وجد مؤلفو كتاب "اليورو ومعركة الأفكار" أن الألمان يهوون الانضباط ويخشون الديون المفرطة، بينما يفضل الفرنسيون المرونة وحرية التصرف ويقلقون من غياب أدوات متبادلة للدين. كما أن صناع القرار الألمان محامون، بينما الفرنسيون اقتصاديون، وهذا برأيهم لا يصنع زواجًا "أوروبيًا" سعيدًا.

ليس أدل على ما تمر به منطقة اليورو من أزمات، أهمها وأخطرها أزمة اليونان تليها أزمات إيطاليا وإسبانبا وإيرلندا، من قصةٍ معبرة قصّتها آنا سوانسون فى مقالة نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأميركية يومًا. تقول سوانسون: "دخل اليونانيون والإيطاليون والإسبان والأيرلنديون حانةً، السقاة فيها من الألمان والفرنسيين. قدم هؤلاء السقاة المشروبات بنصف ثمنها، فأفرط الجميع في الشراب. استمروا في تقديم المشروبات من دون حساب حتى دبّ الخلاف بين زبائن الحانة، فتشابكوا وحطموا كل شيء تقريبًا. انتهت الليلة، وذهب الفرنسيون والألمان إلى بيوتهم يجرجرون أذيال خسائرهم، بينما بقي الآخرون فى الحانة يتحاربون بضراوة".

خلل عميق

ما تريد سوانسون قوله هو إن برلين وباريس أقرضتا أثينا بلا حساب، ثم تركتاها تسقط بلا إنقاذ جدي، إذ هي من أنصار الرأي القائل إن توحيد اليورو منع الدول المتعثرة، اليونان أنموذجًا، أن تحرك سعر الصرف للخروج من أزمتها.

كشفت أزمة اليورو التي اندلعت أول مرة في أواخر عام 2009 عن خلل عميق في تصميم العملة الموحدة. لكن كونها بدأت في جزء منها مع إنقاذ اليونان، يعتقد الكثير من السياسيين، وخصوصًا الألمان منهم، أن السبب الرئيسي لا يكمن في عيوب في التصميم، بل في التبذير المالي والدين العام المفرط، ما معناه أن العلاج الوحيد كان التقشف المالي.

في الواقع، غالبًا ما تسبّب ذلك بألم مستمر لا مبرر له. وأظهرت عمليات الإنقاذ اللاحقة لدول مثل أيرلندا وإسبانيا أن الإفراط في الديون الخاصة وفقاعات العقارات والوفرة المفرطة في المصارف عوامل ربما تُنتج مشكلات أكبر تزعزع أسس الاستقرار المالي العالمي.

 

 

فرنسيون وألمان

هذا استنتاج مبكر بين استنتاجات أخرى عديدة، وردت في كتاب "اليورو ومعركة الأفكار" The Euro and the Battle of Ideas(مطبعة جامعة برينستون، 440 صفحة؛ 35 دولارًا) الذي ألفه ماركوس برونيرماير وهارولد جيمس وجان بيير لاندو؛ ثلاثة أكاديميين من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يصفون فيه بدقة اللحظات الفاصلة في الأزمة، وانتقال السلطة إلى الحكومات الوطنية (خصوصًا في برلين) والأدوار التي يؤديها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي.

يلوم المؤلفون حكومات دول منطقة اليورو على فشلها في سرعة التعامل مع البنوك المتعثرة، وعلى عدم إدراكها أهمية العجز في الحساب الجاري وخطورته عندما تكون الديون العامة مقوّمة بالعملة الأجنبية، وعدم تحويل البنك المركزي الأوروبي إلى ملاذ إقراضي أخير لأنّها ما مضت قدمًا في إنجاز الإصلاحات الهيكلية في الأوقات الملائمة.

تُسمع هذه الشكاوى كثيرًا، من بريطانيا والولايات المتحدة في الأقل. لكن، في الأصل، يرى مؤلّفو الكتاب أن جذور هذا القصور ليست ضاربة في غباء اقتصادي بل في أفكار اقتصادية متضاربة. بتعبير أبسط، يركزون على ألمانيا وفرنسا؛ فالألمان يهوون القواعد والانضباط ويخشون الديون المفرطة والمخاطر الأخلاقية المترتبة عن حزم الإنقاذ، بينما يفضل الفرنسيون المرونة وحرية التصرف ويقلقون حيال فوائض الحسابات الجارية وغياب الأدوات المتبادلة للدين. ويفضل الألمان التقشف في الميزانية حتى في الأوقات الصعبة، بينما يفضل الفرنسيون الحوافز المالية على الخطوط الكينزية. فصنّاع القرار الألمان هم غالبًا من المحامين، بينما صناع القرار الفرنسيون من الاقتصاديين.

 

 

افتقار أو عسر

يُدرج مؤلفو الكتاب فيه أمثلة لهذه المواجهات الأيديولوجية التي تراوح بين تصميم معاهدة ماستريخت وميثاق الاستقرار والنمو، وصولًا إلى دستور البنك المركزي الأوروبي وتطبيق الاتفاق المالي.

