كشفت دراسة أعدها الباحثان أحمد السعودي وأحمد طاهر "الديمقراطية الكويتية.. التاريخ – الواقع – المستقبل"، والصادرة من دار العربي للنشر، عن أن عملية التحول الديمقراطي تعدّ من أكثر العمليات التي تتعدد وتتداخل فيها المتغيرات، وكذلك القوى الفاعلة بما يجعلها عملية بالغة التعقيد هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كشفت عن خصوصية التجربة الكويتية، بما لها من سماتها الخاصة ومسارها وكذلك نتائجها، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى العوامل والمحددات الدافعة إلى التحول والتغيير، سواء أكانت محددات داخلية أو خارجية.

إيلاف: قال الباحثان "اتضح من خلال استعراضنا لتاريخ تلك التجربة الكويتية الممتد على تاريخ طويل من المحاولات، أنها كانت نتاجًا لمجموعة عوامل ومحددات داخلية تتعلق بالأوضاع الداخلية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وتركيبة المجتمع الداخلية من حيث تكويناته الاجتماعية والاقتصادية ومدى تبلورها، وأيضًا نوع النخبة الحاكمة ودرجة تماسكها الداخلي، فضلًا عن حال المجتمع المدني وطبيعة الثقافة السياسية السائدة. كما إنها نتاج لمجموعة عوامل ومحددات تتصل بالأوضاع الإقليمية السائدة، وبطبيعة النظام الدولي الراهن، ونوعية العلاقات الدولية للدولة.&

نموذج ملهم
وأوضحا أنه في ضوء ذلك، شهدت الكويت تجربة حقيقية للتحول الديمقراطي، اتسمت بحالة من المد والجزر، اتضحت جليًا في تجربتها البرلمانية التي شهدت حالة من عدم

التجربة الكويتية بقيت نموذجًا محليًا وإقليميًا ملهمًا

الاستقرار غير المسبوق في السنوات الماضية، كان لها بالغ الأثر في زيادة من رصيدها ومصداقيتها من ناحية، ومن ناحية أخرى ساهمت بالكثير من التشكيك والتساؤل حول جدواها ومردودها بسبب الكثير من الاحتقان والتأزم بين السلطتين وتكرر الأزمات والصدامات بين الطرفين في المشهد السياسي الكويتي أدت إلى تآكل الكثير من ذلك الرصيد.

وأكد الباحثان أن التجربة الكويتية بقيت نموذجًا محليًا وإقليميًا ملهمًا ومحفزًا لأكثر من جيل للكويتيين والخليجيين، وحتى للكثير من خارج منطقة الخليج. وتطورت التجربة بشكل تراكمي لتشكل تفردًا بين أقرانها في الدول العربية. وقد بدأت التجربة الكويتية، وخاصة جانبها البرلماني، بشكلها الرسمي الدستوري، في مطلع الستينيات من القرن الماضي، عندما اعتمدت الكويت أول دستور مكتوب، وانتخبت أول مجلس أمة بالاقتراع السري المباشر، وبعده انتخب الكويتيون اثني عشر مجلس أمة، وشهدوا تعطيلًا لخمسة مجالس أمة، واستقالة لخمس حكومات واستجواب لأكثر من أربعين وزيرًا، بينهم وزراء من أسرة الصباح الحاكمة. انتهى الكثير من تلك الاستجوابات، إما باستقالة الوزير أو باستقالة الحكومة أو بحلّ مجلس الأمة.&

أضافا "ساهم ذلك كله في إعادة التفكير بجدوى وعوائد النموذج الكويتي المتفرد في الحريات والمشاركة والجرأة والرقابة وبسقف مرتفع للحريات في منطقة لم تتجذر فيها هذه المفاهيم والممارسات بعد. بينما ينظر إلى النموذج الكويتي بعض المسؤولين وبعض العامة، وحتى بعض المثقفين في الكويت والمنطقة، على أنه لم يعد نموذجًا ملهمًا ومحفزًا، وهو ما يجعلنا نقرر أنّ تلك الأزمات المتكررة لم تكن طارئة أو أمرًا جديدًا، بل لها جذور تاريخيّة ومسبّبات جوهريّة تتعلق بتبادل السلطة وصلاحيات المجلس وآليات الرقابة الشعبية".

