سجن ريدينغ الذي أمضى فيه الكاتب أوسكار وايلد أسوأ أيامه فيه، وقام بتأليف كتابه (من الأعماق) هناك، أضحى مجهول المصير. وحتى يتم إقرار مصيره، لا بد من الإشارة إلى أن &زنازينه كانت قد إستقبلت مجموعة من الفنانين والكتاب، أمثال باتي سميث، وكولم تويبن، وآي ويوي، وأوسكار وايلد.

بعد نشر روايته (صورة دوريان غراي) بشهرين، تعرّف أوسكار وايلد على المعجب به رقم واحد. ومثلما كان متوقعاً، سرعان ما هام وايلد بذلك الشاب المدعو ألفريد دوغلاس، الذي غالباً ما كان يكرر قراءته للرواية 14 مرة متتالية. لكن العلاقة الرومانسية تلك كانت قد واجهت إعتراضاً من والد دوغلاس، الماركيز كوينزبري، الذي إتهم الكاتب بممارسته أفعالاً شاذة، الأمر الذي أدى إلى تشويه سمعة الشاعر والمؤلف المسرحي بصورة جدية. وخلال أشهرٍ قليلة، لم يعد وايلد معبوداً، بل ملاحقاً من قبل القضاء، وفي مايس/ آيار 1985 وجهت إليه المحكمة تهمة "الفعل الفاضح واللواط"، وحكم عليه بالأعمال الشاقة لمدة سنتين.
وللمرة الأولى، وعلى مدى 170 عاماً من وجوده، يفتح سجن ريدينغ، الذي أمضى الكاتب الإيرلندي فترة حكمه فيه، أبوابه للجمهور بمناسبة إقامة سلسلة من المعارض والندوات حوله. ويشارك في هذه المناسبة التي أُطلق عليها "من الداخل: فنانون وأدباء في سجن ريدينغ"، والتي بدأت في 4 أيلول/ سبتمبر وتستمر حتى 30 تشرين الأول/ أكتوبر، قرابة 30 فناناً وكاتبا، وسيتم خلالها تكريم وايلد، ومناقشة تجربة السجن والإنعزال.
يقول مايكل موريس، معاون مدير جمعية (أرتانجيل) المشرفة على الفعالية لصحيفة (الموندو) الإسبانية "أحد أساتذة جامعة ريدينغ، وبعد أن علم برغبة الحكومة في بيع السجن، دعانا لزيارة زنزانة وايلد التي أمضى فيها أكثر ايامه تعاسةً وحزناً".
كانت زنزانة مؤلف رواية (صورة دوريان غراي) تحمل الرقم 3-3. سي، المكان الذي شهد ولادة كتابه (من الأعماق)، وهو عبارة عن رسالة طويلة تضمنت تجربته في السجن، وموجهة إلى ألفريد دوغلاس، والتي صبّ وايلد فيها مشاعره العميقة، تجاه صديقه وأشياء أخرى، من دون تردد أو وجل من ردود أفعال الآخرين. ويضيف موريس "إستخدم وايلد 55.000 ألف كلمة في رسالته لتجسيد ما يعتلج في داخله من مشاعر الحب والخيانة والمعاناة والغفران...". وبعد مرور أربع سنوات على خروجه من سجن ريدنع، توفي وايلد في باريس، وحيداً وفقيراً. &&
وخلال شهر سبتمبر/ أيلول الحالي وأكتوبر/ تشرين الثاني المقبل، سوف يتم قراءة (من الأعماق) في المصلى القديمة والتابعة للسجن، من قبل مجموعة من الفنانين والأدباء، مثل مغنية الروك باتي سميث، والممثل رالف فينس، والكاتب الإيرلندي كولم تويبن.&
يوم الأحد الفائت، والذي صادف يوم الإفتتاح، قرأ المسرحي نيل بارتليت الرسالة، ولمدة 6 ساعات وتسع دقائق، أمام نحو 650 شخصاً، كانوا قد حضروا إلى سجن ريدينغ بغية تكريم وايلد. وتبدأ الرسالة على النحو التالي "عقب إنتظار طويل وبائس، قررت أن أكتب إليك، من أجلك ومن أجلي، حسناً، أنه ليثير إشمئزازي أنني أمضيت سنتين أبديتين &في السجن، من دون أن أستلم منك ولا حتى سطراً واحدا، أو أي خبر. لم أعرف عنك شيئاً، وفوق كل ذلك كان عليّ أن أتألم".
