يحاول كثيرون تفسير تراجع الديمقراطية وتقدم دور الدين من خلال البحوث التجريبية الواسعة والتحليلات الإحصائية، خصوصًا اليوم مع العودة إلى الأصولية في الشرق والغرب على السواء.

إيلاف: سجل العديد من الباحثين صعود الدين أخيرًا في كل أنحاء العالم. وتأتي الصحوة الدينية تحديًا مباشرًا لـ"أطروحة العلمنة"، أو الفكرة القائلة بانتشار التنوير والمعرفة العلمية والتكنولوجيا وانكماش قوة الدين.

بين الدين والديمقراطية ما لا يتخيله إنسان

ولفت كتاب آخرون، مثل لاري دايموند، إلى تراجع الديمقراطية على الصعيد العالمي، خصوصًا في مناطق العالم التي ما زال الدين قوة مؤثرة فيها.

يتمثل السؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذه الظاهرة في ما إذا كانت هناك علاقة بين الاتجاهين. وربما يكون هناك تناسب إحصائي عكسي بين الإثنين، لكن لا يُعرف على وجه التأكيد إن كان الدين يتعارض مع الديمقراطية أو كيف يتعارض الاثنان أو لماذا يتعارضان؟.

تراجع الديمقراطية
يحاول كثيرون تفسير تراجع الديمقراطية ودور الدين في هذا التراجع من خلال البحوث التجريبية الواسعة والتحليلات الإحصائية.
لكن، من المستبعد أن تكون هذه المقاربة مجدية لسببين: الأول، يتعيّن تحديد المتغيرات الكثيرة للدين وفرزها. على سبيل المثال، هل للمجتمع موضع البحث تاريخ من التسلط؟، هل يُعاني من النزاعات الطائفية؟، هل يتسم بالإعتماد المفرط على موارده الطبيعية؟، هل يفتقد إلى البنية التحتية الأساسية؟.

والثاني، حتى لو أُجريت مثل هذه البحوث التجريبية، فإنها لا تفسّر لماذا ربما يكون الدين خطرًا على الديمقراطية. ألا يمثل بعض العقائد والأفكار الدينية، كالمساواة والتعاون، دعمًا للمجتمع الديمقراطي؟. 

يدرس كتاب جاد أون "جعل الدين مأمون الجانب للديمقراطية: التحول من هوبز إلى توكفيل "Making Religion Safe for Democracy: Transformation from Hobbes to Tocqueville التوافق بين مبادئ الدين الثابتة ومبادئ الديمقراطية الليبرالية. 

وبحسب أون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة إيموري الأميركية، فإن "النظرية السياسية الليبرالية ليست مؤهلة لمواجهة صعود الدين، وخصوصًا دين لا ينسجم مع المبادئ الديمقراطية الليبرالية، بل يرفضها. لم يعد الليبراليون المعاصرون يعرفون لغة الدين، في حين أن ليبرالية التنوير خرجت من عباءة الصراع مع الدين". 

لذا، يعيدنا أون إلى المواجهة الكبرى الأولى: الصدام بين ليبرالية التنوير والمسيحية، ويكتب من خلال مفكرين تنويريين كبار مثل توماس هوبز وجون لوك وتوماس جيفرسون وأليكس دو توكفيل خاضوا غمار تلك المواجهة، بل حددوا شكلها.

يقول أون إن المسيحية وهنت منذ الصدام الأول بسبب التنويريين، لكن العالم الديمقراطي الذي عاش فيه توكفيل نادرًا ما كان فيه تزمت ديني، على الأقل في أوروبا القرن الثامن عشر وفترة التأسيس في أميركا. 

دافع قوي
يطرح هذا الكتاب الانقسام النظري الأساس حول مسألة الدين خلال فترة تأسيس أميركا. وكان فصل الدين عن الدولة الشعار المرفوع في ذلك الوقت. لكن الحركة الداعية إلى هذا الفصل ضمت حلفاء غرباء، فالتنويريون الداعون إلى هذا الفصل عملوا من أجل التسامح وإبعاد الدين عن المجال العام، في حين كان دعاة الفصل من الإنجيليين البروتستانت يدعمون الحرية الدينية لحماية الكنيسة من الدولة.

بكلمات أخرى، كان هؤلاء البروتستانت يريدون الحرية "من أجل" ممارسة الدين، فيما كان فلاسفة ليبراليون مثل جيفرسون وهوبز ولوك يريدون الحرية "من" الطوائف والممارسات الدينية الخانقة، ويشعرون بأن الفصل سيدجن الدين بمرور الوقت.

