اللامساواة حالة موجودة، ظنّ بعضهم أنها ستنتهي بالعولمة، لكنها "باقية وتتمدد"، حتى يبدو وكأنها صارت طبيعية جدًا. برانكو ميلانوفيتش يرسم مقاربة جديدة للعولمة، ليسلط الضوء على اللامساواة في العالم.

إيلاف: يمكن القول إن الفترة الحالية هي العصر الذهبي لدراسة اللامساواة. وكان صاحب السبق الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، الذي نُشر في عام 2014. حين صدر بالانكليزية، أصبح من أكثر الكتب مبيعًا، إذ حدد الكتاب ملامح الأزمة بنظرية شاملة في التاريخ الاقتصادي.

اللامساواة تعمّ الكونتعم الكون

يقول بيكيتي إن اللامساواة التي تراجعت خلال الفترة الممتدة من الثلاثينيات إلى السبعينيات ازدادت بحدة عائدة إلى مستوياتها العالية خلال الثورة الصناعية.

الآن، كتب برانكو ميلانوفيتش، الاقتصادي في مركز لوكسمبورغ لدراسة الدخل وجامعة ستي في نيويورك، متابعة شاملة تؤكد ضآلة ما هو معروف حقًا عن القوى الاقتصادي ذات التأثير طويل الأمد.

لكن كتاب ميلانوفيتش "اللامساواة العالمية: مقاربة جديدة لعصر العولمة" Global Inequality: A New Approach for the Age of Globalisation (منشورات بلكناب؛ 299 صفحة) عمل أقل طموحًا من كتاب بيكيتي، وأقرب إلى ورقة عمل أكاديمية منه إلى عمل بحثي كبير هدفه دائرة أوسع من القراء.

نماذج ذهنية منتظمة
على غرار بيكيتي، يبدأ ميلانوفيتش بأكداس من البيانات جُمعت على مدى سنين من البحث، ويحدد اتجاهات بلدان مختلفة في سياق عالمي. ففي خلال السنوات الثلاثين الماضية، ارتفعت أجور العمال في بلدان الاقتصادات ذات الدخل المتوسط مثل الصين، وكذلك أرباح واحد &في المئة الأكثر ثراء.

في الوقت نفسه، بقيت أجور الطبقة العاملة في الاقتصادات المتطورة راكدة. وأسهمت هذه الدينامية في إنشاء طبقة متوسطة عالمية، وتسببت أيضًا في ثبات اللامساواة الاقتصادية، وربما حتى انخفاضها للمرة الأولى منذ بداية التصنيع.

لإيضاح هذه الحقائق، يوفر ميلانوفيتش للقراء سلسلة من النماذج الذهنية المنتظمة. ويتوقف على سبيل المثال عند فجر التصنيع حين كانت اللامساواة بين الطبقات المختلفة مسؤولة عن ظهور فوارق كبيرة بين الأثرياء والفقراء. وبعد التصنيع أصبحت اللامساواة في هذه البلدان أكثر أهمية. ومع تقلص الفجوة بين البلدان أكثر فأكثر، تزداد أهمية اللامساواة الطبقية، لأن غالبية الفوارق في الدخول بين الأثرياء والفقراء ستعود مرة أخرى إلى إيجاد فجوات داخل البلدان نفسها.&

تتعلق مساهمة ميلانوفيتش الأكثر جرأة بـ"موجات كوزنيتس" Kuznets Waves التي يسوقها بديلًا من النظريتين السائدتين حاليًا حول اللامساواة. كان الاقتصادي سايمون كوزنيتس الذي عاش في القرن العشرين يقول إن اللامساواة تكون منخفضة على المستويات الدنيا من التطور الاقتصادي، وترتفع خلال التصنيع، وتنخفض حين تبلغ البلدان مرحلة النضج. فاللامساواة العالية هي الناتج العصري الموقت للعملية التنموية.&

اللامساواة طبيعية؟
قدم بيكيتي تفسيرًا بديلًا بالقول إن المستويات العالية من اللامساواة هي الوضع الطبيعي للاقتصادات الحديثة، وإن حوادث استثنائية، مثل الحربين العالميتين وكساد الثلاثينيات، وحدها التي يمكن أن تخل بالتوازن الطبيعي.&

يذهب ميلانوفيتش إلى أن كوزنيتس وبيكيتي، كلاهما على خطأ، ويقول إن المساواة كانت على امتداد التاريخ تميل إلى الانبثاق في دورات، أي موجات كوزنيتس.