وكتاب (من الأعماق) سوف لن يكون المطبوع الوحيد الذي سيطّلع عليه الزوار خلال المعرض. وكذلك، سيساهم في مشروع (من الداخل) الكاتب داني موريسون من إيرلالندا الشمالية، والفنان الصيني الناشط آي ويوي، من بين تسعة مشاركين فيه، من خلال نقل تجاربهم في السجن. وعلى سبيل المثال، ويوي سوف يشرح لولده آي لاو سبب إختفاءه لمدة 81 يوماً في عام 2011، عندما كان الصغير لا يزال يبلغ من العمر سنتين. كتب المنشق الصيني لطفله "شعرت مثل عامل المنجم المحصور في منجم غارق...". & & & & & & & & & & &&
وتعرض في زنزانات وأروقة السجن الواقع في مقاطعة بيركشاير، شرق لندن، مجموعة مختارة من متعلقات عدد آخر من الفنانين، مثل دوريس سلسيدو، وولفغانغ تيلمانس، ونان غولدن، ومارليني داماسن وستيف ماكوين، وروبرت غوبر، والتي تحتوي على رسوم شخصية وصور وأشرطة فيديو ولوحات. لكن، زنزانة أوسكار وايلد كانت الوحيدة الخالية من متعلقاته. ويوضح موريس سبب ذلك قائلاً "أردنا أن يطلق الجمهورالمحتشد في هذا الحيّز العنان لخياله من أجل إستذكاره".&
عندما تم إفتتاح ريدينغ في عام 1844، إعتُبر حينها سجناً مثالياً. ويعلق موريس "ليس بسبب من شكله المعماري الذي يشبه الصليب، بل لحداثة نظامه في عزل السجناء، ومنعهم من التحدث أو حتى تبادل النظرات فيما بينهم". ولذلك، لم يكن بمقدور وايلد بناء علاقات صداقة (وربما أكثر من ذلك) مع بعض السجناء. وفي رسائله إلى صديقه الوفي هاري إلفين، يعترف وايلد بإنجذابه إلى شاب مسجون، هو اللص هنري بوشنيل، الذي كشفت هويته مؤخراً، ويشير أيضاً إلى علاقته مع تشارلس توماس وولدريج، الذي مات شنقاً لقتل زوجته، وكذلك مع آرثر كروتيندن، العسكري الدائم البحث عن المشاكل. وبعد مرور ثلاث سنوات على تركه السجن، وتحوله إلى كاتب، لخّص وايلد سبب وجوده في جملة "لقد وضعت كل عبقريتي في حياتي، وفي أعمالي هناك فقط موهبتي".
وطوال أشهر كان وايلد يتنقل بين منازل أصدقائه في فرنسا وهو في حالة سكر وفقر، وفي وقتٍ ما وجد الوقت لكتابة قصيدة غنائية لسجن ريدينغ، وهي عبارة عن إنشودة حزينة لبجعة، عن الحنين للحياة في جوٍّ من الحرية. ولكن قصائده الأكثر شهرة هي تلك المستوحاة من تنفيذ عقوبة الإعدام بحق رفيقه وولدريج "على الرغم من أن جميع الرجال يقتلون من يحبون/ فليسمع العالم أجمع/ البعض يفعل ذلك بنظرة مريرة، والبعض الآخر بكلمة مصطنعة/ الجبان بقبلة/ والشجاع بالسيف!".
ويوضح موريس قائلاً "قبل أن يُزج به في السجن، كان وايلد رجلاً مترفاً وغارقاً في متع الحياة، مكرساً جُلّ موهبته في خدمة الجمال. وبعد دخوله سجن ريدينغ، صار لكتاباته معنى آخر، أكثر عمقاً وأكثر روحانية، كما لو أن الألم فتح له آفاقاً جديدة من الإلهام".
قبل ثلاث سنوات كان سجن ريدينغ قد طرد آخر المدانين، غير أن زنزاناته لا تزال تحتفظ بالأسرّة، وطاولة الكتابة، وكراسٍ، ومرحاضٍ مخفي عن النظر. وأما مستقبل السجن، الذي إعتبر أثراً تأريخياً، فلا يزال مجهولاً، رغم أن وزارة العدل البريطانية كانت قد منعت هدمه. ومهما يكن ما خُطط له، بالنسبة لمستقبل بناية ريدينغ، التي ستعرض للبيع في 1نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يجب الإحتفاظ بالعمارة الفكتورية دون إخافة شبح وايلد، الذي كتب في زنزانته " حيث يوجد الحزن هناك مكان مقدس". & &