قهقرة الإسلاميين
تابعا "تميّزت تجربة الكويت الديمقراطية بدينامية في إطار حكم وراثي اعتمد إلى حد ما التفاهم والتشاور الذي وسع من مساحة ممارسة الحريات.. كل ذلك، في ظل بروز قوى سياسية عبّرت تاريخيًا عن التوازنات السياسية التي تأثرت بما ساد المنطقة من انعكاسات لحركة التحرّر العربية والمدّ القومي وبعدها الديني، وبتأثير من القوى المذهبية والقبلية".

ولفت الباحثان إلى أنّ "ما شهدته هذه القوى من منافسة ومواجهات قوية وحادّة في بعض الأحيان، لاسيما بين التكتلات الانتخابية من الإسلاميين السياسيين وتحالفات القبائل، والنزاعات الطائفية، قد أضعف بحسب المحلّلين من وضع الدولة التي تعاني صراعات بارزة ومستترة بين أقطاب مراكز القوى في أوساطها".

ورأى الباحثان أن الأزمة الحقيقية في الحياة السياسية الكويتية ليست في تعدد المواجهات بين الحكومة والبرلمان، ولا في اللجوء دائمًا إلى خيار استقالة الحكومة أو حل البرلمان، فهذه المظاهر ليست إلا تعبيرًا عن العرض لا المرض. فتعدد المواجهات وسخونة التفاعلات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تُعَدّ علامة صحية، أو على الأقل لا تعني بالضرورة أن العلاقة بين الطرفين غير سوية. لكن المشكلة الحقيقية في أن تلك الأزمات تمرّ في كل مرة بالتسلسل نفسه. وفي حقيقة الأمر من غير المحتمل في حال أن يطرأ تغير على هذا النمط؛ وذلك نتيجة للخلل الأصلي في صلب النظام السياسي، حيث لا غلبة حقيقية لأي من السلطتين على الأخرى.&

استجوابات برلمانية
استرسلا قائلين "فبصرف النظر عن مواد الدستور وما يتيحه مثلًا للبرلمان من قدرة على سحب الثقة بأحد الوزراء أو الحكومة كلها، فإن الأمر الواقع يشير إلى أن القرار الأخير يظل دائمًا في يد الأمير، الذي يملك رفض إجراء تغيير وزاري، بل وحل البرلمان".

وأضافا أنه على خلاف ما هو متعارف عليه في النظم السياسية البرلمانية، تقتصر صلاحيات مجلس الأمة الكويتي الفعلية على المهام التشريعية والرقابية، ولا تمتد هذه الصلاحيات - حسبما يفترض في السلطة التي تنوب عن الشعب - إلى القدرة على تصحيح مسار السلطة التنفيذية. ومن هنا تتعدد الأزمات مع كل خلاف، أيًّا كان حجمه، حيث لا يملك البرلمان مصادر قوة فعلية تمكنه من إجبار الحكومة على التراجع عن قرارها؛ ولذا يلجأ البرلمان دائمًا إلى أسلوب الاستجوابات البرلمانية، بالتوازي مع إثارة حملة إعلامية، وتأليب الرأي العام على الحكومة في الموضوع محل الخلاف، فتصبح الحكومة أو أحد وزرائها في مواجهة ضغط إعلامي أو شعبي أكثر منه دستوريًا أو سياسيًا.

