في تصديرها لديوانها :" رمال عذراء" تُقرنُ &ميرنا حبيب الداقور عملية الكتابة والإبداع بالموسيقى والإيقاع، حيث تقول:" بين حرف وحرف، هناك أحدٌ ما يتقن العزف بمهارة على إيقاع رنة خلخال الحياة" العزف على إيقاع الحياة التي تمضي ذهابًا وعودة، وتتمشى حيالنا كي يرن خلخالها وترن أحداثها ومواقفها ومكابداتها، من هذا الرنين بإيقاعه المنتظم أو اللا منتظم تتولد كتابة ما، ورؤية ما، والمبدع هو من يتسنى له أن يعزف بمهارة، تبعًا لما تتطلبه آليات الكتابة نفسها من أجل الوصول إلى التعبير عن إيقاع الحياة.&
هكذا في نص يقع في صفحتين بعنوان:" الصفحة الأولى" تومئ ميرنا الداقور إلى فضاء الكتابة محددة إياها، وهي الكتابة التلقائية، التي تعبر عن لحظة حنين أو انتصار أو انكسار أو ندم، ولكن في شكل موقّع تنشد فيه الكلمات والحروف موسيقاها الخاصة.&
في الديوان الصادر عن مؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي ( الطبعة الأولى يونيو 2017 ) الذي يتضمن (56) نصا قصيرًا ، &تبدأ الشاعرة بنص بعنوان:" الكأس الأخيرة " / ص.ص 9-10 :
أي وجع يخترق جسد حروفي
في أعماقي لغة صامتة
وذاكرة ممتلئة بالصور.&
الإشارة هنا كذلك إلى الكتابة، وهي كتابة وجع ومكابدة لا كتابة راحة أو يقين، والوجع ليس عضويا بالضرورة ولكنه وجع الوعي ووجع الذاكرة الممتلئة بالوقائع والذكريات والمشاهد والصور. هكذا في الإشارة الأولى للنص تستدعي الشاعرة هذه العلاقة بين الحرف وبين ما يمكن كتابته، وما يمكن أن يتحول من مجاله الصامت إلى كلامه الصاخب المقروء. في هذا التحول ثمة انفعالات ورؤى وثمة تجليات لماض وحلم بمستقبل، وفيما بينهما تتسلل المخيلة لتقول وترى :&
أراكَ بقلبي نورًا
أراك نجمًا
وأتذكر عزفك الحزين.&
هكذا فإن الكتابة تذكر، وبحث عن إيقاع، ورؤية للمواقف والأحداث والمكابدات بمختلف تجلياتها، وفي نصوص كثيرة تشير الشاعرة أو لنقل تبني فضاءات نصوصها على استحضار الكتابة وآفاقها الدلالية المتعددة كما في نصوص:" الحرف التاسع والعشرون" و" حرف متمرد" ، في محراب الضوء، ظل وضوء، نور وبخور، اسقني حروف اسمك، لكن كل هذه الآفاق ترتبط بالآخر الوجداني الحاضر على الدوام.&

خطاب الآخر رومانتيكيا:
أكثر نصوص الديوان تتوجه لآخر، بمختلف المضامين والتعبيرات، ما بن توجيه الخطاب لضمير المخاطب (أنت) أو تجريده أحيانا إلى ضمير الغياب (هو) &كما في نص :" كلمات قيد الانتظار " / ص 60 أو مخاطبته عبر كاف الخطاب، كما في نص " لو أن هناك حياة أخرى" / ص 62 – تمثيلا - &فالآخر حاضر على الدوام كأنه يشكل فعلا مشاركا في إنتاج النص، ذلك لأن استحضار الآخر، بتجاربه ومواقفه سواء كانت حقيقية أم متخيلة تصنع جانبا كبيرا من الدلالة النصية، وتجعل الآخر مشاركا – ولو بشكل ضمني – في إنتاج المعنى، في &( نور وبخور ) مثلا تتوجه للآخر مباشرة:
لا أرتشف كلمات الحب
إلا من كأسكَ
هي كأس من قربان
من نور وبخور
تذوب بها حواسي
وأذوب بها دفعة واحدة
أنتَ قصيدتي والمعنى . / 25&
