رغم مرور مايقارب العقد ونصف على الاجتياح الاميركي لبلادي ؛ وما خلّفه من نتائج كارثية بكل جانب من جوانب الحياة لكن الاقسى والاشدّ ضراوة ما حاق بالإرث الثقافي والفني ومخلدات التراث العريق من عبث وفوضى وسرقات لاتوصف وانا عن نفسي هيهات ان انسى زخم الدمار الذي طغى على معالم العراق الثقافية والارث الحضاري العتيد لبلاد الشمس والدفء والابداع في كل مناحي الحياة المتحضرة ، وكثيرا ماحزّ في نفسي هول الخراب الذي حلّ بحضارة وادي الرافدين منذ اول وهلة دخل فيها اليانكي بلادي فاختلطت فرحتي وسعادتي بسقوط الدكتاتورية الصدامية والتي كانت مُـنْـيتي قبل حلول مَنيّتي ؛ أقول اختلطت بآثار حزني على مقتنيات وطني الأثرية والعمرانية ولم تختفِ ماحييت مشاهد النهب والعبث والتدمير الذي حلّ بالمتحف العراقي ومعظم المرافق الثقافية كالمكتبة الوطنية ومتاحف الفن ونهب نفائس المخطوطات النفيسة واللوحات التجريدية لجماعة الفن الحديث والأثريات العريقة التي لا تقدّر بمال ونفائس الدنيا كلها .
ثم جاءت همجية داعش لتحتلّ الموصل وتكمل على البقية الباقية من الآثار العريقة في متحف نينوى بالخراب والتدمير المتعمّد بالفؤوس وآلات ومناشير الهدم والقطع فأجهزت على التماثيل والمنحوتات وكسّرت ماخلّفته حضارة العراق الآشورية وهرّبت نفائس إرثنا الحضاري وبالأخص القابل للتحميل لتقايض به سلاحا ومالا لإدامة حربها القذرة ضد الرقيّ ومنبت التحضّر .
وأعود لأهدئ سريرتي وأخادع نفسي وأقول لبثّ السلوى في ذاتي المعذّبة ان تلك هي سمات الحروب والغزوات ونتائجها الكارثية على الشعوب ، فلسنا وحدنا من ابتليَ بالحروب وويلاتها وتعرّض للغزوات الاجنبية وذاق مرارة استحكام الاجنبي الغريب وأذنابه على مقدرات شعوب مقهورة أذعنت لحكم العساكر الغازية .
وكلنا يعرف حجم الموت والمجازر التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية التي فاقت في ترويعها للبشرية أضعاف مضاعفة مما يجري الان ببلادنا لكني هنا وددت ألقاء الضوء على بعض المواقف النبيلة والانسانية في الحفاظ على الموروثات الخالدة والسمات الجمالية في الادب والفنّ وكل مايمتّ الى الاعمال الابداعية بصلة من اجل صيانتها وتخليدها والحفاظ عليها وسط كل هذه المحارق .
أنقل هنا مثالاً واحدا عن مثل الحالة في الاهتمام بالمنجزات الإبداعية الانسانية ؛ فعلى الرغم من شراسة النازية وهمجيتها أثناء حصارها مدينة " سانت بطرسبورغ " أو " لينينغراد " كما سمّاها السوفييت ؛ لكن هناك أوامر وتعليمات صدرت من القادة النازيين ( نعم النازيين أنفسهم ) بعدم المساس في أي جانب من متحف " الارميتاج " العريق الذي كان يضم في وقت الحرب مايفوق الاربعة ملايين لوحة فنية صنعتْـها أنامل الفنانين العالميين ومن مختلف الجنسيات وظل محافظا على مقتنياته طوال مدة حصار تلك المدينة الصامدة ، ليس هذا فحسب بل ان مدرسة الرقص والباليه في المدينة نفسها والتي كانت تضمّ مايقرب من / 200 طفلة وصبيّة برفقتهم الكادر التعليمي بقيت في حماية تامة ولم تطلها حتى ولا طلقة واحدة وصدرت الأوامر ايضاً بعدم الاقتراب منها أو تعريضها لأذى الرصاص بل ان الألمان النازيين رغم وحشيتهم وصلفهم كانوا يحملون الأمتعة والافرشة والمواد الغذائية وكل مستلزمات العيش ليكون الاطفال في مأمن من نار الحرب وقحط الحصار .
ولست في حاجة الى التذكير بان انجلترا وألمانيا في خضم الموت العائم في معظم اوروبا سنوات الحرب الثانية قد اتفقتا وقتذاك على عدم قصف جامعتي أوكسفورد وكامبريدج في بريطانيا وجامعتي همبولت وبتبجن في ألمانيا حفاظا واحتراما للعلم وأهله ومحبيه وبقيت هذه الجامعات مصانة رغم كل الهدم والخراب في معظم مرافق الحياة .
وهل اكثر حكمةً وتقديساً للإرث الحضاري والفني عندما قررت النخبة السياسية والثقافية بين دول التحالف ودول المحور ( Axis powers ) حينما تمّ الاعلان عن فتح مدينتي روما وباريس بلا قتال ودخول العساكر فيهما دون إطلاق اية رصاصة على الجنود الداخلين على هاتين المدينتين حفاظا على معالمهما العريقة وصيانة المتاحف والتماثيل وماخلّفته أيدي أجدادهم من صروح ثقافية وفنية كي تبقى على وضعها سليمة مهما كلّف الأمر .