ومع الإقرار بأن ميزان القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ليس متكافئًا، ويميل نسبيًّا في مصلحة مجلس الأمة، فإن استناد السلطة التنفيذية دائمًا إلى إمكانية تدخل الأمير في أي وقت يضيق كثيرًا من المدى الذي يمكن للبرلمان أن يصل إليه في تعاطيه مع الحكومات المتعاقبة.

خلل في الفهم
وأشار الباحثان إلى أن هذا هو الوجه ليس الوحيد لحقيقة الخلل الذي تعانيه الحياة السياسية الكويتية، فصفة الجزئية أو التنفيذية التي تتسم بها القضايا الخلافية، وعوامل نشوب الأزمات المتتالية تكشف بدورها عن جانب آخر لا يقل أهمية عن خلل توزيع القوة بين السلطات: وهو الخلل في فهم دور البرلمان والمهام المنوطة بنواب الشعب. وربما يبدو من الطبيعي أن يهتم نواب البرلمان بقضايا مثل فتح قطاع النفط أمام الاستثمارات الأجنبية، أو قضايا التسلح وصفقات السلاح المثيرة للشبهات؛ لكن كثيرًا ما يتطرق نواب مجلس الأمة الكويتي إلى قضايا أقل أهمية. فأحيانًا تشمل اهتمامات النواب مسائل محلية في صميم اختصاصات المجالس البلدية، وأحيانًا يتطرق البرلمان إلى قضايا عدلية بحتة، يفترض أن يكون الفيصل فيها للقضاء.

كذلك وبتحليل الأداء البرلماني الكويتي على مدى العقدين الماضيين، نلاحظ أن مجال العمل البرلماني يكاد يقتصر على المهمة الرقابية، بينما تراجعت إلى حد كبير مهمة التشريع ورسم السياسات وسنّ القوانين. وتحوّل الأمر تدريجيًا إلى أن يصبح البرلمان الكويتي في موقف المستقبل فقط للمراسيم والتشريعات. ويبدأ بعد ذلك في التفاعل واتخاذ موقف مع الحكومة بشأنها؛ مما أتاح الفرصة للحكومة لتمسك بزمام المبادرة حتى في مجال التشريع.

تحتاج مراجعة
وخلص الباحثان إلى أن التجربة الكويتية في حاجة إلى وقفة مراجعة، وتقويم جاد، حتى يمكن انتشالها وتقويم اعوجاجها، وإعادة تألقها وبريقها وإلهامها، الذي يحتاجه كل من الكويتيين وشعوب المنطقة، لتجديد الإيمان والتمسك بتلك التجربة، وليس إقصائها. وقالا "هنا تبرز لنا ضرورة توافر متطلبات خاصة لضمان نجاح عملية التحول والتغلب على العقبات التي يمكن أن تواجهها، ويمكننا التمييز بين نوعين من المتطلبات، هما:&

أولًا- متطلبات فكرية وسياسية، وتتمثل في إعمال الفكر وتكثيف الحوار بين أصحاب المصلحة في الديمقراطية بشكل عام، وبين الباحثين والمفكرين والممارسين للعمل العام بشكل خاص، وذلك من أجل تحديد مفهوم الديمقراطية الذي يمكن أن تتوافق عليه التيارات والقوى التي تنشد التغيير، وتوضيح مضامينه بهدف تأسيس الديمقراطية في الفكر والثقافة وتوسيع قاعدة الساعين إليها من أصحاب المصلحة في تحقيقها.&

ثانيًا- متطلبات مؤسسية وتنظيمية، وتهدف إلى تنمية الرؤية المستقبلية على المستوى الوطني وعلى المستوى الإقليمي، ومن أهم هذه المتطلبات إقامة منتدى للحوار، ومنظومة من الملتقيات الوطنية والإقليمية، وتسعى إلى تعظيم الفهم العام للديمقراطية وخلق رأى عام وطني وإقليمي مستنير بأهمية التحول نحو مزيد من الديمقراطية الصحيحة.. وفي ضوء هذه المتطلبات، تصبح الديمقراطية المطلوبة تلك التي تتوافر فيها هذه الملامح أو المظاهر، وهي:&

منافسة مكفولة
ـ حق التصويت مكفول للجميع بغضّ النظر عن النوع والعرق والدين، وإن شاب هذه الخاصية عيب صارت "ديمقراطية انتقائية" (شرط الشمول). وكان المثال على ذلك الولايات المتحدة حتى عام 1920 وسويسرا حتى عام 1971، وكانت الدولتان منعتا المرأة من المشاركة في الانتخابات.