هكذا وبشكل خبري مباشر، تحدد الشاعرة صورة الآخر الذي يتماهى في أشياء كثيرة، وأولها تماهيه في القصيدة والمعنى على حد تعبير الشاعرة.&
إنه استدعاء دائم للآخر في النصوص، حتى لأنه يبلغ درجة التماهي الصوفي " فيذوب كلك بكلي" / ص 27 الآخر كامن في الكتابة والرؤية، بصورته الوجدانية، هو يشكل عناصر البنية الدلالية للنصوص، وهو يحضر في (54) نصًّا من نصوص الديوان عدا نصين هما:" حياة بلا عنوان" و" رمال عذراء" .&
إن الشاعرة تحشد تعبيراتها في فضائين هما: الآخر، والكتابة، وهذا الحشد يتتالى بأشكال متنوعة تلامس الحواس، وتلامس حديقة الوجود، وتنتبه إلى الحسي والعاطفي ما بين القبلات واللفتات والرؤى أو الكلام والاشتياق، أو لغة الحنين الداخلي للوعي، أو الذاكرة والوداع، والمشاهدات الأكثر تأملا فيما هو داخلي، والواقع لا يحضر بتفاصيله لكنه يحضر في الخلفية بأشكال إشارية مجردة. بمعنى أنه لا يومي ولا معيش ولا ملموس، فهذه الأشياء تتوارى خلف التأمل الأوسع لعلاقة الذات بالآخر من جهة، وعلاقتهما معا بالوجود والعالم من جهة ثانية.&
&
حياة بلا عنوان:
ركزت معظم نصوص الديوان على رصد العلاقة مع الآخر، بحس رومانتيكي، وبوعي شعري مكثف يرنو إلى ملامسة مختلف صور هذه العلاقة حلما أم تخييلا أم واقعا أم بحثا عن تجربة أم تعبيرا عن تجربة، والذات الشاعرة ها هنا تنهمك في رصد هذه العلاقة بسلبيتها أم بإيجابيتها، بتأملها في الآخر في مطلقه وليس الآخر الحميم بالضرورة. الشاعرة تصبو من هذا التأمل إلى بسط صورة الآخر حيال القارئ من وجهة نظر شعرية على اليقين. وهذه الصورة هي صورة رومانتيكية على الأغلب، تتجاذب أطراف الحلم، والحب، والأحاسيس الروحية الكامنة، وما تقوم به الشاعرة حقيقة هو مزج بين فعل الكتابة وفعل الحب، إلى درجة التماهي والتقديس كما في نص:" رسالة بلا تاريخ" أو نص:" شاكس بعضي" الذي يتحول فيه الآخر إلى قربان أو يتحول إلى صلوات، ونبيذ، وحروف، ولغة، في نصوص أخرى، كما أن الآخر يحضر صورة وصوتا، ويصبح صوته مصدرا للقصيدة، وهذا الصوت كذلك:" يضع بصمة من ضوء/ بكامل حواسي الخمس، يترك خطيئته العارية في بحة الذكرى" / ص 48 . وهو كذلك (الآخر) مهيمن على حالة الكتابة معنى ومبنى:" وحدك تتوالى في هواجس المعنى
وحدك تجوب في خاصرة المحبرة
ثم تتسرب لأخيلة القوافي وأبيات الشعر
كيف لي أن أقنع الكأس باعتناق النبيذ
وأنا التي صُلبت حواسي في كأس خمرتك" / ص 51
ومع كل هذه التوصيفات الراصدة للآخر في جل نصوص الديوان ما يزال الآخر مجهولا ويشكل علامة استفهام:
أنتَ هناك علامة استفهام
وأنا هنا مصلوبة
في الركن القصي لذكراك
أبحث عن يقين الأجوبة / ص 85&
ليظل بمعنى ما متعددا متكثرا بلا نهاية، هل هو آخر مطلق غير محدد، هل هو آخر كامن فينا، هلى هو آخر متكثر كما تعبر الشاعرة:" ما أكثركَ وأنت واحد" &/ ص 95 في تعبير دال يثير هواجس الشعر أكثر مما يثير تقريره وخبريته؟&
وعلى الرغم من هذا التجلي الكثيف للآخر، ثمة نص مختلف فريد بالديوان تترك فيه الشاعرة الآخر لتبوح بمكنوناتها هي، كما في نص:" حياة بلا عنوان" :&
