"لا يخفى على أبناء الشعب العراقي الكرام ما فعله الحصار الاقتصادي من ويلات وعوز وفاقة وتضييق لم يسبق له مثيل خلال فترة التسعينات من القرن المنصرم والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين وما اصطلح عليه بالألفية الثالثة ولا أظن شعبا على مر التاريخ ذاق مرارة العيش كما ذاقها شعبنا الصابر المكلوم وكأننا مررنا بسنوات مديدة من المجاعة والقحط، لكنني سأتحدث عن شريحة مهمة في المجتمع وهم المثقفون والأدباء عموما وما عانوه من ضيم وأسى خلال تلك الفترة العصيبة مثلهم مثل بقية الشرائح الاجتماعية في بلدي العزيز ".

&هكذا يبدأ جواد غلوم حديثه في الفصل الأول من كتابه "مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار " الصادر هذا العام عن دار نشر أمل الجديدة في سورية وهو المدخل الذي احتوى على مواضيع مهمة ثلاثة هي :

1 - أيام حالكة قبيل فرض الحصار

2 - الهجرة إلى بلاد الثلج

3 - حال المسرح العراقي

أما فصله الثاني فاشتمل على ذكريات بغداد الإبداع الفني والأدبي والجمال الغائب كما وصفها غلوم حينما يعرج في مذكراته متحدثا عن مكتبة ماكينزي كواجهة ثقافية تعكس إهتمام العراقي بالكتاب الآتي من الضفاف البعيدة أو كما يقول :

" كان معظم روادها من المثقفين العراقيين التي استهوتهم الثقافة الغربية إلى جانب اهتمامهم بتراث أسلافهم فأنجبت عقولا متنورة نتجت عن تلاقح فكري حضاري بين الشرق والغرب، مع أن مؤسسها السيد كينث ماكينزي الأسكتلندي المولد والمحتد حرصا كثيرا على تزويد المكتبة بالمؤلفات الإنكليزية التي تعنى بثقافات العالم الإسلامي ومنها كتب التراث العربي والتأريخ وأدب الرحلات وقد عدت ماكينزي وقتذاك من أفضل المكتبات التي تخصصت في العلوم الإسلامية كلها تقريبا إضافة إلى بعث التراث العربي والإسلامي واعتبرت مصدرا أساسيا لهذه العلوم ليس في العراق فحسب وإنما في أقطار العالم أجمع ".

ومن بين ما تناولته ذاكرة المؤلف غلوم مواضيع شتى في الأدب والفن والمسرح والسياسة، وفيما يتعلق بالسينما فقد تحدث من خلالها عن إحدى دور السينما في بغداد وهي سينما غرناطة التي كانت مقصد المثقفين لما تعرضه من أفلام كانت حديث المحافل الأدبية لروعتها، وكذلك حديثه عن مقاه غير تقليدية كمقهى البرازيلية في شارع الرشيد وسط بغداد والسويسرية والكيت كات، هذه الذكريات أخذته للحديث عن المراكز الثقافية الأجنبية ودورها في مد جسور التعاون المعرفي بين بلدانهم الأجنبية وبين العراق وأثرها في الوسط الثقافي الذي نهل عنها الكثير لينتقل بالحديث إلى موضوع الساعة في بلاده وهو الإرهاب وأثره على البلاد والأقليات التي تسكنه والتهجير الذي كان أحد صفحاته السوداء، والكتاب الذي بلغت صفحاته 182 صفحة لن ينهيه القارئ بسهولة فهو غني بمعلوماته وانتقالاته الزمانية والمكانية لذاكرة غير معطوبة كتبت أحرفها بالدم والدموع أخذت من غلوم صحته وماله وعندما نطالعه ستتكشف أمامنا قسوة ما آل إليه حالنا، حتى تأريخنا، آثارنا، لم نعد نحرص على الإحتفاظ بها والمحافظة عليها، ولنقرأ كلماته الأخيرة لنقف على حجم المأساة التي وصل إليها حالنا :

".... وأقول لرفيقتي أني مشوق لرؤية جناح وادي الرافدين في المتحف – يقصد به اللوفر بباريس – وتشتد بي الرغبة لأرى مسلة حمورابي وصحبتني إلى هناك وكم كانت صدمتي طاغية حين منعنا من مشاهدتها إذ كانت الأبواب مغلقة إلى مكان مكمنها، لكنها لم تيأس وأسرّت لي أنه يمكن مشاهدتها للوفود الزائرة خاصة ولبعض المسؤولين النخبة الزائرين ويمكننا الإندساس بينهم وهذا ما حصل فعلا بعد طول انتظار وقد تكون رؤية هذه المسلة التي جيء بها من بلاد فارس بعد أن سرقت أثناء غزو بابل من قبل جيش فارس هي الحصيلة الوحيدة المثمرة التي حزت عليها أمام كل هذه العقبات والعثرات الجسام التي صاحبتني في زيارتي الأولى لباريس النور، لكن هذا النور أضحى نارا لاسعة تتبعني أينما اتجهت وحيثما حللت "&