ـ منافسة مكفولة لكل القوى السياسية التي تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وإن شاب هذه الخاصية عيب صارت "ديمقراطية غير تنافسية" (شرط التنافس)، وعلى هذا فإن منع الإسلاميين المعتدلين في الدول العربية من الدخول في الانتخابات، بحجة أنهم جميعًا إرهابيون أو منع العلمانيين من الدخول في السباق من أجل مقاعد البرلمان في إيران أو السودان ينال من شرط التنافسية.

احترام للحقوق المدنية، وإلا تتحول إلى "ديمقراطية غير ليبرالية". (شرط الليبرالية) وهو مثال نظامي الحكم العنصري في جنوب أفريقيا وناميبيا، حيث كانت تجري انتخابات حرة ونزيهة وتداول سلمي للسلطة في ظل غياب واضح للحقوق والحريات المدنية لقطاع واسع من المواطنين الأفارقة.

ـ وجود تعدد لمراكز صنع القرار بما يتضمنه هذا من مساءلة ومسؤوليات متوازنة، وإلا تحولت إلى "ديمقراطية انتخابية" (شرط المساءلة). والمثال على ذلك روسيا الاتحادية تحت ظل الرئيسين يلتسن وبوتين، حيث تجري انتخابات فيها درجة عالية من التنافس، بيد أنها لم تضع أيًا منهما تحت مسؤولية حقيقية أمام البرلمان أو حتى العودة إليه في كثير من القرارات.

ثقافة الديمقراطية
ـ قبول كل القوى السياسية لقواعد اللعبة الديمقراطية بغضّ النظر عن نتائجها، وإلا تحوّلت إلى ديمقراطية غير مستقرة (شرط الاستدامة). فالتاريخ شهد عددًا من القوى السياسية التي وصلت إلى سدة الحكم في انتخابات حرة نزيهة أو بوعود بإقامة نظم ديمقراطية، لكنها لم تف بوعودها، مثل هتلر في ألمانيا النازية، أو جبهة الإنقاذ في الجزائر، أو نظام حكم مشرف في باكستان. فمع انتفاء شرط الاستدامة، تنتفي قدرة الديمقراطية على إنتاج آثارها الإيجابية.

ـ المصدر الوحيد للشرعية هو أصوات الناخبين، ولا يقبل الناخبون بغير أصواتهم الحرة مصدرًا للشرعية، وإلا تحوّلت إلى ديمقراطية نخبوية أو ديمقراطية بلا ديمقراطيين (شرط الثقافة الديمقراطية). فالتاريخ يشهد العديد من حالات التراجع عن الديمقراطية بعد إقرارها لمصلحة نخب عسكرية تتبنى شعارات شعبوية، مثل مصر والعراق، في أعقاب الحقبتين الليبراليتين تحت الاحتلال، والأرجنتين والبرازيل في السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات. ولم يبق لنا في ختام تلك الدراسة إلا القول إن إرساء الديمقراطية في أي مجتمع من المجتمعات لا يحتاج مؤسسات وإجراءات وقواعد وقوانين – رغم أهمية كل ذلك - وإنما يحتاج قبل ذلك نمطًا ثقافيًا مهمًا، وهو ثقافة الديمقراطية، فهي التي تضمن بقاء الجانب المؤسسي وتُفعل الإجراءات والقواعد.
&