لطالما كان هناك سؤال يحيّرني : أيعقل ان النازية مبتكرة وصانعة الهولوكوست على كل همجيتها وعِرقيتها واشتداد كراهيتها العنصرية وهي من شيّدت معسكر " داخوا " الرهيب المرعب وأبادت ملايين الاجساد البشرية حرقا وسلخا وقتلا ، وكيف يمكنها ان تضعف امام تدمير متحف بارز مثل " الارميتاج " وبعدها تمدّ يدها عونا لأطفال وطفلات في مدرسة للرقص والباليه وسط سانت " بطرسبورغ " ؟؟ 
نفس الامر المحيّر ايضا إزاء ماعملته الفاشية أوان الحرب الثانية حينما أنشأت معسكر " الكولوسيوم " الرهيب حينما كانت تُشوى الاجساد البشرية المعارضة بعد ان يتمّ سلخها . وها هم يقفون مغلولي الأيدي ويرون الحلفاء يدخلون روما دون ان ترمى طلقة واحدة ؛ وكل ذلك من اجل الحفاظ على معالم روما وعراقتها الخالدة ومجدها الرومانيّ التليد .
أحسب ان الخلود الابداعي في الفن والادب والعمارة والارث التاريخي المجيد اقوى بكثير من عنت الحروب وهوجائها ورعونتها وأمرائها والخائضين غمارها ؛ لهذا بقيت قصة الحب خالدة بين الممرضة المتطوعة لمعالجة جرحى ومعوقي الحرب وبين سائق سيارة الإسعاف في قصة ارنست همنجواي الخالدة " وداعا للسلاح " فهذه الرواية كنت قرأتها منذ ماينيف عن اربعة عقود غير اني نسيت معظم الحوادث الدامية المتعلقة بالحرب باستثناء حالة الحبّ النقية الصادقة بين هذين العاشقَـين المتطوعَين لمعالجة جرحى الحرب ومن المحال نسيان سمة الحبّ بينهما وكأنّ تلك السمة عملت شرخا في ذاكرتي لا يمكن محوه وسط معمعة شرور الحرب لتخلدهما الى الابد .
كم من الاغاني والأناشيد الإبداعية ذات المواقف النبيلة خرجت من رحم الحروب وظلت حيّة وخالدة الى يومنا هذا بعد ان اندثر كل شيء وطُمرتْ مآسي الحروب وآثامها وفُـنِي رجالها ومشعلوها وصاروا نسيا منسيا . 
ففي رواية الحرب والسلام لتولستوي مازلت اتذكر مشهدا قصصيا غاية في النبل والجرأة والإقدام والشجاعة يوم جمع أحد القادة عشرةَ جنودٍ امامه مما تسمى بالحضيرة في التشكيلات العسكرية طالبا جنديا واحدا لمهمة خطيرة قد تودي بحياته وأمرَ من يرغب التطوّع لهذه المهمة الشاقة ان يتقدم خطوة واحدة لأجل فرزه عن بقية رفاقهِ ثم انشغل بنفس الوقت بأوراق وخارطة حرب في يده ليقرأها ويمعن النظر فيها ريثما يتقدم الجندي المتطوع ... بعد فترة قصيرة تراءى للقائد أن لا احد بادر وخطا خطوته فترتيب الوقوف لم يتغيّر ، فصرخ في وجوههم متسائلاً : ألم يبادر احد منكم لتنفيذ طلبي ؟؟ 
هنا أجابه احد الجنود واثقا اننا كلنا تقدمنا خطوة واحدة يا سيدي ولم ترنا بسبب انشغالك بأوراقك .
ويظلّ الادب السامي في ابداعه وتصويره للمواقف النبيلة قصّا كما في هذا المشهد الذي كتبه تولستوي ام شعرا ام مسرحا أم سينما ام لوحة تشكيلية كما في لوحة " الغورنيكا " لبيكاسو وتصويره لمآسي هذه القرية الصغيرة في اقليم الباسك باسبانيا ويبقى خالدا باقيا حيث تنتهي الحروب ويموت او يعوّق ضحاياها لكن جمالها الابداعي يستمر في البقاء والخلود ، تماما كأغاني الحروب وأناشيدها الطامحة الى السلام والوئام والتلاقي تتويجا للحب وترسيخ المواقف الانسانية العظمى المحببة الى النفس ؛ فالإبداع الفني والأدبي وحدهما مَن يبقيهما خالدة راسخة فينا .
اجل هكذا يكون تقدير الفن وتقديس الجمال والإبداع كي ينتصر وحده وتخسر الحروب وقادتها وعابثوها ومخرّبو إرث الشعوب ويرمون في مزبلة التاريخ حتى لو انتصروا ظاهرا في وقت ما غير ان الابداع ينتصر في كل الاوقات وعلى مرّ الازمان ؛ فالحروب وأمراؤها سوف ينسون حتما وتطمر قذاراتهم ومفاسدهم نسياناً وإهمالا مثل زبَدٍ يذهب جفاءً لكن الاضاءات الإنسانية والإشعاعات الإبداعية التي ترقى وتسمو بالنور والتألق تظلّ خالدة حتى لو انبثقت وخرجت من رحم الحرب وتستمرّ أغانيها صادحة أمدا طويلا .
هو ذا سرّ خلود الإبداع وتسامي الفنّ والجمال والمواقف الإنسانية المشرّفة ؛ فالبقاء للأجمل والخلود للأصلح .
وقد قال مرة سيد الانطباعية الفنان " فان كوخ " قبيل ان ينتحر وهو دون الاربعين من عمره ان كل شيء فينا سيطمر ويختفي من هذه الحياة التي مررنا بها عدة سنوات ؛ وفي النهاية سوف لاتتحدث عنا سوى لوحاتنا .