&
في سنوات المراهقة، عبّر هانس بومان المولود في أمستردام عام 1950 عن رغبته في دراسة فن الرسم في معهد الفنون الجملية إلاّ أن والده رفض ذلك رفضا قاطعا، طالبا منه دراسة العلوم. وكان عليه أن ينتظر بلوغه سن العرشين لكي يترك خفية البيت العائلي لينطلق إلى باريس، عازما على تحقيق حلمه:أن يكون رسّاما ولا شيء غير ذلك. ويوم وصوله الى العاصمة الفرنسية، كانت الأمطار تتهاطل بغزارة، وكان البرد شديدا. وكان عليه أن يطرق باب أحد أقربائه للحصول على غرفة. لكن العلاقة معه سرعان ما ساءت. فقد كان هذا الرجل الذي يملك محلاّ لإصلاح الساعات القديمة، متجهماومتوترادائما، وسريع الغضب. لذا كان عليه أن يبحث عن ملجأ آخر في المدينة الكبيرة الغاصة بفنانين يعيشون مثله في ظروف سيئة للغاية. مع ذلك هم لا يرغبون في التخلي عن حلمهم، وعن حبهم للفن. وهكذا راح هانس بومان يجوب الشوارع لا فقط للبحث عن مأوى، وإنما لكي يتعرف على الحياة الباريسية في مختلف تجلياتها، زائرا المتاحف الكبيرة والصغيرة، باحثا في الكتب الفنية، وفي المعارض عمّا يمكن أن يثري ملكته الفنية. وعندما يتوفر له الفضاء، ينكبّ على الرسم بشكل محموم فينسى الجوع والبرد وكلّ ما يمكن أن يُعكر صفوه،أو يصرفه عن عمله.ومع مرور الأيام، بدأ هانس بومان يهتمّ بالجسد البشري بأجزائه العليا والسفلى وفي ذهنه لوحة رامبراندت الشهيرة:”درس في علم التشريح للدكتور تولب". وشيئا فشيئا إكتشف أن الجسد البشري محمّل بكثير من الأشياء الغامضة والغريبة. وفي كوابيسه كان يرى جثثا متغنتفة، وأخرى مبقورة البطون. كما كان يرى أجسادا بشرية تضرب بالسياط، وتخضع لشتى أنواع التعذيب. وربما لهذا السبب بات يعتقد ان حقيقة الإنسان متسجدة في كل هذه المظاهر المرغبة والمنفرة أكثر ممما هي مجسدة في روحه التي يصعب سبر أغوارها. وفي المتاحف التي ألف التردد عليها، لم تعد تيستهويه مشاهدة الأبطال ذوي العضلات والأجساد القوية ، ولا نساء روبنس السمينات ذوات الصدور العارمة، وآلاهات الأولمب، ولا محاربي الإغريق والرومان القدماء، وإنما هو يميل إلى التوقف امام لوحات تظهر فيها رؤوس بشرية مقطوعة، وبطون مبقورة، وأجساد هزيلة بارزة العظام، أنهكها الجوع التشرد والضنى.ولشدما أبهرته اللوحات التي رسمها الفرنسي هونوري فراغونار عن المسلوخين! كما أبهرته لوحات فابيان غوتييه داغوتي عن الملائكة الغريبة عن المألوف. وبين وقت وآخر كان يذهب ألى المقابر ليقضي ساعات طويلة بين القبور، متوقفا أمام قبور المشاهير، متخيلا الحالة التي أصبحت عليها أجسادهم بعد مرور وقت طويل على رحيلهم. ومركزا على عمله لم يكن يعير أي إهتمام للغرفة القذرة، فاسدة التهوئة التي كان يقيم فيها. كما لم يكن يهتم بمظهره. فهو يبدو شبيها بمشرد جائع. ولعله كان أحيانا يتعمد كل هذا لكي يكون عمله مرتبطا بحياته كما كان الحال بالنسبة لفان كوخ وللعديد من الفنانين الذين عاشوا مثله البؤس والخصاصة. غير أن ذلك لم يمنعهم من أن يتركوا فنا عظيما. وعلى مدى سنوات طويلة، ظل هانس بوما يرسم العظام النخرة، والأفواه الدرداء، والوجوه المشوهة،والرؤوس المخربة . وفي كل ذلك كان يجد متعة لا تضاهيها أي متعة أخرى. ولكن في لحظة ما يستبد به غضب شديد على نفسه وعلى عنله، فيدمر كل ما انجزه حتى ذلك الحين، وبهرع للبار القريب لكي يدفن أحزانه وآلامه.
مطلع الثمانيات من القرن الماضي، بدأت حياة هامس بومان تعرف الإستقرار. فقد تزوج من فرنسية ومعها طاف في العديد من البلدان. وفي المغرب الذي زاره أكثر من مرة، إرتبط لعلاقات صداقة مع كبار الفنانين من أمثال محمد القاسمي، وفريد بالكاهية، ومحمد بلامين، وآخرين. وقد شهدت المعارض التي أقامها في باريس وفي العديد من المدن الفرنسية الأخرى إقالا كبيرا من قبل أحباء الفن. كما عرض في العديد من المدن الألمانية، وأيضا في الصين، وفي بلجيكا، وفي إيطاليا، وفي اسبانيا، وفي بلدان أخرى.
في مرسمه في حي بال فيل ، قرب ساحة" الروبيبليك" بالعاصمة الفرنسية ، يواصل هانس بومان عمله بدأب وصبر. وهو يقول:”الآن بدأت أشعر بآلام الشيخوخة ومتاعبها...ولعلي سأرسم شيخوختي في ما تيقى لي من العمر!”.
&