ولا اعرف ماذا اقول كلما قرأت البيت الشعري التالي الوارد في القصيدة المغناة &:
غدٌ سلامٌ وخيرات جوانحهُ ----- كأنما رشّه في الارض نيسان&
لقد رشّ انقلابيو العسكريتاريا الدماء بدل الماء ونيسان المطر أضحى بعد سنوات قليلة نيسان القهر حينما انقلب البعث على نظام مابعد الملكية وجاء بالسابع من نيسان وتربى البعث فينا بعد ان ترك بلاد الشام وهجع فينا فاشتدت النزعة القومية الشوفينية وضريوا الضربة القاضية على جسد السلام وتحوّل جثة هامدة لاحياة فيها&
صراعات متواصلة واحقاد دفينة وطموح نحو السلطة بين القوميين العرب والبعثيين والشيوعيين والعسكر ولا مشروع عراقي منقذ يمتلك خاصيته الواحدة المتميزة حتى الوقت الحاضر&
ومع ان مدرسة الرحابنة برفقة صوت فيروز قد اثبتت جدارتها فنيّا ونجحت في ترسيخ قوامها اللحني المتجدد في ساحة فنٍّ كان من نخبتها محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش والسنباطي والقصبجي وغيرهم من العمالقة الكبار لكن الرحابنة اتجهوا اتجاها اخر اكثر في الليونة اللحنية والتماس الجميل من الالحان الاوربية ومن السوناتات وعديد السيمفونيات الا ان الموقف الأخلاقي في الفن على رقيّه لم يكن بالمستوى اللائق والاّ كيف نفسّر ان تتحول بغداد من بركة دم وساحة نزاعات الى " واحة في الدهر مزهرة " كما تقول بعض ابيات الاغنية&
وفي سنة /1976 حطّت فيروز مع الاخوين رحباني وفرقتهم الى ثرى بغداد ثانيةً لتحيي ثلات حفلات في قاعة الخُلْد وما ان سمعتُ بهذا الخبر حتى سعيت الى الاقتراض من هذا الصديق وذاك القريب مالا كافيا يتيح لي ان ادخل تلك القاعة التي كثيرا ما احتضنت خيرة الفرق الموسيقية من اوروبا واميركا ومصر والشام ولبنان فاشتريت بطاقة الدخول رغم كونها باهظة الثمن وأنا الطالب الفقير الذي تخرج توا من الجامعة وزجّ في الخدمة العسكرية الإلزامية مايزيد على السنة ولم احصل على وظيفة بعد&
كنت سمعت قبل الدخول الى الحفل بان السيدة فيروز قد أحضرت قصيدة لتغنيها الى بغداد وعرفتُ بين الكواليس &انها لم تفصح للصحافة عن كلماتها اذ عزمتْ ان تكون مفاجأة للجمهور العراقي وقد سمعت طراطيش كلام انها قبل ان تحضر المطربة وفرقتها للقاعة ؛ طلب منها مسؤولو وزارة الاعلام مع زمرة من المثقفين البعثيين بايعاز من النخبة الحاكمة ان تأتي على ذكر بعض الشخصيات وتوردهم بأسمائهم في الاغنية نفسها وأرجّح في ظني اسمي البكر وصدام حسين ؛ غير ان الاخوين رحباني مؤلفَي القصيدة شعرا ولحنا رفضا هذا الطلب من لدن رعاة وزارة الاعلام بذريعة ان هذا الطلب غير مذكور في العقد وانهما أعدّا الاغنية لبغداد حصرا لتمجيد تاريخها ولمعانها الحضاري كمدينة تعتبر حاضنة الدنيا وسليلة المجد ولا شأن لهما بهذا الرئيس أو نائبه ليتدخلا فيما انتقيا من عروض فنية وأغانٍ تم إعدادها للحفلات ولم يأتيا لمدح هذا السياسي الغرّير أو غيره وانهما لايخضعان الى اية اشتراطات فيما يقدمان ولا مانع عندهما من العودة الى بيروت وإلغاء الحفل والعقد برمّته&
هذه عينة من ابياتها الجميلة دون الحاجة لذكرها كلها فهي معروفة ومغناة على اوسع نطاق :
بغداد والشعراء والصور --- ذهبُ الزمان وضوعُه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الاعرا--- سِ يغسل وجهَــك المطــر&
ولو أمعنّا النظر والسمع لهذه الاغنية سنلحظ انها اغنية يمكن ان تصنفها بانها محايدة ترضي أذواق جميع الشرائح السياسية التي ما فتئت تتخاصم وقتذاك وهنا تكمن حدّة ذكاء الاخوين رحباني في انتقاء كلماتها دون الميل لهذه الجهة السياسية او تلك ، وليس فيها اية اشارة إطراء لاشخاص معنيين او حزبٍ ما وكأنك تسمع قصيدة مغناة الى باريس أو روما أو بيروت إضافة الى لحنها وكلماتها المحببتين مما نسميه في الفنّ والادب بالسهل الممتنع وهذا هو سرّ خلودها وبقائها مقصدا دائما لأسماعنا وذائقتنا&
الان نسيت بغداد ، تركتها الحناجر لتصدح في مراتع اخرى فلم يعد لبغداد غير الهمّ والبلوى والسقم والموت ؛ وكل الجمال والبهاء نزح عنها الى غير رجعة . واذا كانت بغداد قد خدش وجهَها سكين النزاعات السياسية وأوجعتها مهازل الانقلابات قبلا ؛ فانها في ايامنا هذه بلا وجه ولا طلعة بهية ولا نرى الان سوى سخام الحروب ولا نشمّ غير رائحة البارود والرصاص ولا نسمع الاّ دويّ المدافع والهاونات ولم نذق فقط طعما سائغا باستثناء طعم المرارات والمجّ&
هذه هي مائدتنا اليومية التي تقدّم الينا يوميا ونحن تحت خناق بغداد &لكننا نرغم على تجرّعها واستساغتها عنوةً وتلك هي مأساتنا سيما وان الامل مازال بعيد الافق وشجى الغناء الاوّل قد ضاع بين الاصوات المخيفة للحروب وصرير الكراهية والتنابز الطائفي وما عليّ الاّ ان اقفل مسامعي واعيش صامتا في وحدتي باستثناء الإنصات بين الحين والاخر الى صدى السنين الحاكي كما يقال&
&
&