وبحسب تحليلاتهم، مال الفرنسيون طوال عمر الأزمة إلى ردّ محنة الدين الوطني إلى الافتقار إلى السيولة، في حين اعتبر الألمان ذلك علامة عسر مالي. وظهرت انقسامات مماثلة في شأن سندات اليورو (تدعمها فرنسا وتعارضها ألمانيا) والمساءلة والرقابة الديمقراطية على مستويات تتجاوز المستوى الوطني (تدعمها ألمانيا الاتحادية لكن ليس من خلال الطريق المعتمدة في فرنسا المركزية).

ويلاحظ مؤلفو الكتاب أن اختلافات مماثلة في الأفكار لا تتعلّق بسياسة الأحزاب (فهي تبقى قائمة بغض النظر عما إذا كانت حكومتا البلدين من يسار الوسط أو يمين الوسط)، ولا هي ثابتة - تاريخيًا - إلى الأبد؛ ففي القرن التاسع عشر، وأكثر بعد في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت فرنسا، لا ألمانيا، من فضّل القواعد الجامدة والفوائض الكبيرة ونظام معيار الذهب، وما تغيّر ذلك إلا بعد عام 1945.

اختلاف مستقبلي

ينهي المؤلفون كتابهم بملاحظة متفائلة، مقترحين آليات تأمين على مستوى أوروبا، مبنية على شكل سندات يورو مصممة لإرضاء فرنسا وألمانيا. لكن ربما يؤدي تحليلهم إلى تشاؤم بالقدر نفسه. فأزمة اليورو لم تنتهِ بعد مع اليونان التي تحتاج إلى تخفيف عبء الديون، ولا مع إيطاليا الغارقة في المشكلات المصرفية والنمو البطيء المزمن وارتفاع معدلات البطالة في قطاعاتها الاقتصادية كلها تقريبًا.

تجدر الإشارة هنا إلى أن "بريكسيت" لن يساعد في تحسين المزاج الأوروبي، حتى لو لاقى ترحيبًا من بعضٍ اعتبره سببًا إضافيًا للدفع في اتجاه اتحاد مالي وسياسي أعمق في منطقة اليورو.

المشكلة هي، بحسب الكتاب، أن بين فرنسا وألمانيا خلافات كبيرة في شأن التوجه الاقتصادي - المالي المستقبلي. فالفرنسيون يريدون تبادل المنافع والمزيد من المرونة المالية أولًا، وبعدها فحسب يُصبحون مستعدين للحديث عن انضباط أكبر وتكامل أعمق، خلافًا للألمان الذين يريدون التوجه نحو الانضباط والتكامل قبل أن يكونوا مستعدين حتى للتفكير في تبادل الديون.

بعد انتخابات منتظرة في العام المقبل في البلدين، يُحتمل أن تؤدي مثل هذه الاختلافات العميقة إلى مشكلات مستمرة للعملة الأوروبية الموحدة.

غير مقنع

يظهر في خاتمة الكتاب أن مؤلفيه متفائلون، لكنهم فشلوا في إقناعنا بتفاؤلهم. فبعد 400 صفحة تقريبًا صرفوها في وصف تعثر منطقة اليورو بسبب خلافات عميقة بين مدرستين اقتصاديتين مهيمنتين، لا تكفي خلاصة موجزة في إقناعنا بخلاف ذلك. ويبدو للقارئ أنهم تركوه وحيدًا، يحدد مصير اليورو، وكأنهم حشروا ثلاثة كتب في واحد، ليس إلا.

وبحسب مراجعات للكتاب، تكمن مشكلته الأكبر في أن تجاهله حقيقة أن التنازلات المتبادلة بين الفلسفات الاقتصادية المتعارضة ربما تجعل الأمور أشد سوءًا، ولا تحسنها. ففي مسألة الإفراط في المديونية، يقول الفرنسيون إن على الدول المَدينة سداد ديونها كاملة، حمايةً لمصالح الدائنين وحفظًا للصدقية والثقة. وإن تعذر عليهم ذلك، فالمسؤولية تقع على المضاربين، ويجب أن توفر الدولة والبنك المركزي الموارد اللازمة لمحاربة تذبذب الأسواق. خلافًا لذلك، لا يرى الألمان جدوى من رمي المال من طريق الافراط في سياسة الإقراض، على الرغم من أن دراسات عدة تقاطعت في أن ألمانيا حققت مكاسب كبيرة من الأزمة اليونانية، بلغت 109 مليارات دولار.

وقالت دراسة أجراها معهد ليبنيز للبحوث الاقتصادية إن هذا المبلغ هو إجمالي المبالغ التي وفرتها ألمانيا من انخفاض الفوائد على الأموال التي اقترضتها الحكومة اليونانية، وسط فرار المستثمرين إلى مناطق آمنة.