في الفترة التي سبقت التصنيع كانت هذه الموجات محكومة بديناميات مالتوزية، أي إن اللامساواة ترتفع حين تتمتع البلدان بموجة من الازدهار والدخول المرتفعة، ثم تنخفض حين تعيد الحروب أو المجاعات متوسط الدخل إلى مستوى الكفاف.

مع التصنيع، تغيّرت القوى التي تطلق موجات كوزنيتس باتجاه التكنولوجيا والانفتاح وصنع السياسة. وفي القرن التاسع عشر، تضافر التطور التكنولوجي والعولمة والتحولات السياسية بطرق تعزز بعضها البعض لإحداث تغيير اقتصادي جذري. وانتقل العمال من المزارع إلى المصانع، وارتفع متوسط الأجور واللامساواة بحدة، وأصبح العالم مترابطًا على نحو لم يُعهد له نظير من قبل. ثم التقت قوى، بعضها خبيث (الحرب والاضطربات السياسية) وبعضها حميد (ارتفاع مستوى التعليم)، لخفض اللامساواة إلى مستوياتها في السبعينات.

منذ ذلك الحين، يركب العالم الغني موجة كوزنيتس جديدة مدفوعة بحقبة أخرى من التغيير الاقتصادي. فالتطور التكنولوجي والتجارة يعملان معًا لإعتصار العمال، بحسب ميلانوفيتش، والتكنولوجيا الرخيصة في الاقتصادات الأجنبية تضعف القدرة التساومية لعمال العالم الغني بصورة مباشرة، وتجعل من الأسهل على الشركات أن تستعيض عن العمال بآلات.

ويزداد تراجع قوة العمال الاقتصادية تفاقمًا بفقدان السلطة السياسية حين يستخدم ذوو الثراء الفائق سلطانهم المالي للتأثير في المرشحين والانتخابات.

مستمرة وتتمدد
يحمل هذا التشخيص عنصرًا تنبؤيًا بين ثناياه، إذ يتوقع ميلانوفيتش أن تستمر اللامساواة في العالم الغني بالارتفاع، وخاصة في اميركا، قبل أن تتراجع في نهاية المطاف. المهم أن ميلانوفيتش يرى أن تراجع اللامساواة الذي يحدث بالاقتران مع موجة من موجات كوزنيتس هو نتيجة حتمية لارتفاعها السابق.

وفي حين أن بيكيتي يعتبر أن الحوادث التاريخية التي خفضت اللامساواة في أوائل القرن العشرين حدث عرضي، فإن ميلانوفيتش يؤمن بأنها نتيجة مباشرة لتفاقم اللامساواة. البحث عن فرص استثمارية في الخارج صنع الإمبريالية، ومهد الطريق للحرب، وهناك أوجه شبه بالاقتصاد الحديث. فالاقتصادات الحديثة تبدو راكدة، فيما يواجه ذوو الثراء الفائق صعوبة في إيجاد أماكن لتحقيق مردود كبير على ثرواتهم الطائلة.

تحليل ميلانوفيتش يقوده إلى التوقف عند بعض الاحتمالات القاتمة. فأميركا تبدو، بنظره، واقعة في قبضة بلوتوقراطية غير ديمقراطية، تعتمد على دولة أمنية متضخمة. وتشهد أوروبا صعود اليمين القومي المتطرف، والنبأ السار هو أن الاقتصادات الناشئة ستواصل مسيرتها للحاق بركب البلدان الغنية في دخولها، رغم أن هذا ليس مضمونًا، ويمكن أن تهدده أزمة سياسية في الصين أو في أسواق أخرى، كما يضع ميلانوفيتش في حسبانه.

غير مقنعة
لكن خلاصة الكتاب ليست مقنعة تمامًا. فالنظرية القائلة إن تفاقم اللامساواة يؤدي إلى نشوء اتجاهات اجتماعية مضادة لها تبدو صحيحة، لكنها تترك أسئلة عديدة بلا إجابة، منها متى تكون الحرب، وليس الثورة، هي النتيجة المرجحة للامساواة؟، هل إن الحكومات تحت رحمة هذه الدورة أم إنها تستطيع التحرك بإجراءات استباقية لتبديد الموجات وتفادي الأزمات الناجمة من اللامساواة العميقة؟.

مساهمة ميلانوفيتش في النهاية مماثلة لمساهمة بيكيتي، والبيانات التي يوفرها ترسم صورة أوضح للألغاز الاقتصادية الكبيرة، وتنظيره الجريء يقوّض الآراء الاقتصادية التقليدية المستهلكة. ولكن النظرية الكبرى تكشف حجم الجهل المعاصر بقدر ما تسلط الضوء على آليات الاقتصاد العالمي.


&