ويقول أون بوضوح إن الفكرة الجيفرسونية للفصل بين الدين والدولة هي التي انتصرت في أميركا. وهو يميط اللثام عن المشروع التنويري الراديكالي، الذي كان يسعى إلى إضعاف الإيمان الديني تدريجًا، وفي النهاية إلغائه. وتتضافر مادية هوبز الفلسفية مع علمه السياسي لإخماد خرافات الدين "الوهمية، السوداء" و"توعية البشر بالسمو الطبيعي لاهتماماتهم المادية الدنيوية"، على حد تعبير أون. 

يبيّن أون أن هذا بمرور الوقت لن يؤدي إلى "لا إيمان"، بل إلى لا مبالاة بمفهوم الإيمان. وبحسب هوبز، الدافع الديني قوي جدًا والمطلوب قوة أكبر لسحق هذا الدافع.

يتكاملان
يأخذ الدكتور ستيفن بيتز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولورادو الأميركية، على المؤلف إغفاله أهمية السياق التاريخي لمشروع هوبز في قمع الدين، مشيرًا إلى أن هوبز طرح أفكاره عقب حرب دامت ثلاثين عامًا، وكانت أشد النزاعات الدينية دموية في تاريخ أوروبا، وأثَّرت في فلسفته السياسية ولاهوته السياسي على السواء. قاد هذا الصراع هوبز إلى الاقتناع بصرورة وجود "إله يموت" (حكومة سلطوية) يحل محل إله إشكالي أزلي مثير للمتاعب.

إلى جانب هوبز، يتناول أون أفكار لوك وتوكفيل، إذ يرى لوك أن الدين يؤدي دائمًا وظيفة اجتماعية، ولا يمكن إلغاؤه كاملًا، وأن قلة تفهم الأخلاق من خلال العقل وحده، في حين أن الغالبية العظمى من البشر ترى أن العرف الديني والإيمان بنظام خارق للطبيعة ضروريان للالتزامات الأخلاقية.

ويلاحظ أون أن لوك لا يعتقد أن الدافع الديني قوي، كما يذهب هوبز، وأن الظلم يولد التعصب، في حين يخفف التسامح من غلوائه. وبالتالي، تدجين الدين وجعله مأمون الجانب بالنسبة إلى الديمقراطية يأتي من خلال التسامح، وليس القمع الديني، وهذا ما اقتنع به جيفرسون بعد 100 عام.

يتكلل الكتاب بفصل عن توكفيل، الذي اكتشف خلال جولته في أميركا إبان ثلاثينات القرن التاسع عشر، أن التزمتّ الديني غائب من الأساس، وأن الأفراد أحرار في العمل من أجل تحسين أوضاعهم المادية. ولا يعتقد توكفيل أن الدين يجب أن يُخمد أو يُدجَّن، بل يجد أن الديمقراطية والدين يعضد أحدهما الآخر، وأن الدين يشكل ثقلًا مضادًا لقوى ديمقراطية ضارة في الديمقراطية، مثل التشديد على الركض الأناني ضيق الأفق وراء الكسب المادي.

أطروحة العولمة
يؤدي هذا النقاش إلى التساؤل عن دور الدين في أوروبا مقابل دوره في أميركا. وتبدو أوروبا القارة التي ترسخت فيها "أطروحة العولمة"، حيث لا نرى سيادة النظرة العلمانية إلى العالم فحسب، بل حتى عداء القارة للإيمان الديني في الممارسة الثقافية والأشكال المؤسسية على السواء (مثل منع الرموز الدينية في الفضاءات العامة).

وبحسب أون، النظرة الأوروبية إلى الدين هوبزية، فيما تبدو أميركا لوكية. فالفصل بين الدين والدولة لم يفض في أميركا إلى درجة مماثلة من العداء للدين، بل إلى علاقة متسامحة ثابتة نسبيًا بين الدين والدولة. ولكن ثقافيًا قد تكون أميركا توكفيلية، مواطنوها يكبحون أخطار العلمانية من خلال الإيمان الديني والارتباط بجمعيات دينية.

يقول بيتز إن الدروس التي يخلص إليها أون في كتابه يمكن أن تصحّ على الإسلام وحركة المسلمين في العالم غير الإسلامي. ويقول إن كتاب أون يزوّدنا بالفهم الفلسفي اللازم كي نطرح التساؤل عن دور الدين في المجتمع الأميركي اليوم بعد نحو قرنين على زيارة توكفيل أميركا.

فالرفاه المادي أوسع انتشارًا منه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لكن يبدو أن السعادة والقناعة الروحية لا تنتشران بالقدر نفسه.والسؤال الأكبر الذي يطرحه أون في كتابه هو إذا كانت أهمية جعل الديمقراطية مأمونة الجانب بالنسبة إلى الدين بقدر أهمية جعل الدين مأمون الجانب بالنسبة إلى الديمقراطية.

أعدّت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "ليبرتي لو سايت". الأصل منشور على الرابط الآتي:
http://www.libertylawsite.org/book-review/does-religion-kill-democracy/