لم تقبل أن يكسرها القدر مرتين
كفّنت أنوثتها بيديها
حضنت أوراق عمرها
خبأت دموعها بقلبها
ومضت وحيدة
لأبعد نقطة منها عنها
تصنع لنفسها حياة بلا عنوان
بلا أقدار بلا انتظار
وبداخل أوردتها حلم
وبقايا لقاء
قد يأتي&
وقد لا يأتي / ص 47&
هذا هو النص الوحيد الذي تعبر فيه الذات الشاعرة عن وعيها الداخلي باستثمار آلية التجريد إلى (هي) فتتأمل الذات في صورتها الغائبة/ الحاضرة معا، وتنثال المعاني بعيدا عن سطوة حضور الآخر ، صانعة حياتها الخاصة التي تتحاور فيها ذاتيا، مما يعطي قدرا من إعادة رؤية الذات وتحديد مكامنها وما ينطوي عليه ذهنها من تجليات ومواقف من العالم.&
&
رمال عذراء:
النص الأخير بالديوان بعنوان:" رمال عذراء" / ص 101-102 يلخص بكثافة رؤية الذات الشاعرة مع الآخر عبر ضمير الجماعة:" نحن" يلخص الصوتين معا، صوت المرأة والرجل، وبالأحرى صوت الإنسان ورؤيته للوجود، وعلاقته بالكتابة والحياة ..&
نهمس للورق والحرف يهمس لفصول الحياة
بهذه العبارة تستهل الشاعرة نصها، وهي عبارة تربط بين الكتابة والحياة، كلاهما يقود للآخر من أجل البوح والتعبير، كلاهما كتابة بمعنى ما، الكتابة بوصفها نوعا من الفعل الطباعي الذي يختزن الانفعال والرؤية، والحياة بوصفها مسرح الفعل المفتوح الحقيقي بتجاربها وأحداثها. وهنا تومئ الشاعرة إلى العلاقة بين الخيال والأيام، الخيال بما يمثله من أجواء أبعد من الواقع، والأيام بأخبارها وأحداثها المتقلبة، لتختم نصها بالقول:
بين الذات والوجود
نتبع بوصلة الحياة ونسير بدروب
لم تدنسها خطايا الزمن
ونعبر بخطى ثابتة فوق رمال عذراء
نحفر أسماءنا بألوان الماس
&
إن كينونة الآخر تتجلى أكثر مع هذا التركيز من قبل الشاعرة، وهو تركيز أعطى الديوان ككل نوعا من الوحدة الدلالية التي تصبو إلى قراءة الآخر بمختلف تجلياته الوجدانية، لكن من المؤكد أن القيم التعبيرية تحتاج إلى أن تقل القارئ بعيدا، وأن تستقصي أبعد ليشعر القارئ باختلاف ما في طبيعة الأداء الشعري وحيويته، &على سبيل المثال هناك: التبرير الشعري الذي - ربما - يقتل أسلوبية النص وكثافته كما في : إن أجمل ذنوبي معك أنني سامحتك
والمسامحة حرية وقداسة وعظمة " / ص 32 حيث تبرر الشاعرة المسامحة وتفسرها، كما أن النصوص قليلة الأسئلة، تركز أكثر على الجمل الخبرية ، وعلى اليقينية أحيانا، رغم أن جدلية الارتياب / اليقين تصنع حالة من التوهج للعبارة الشعرية.&
وهناك خطأ طباعي ربما لم يتم الانتباه له وهو تكرار نص واحد بعنوانين، والنص هو :" شاكس بعضي " ص . ص 43-44 مكرر في ص. ص 86-87 &بعنوان:" نزوة قلم" .&
بيد أن هذه الملاحظات التي يمكن استدراكها لاحقا، لا تنفي أن صورة الوحدة الدلالية الكلية للديوان تحتفي بالآخر، وتضع حيال القارئ قسمات كثيرة من ملامح هذا الآخر، منبثة في العلاقة بينه والكتابة، وفي أسطرته وتحويله إلى صورة مقدسة أحيانا، وإلى قربان وأبجدية وحروف أحيانا أخرى، لينهض من جديد من تحت رماد الكتابة، ويتوالد أكثر ويتكاثر استقصاؤه ما بين إشراقة صورة وانثيال عبارة ودقة معنى.&
&