&
تشكل دراسة مصداقية الإنترنت كوسيلة إعلام حديثة منعطفاً هاماً فى الوقت الراهن باعتبارها صفة متلازمة وأساسية للتعرض الانتقائي لمحتوى وسائل الإعلام، لاسيما فى ظل الانتشار المتزايد والملحوظ لاستخدام الإنترنت فى المجتمع المصرى، وازدياد إقبال الجماهير عليها كوسيلة للاتصال الجماهيرى والشخصى. ولذلك يسعى هذا الكتاب "مصداقية الإنترنت: العوامل المؤثرة ومعايير التقييم" للباحث د.شيرين محمد كدوانى، إلى تقديم إطار نظرى يساعد فى فهم كيفية تقييم مصداقية تلك الوسيلة.
وقد رأى كدواني في كتابه الصادر عن دار العربي للنشر إنه مع ظهور وانتشار استخدام الإنترنت كأحد أهم مصادر المعلومات لدى الجمهور، بدأ البعض ينظرون إلى شبكة الإنترنت على أنها تشكل بديلاً قوياً لوسائل الإعلام التقليدية؛ نتيجة ما توفره هذه الوسيلة الجديدة من إمكانيات تسمح بتقديم خدمات متخصصة لعدد كبير من الجماهير، فهي تجمع بين خصائص الوسائل الصحفية والإذاعية والتلفزيونية، وتتميز بالتفاعل الاتصالي بين القائم بالاتصال والمتلقى بدرجة تسمح للأخير أن يمارس دوراً أكبر على أهداف ومضمون وشكل ووقت الاتصال؛ إذ تخطت حدود الزمان والمكان، وأوجدت مجتمعات افتراضية ذات نظم خاصة غير خاضعة لتقاليد وأعراف وقيود المجتمعات التقليدية.
وقال "إلا أنه بالرغم مما تتمتع به الإنترنت من مزايا، لا تزال الآليات الكفيلة بالتحكم الأمثل فى هذا الفضاء المعلوماتى غير كافية، مما نتج عن فجوة بين التحفظ على مصداقية هذه الشبكة من جهة، ومن جهة أخرى عدم إمكانية الاستغناء عن هذا المصدر الذي لا يضاهيه أى مصدر آخر على الأقل فيما يخص جوانبه الإيجابية من حيث الكم الهائل من المعلومات التي تتيحها؛ مما يدفعنا هنا إلى الاهتمام بدراسة مصداقية هذه الوسيلة".
وأوضح كدواني أن مفاهيم الموضوعية والإنصاف والعدالة والشمولية والتوازن تتخذ أشكالاً جديدةً فى هذه البيئة الإلكترونية تجعل من الصعب تحقيقها بشكل حرفى؛ نظراً لغزارة المعلومات والأخبار وثراء الوسيلة، وتعدد المصادر وتباين مصداقيتها. فضلاً عن عدم القدرة على تقصى مصداقية المواقع، وتباين المعايير التي يمكن الاستناد إليها فى الحكم على مصداقية المادة الإعلامية، واختلاف طرق التثبت من مصادر المعلومات فى بيئة متداخلة يصعب فيها التأكد من الهوية الحقيقية للمصادر، مع قلة الوقت المتوفر لفحص ومراجعة المعلومات، وتقليد المواقع الإلكترونية لبعضها البعض، ونشرها لبعض الأخبار بدون التأكد من مصداقيتها اعتماداً على توافرها فى مواقع أخرى.
وأكد أنه على الرغم من التطور الكبير والانتشار السريع للمواقع الإلكترونية التي تعرض آلاف الصفحات حول مواضيع مختلفة ومتباينة على شبكة الإنترنت، إلا أن هذا الكم الهائل من المعلومات صاحبه غياب شبه كلى لضوابط الجودة والمصداقية، الأمر الذي وضع المستفيدين من هذه الشبكة أمام إشكالية حقيقية تتعلق بمسألة التمييز بين مختلف المعلومات المنشورة فى هذه المواقع؛ فليس كل ما يتم نشره على الشبكة يتسم بالمصداقية، وهو ما جعل المسئولية تقع الآن على عاتق الجمهور فى تحديد مصداقية كل موقع.&
تناول كدواني في الفصل الأول من كتابه مفهوم مصداقية الإعلام، ونشأة وتطور الاهتمام بدراستها دولياً وعربياً، ومنهجية قياسها بمستوياتها المختلفة التى تشمل: مصداقية المصدر والوسيلة والرسالة والصورة، واستعراض أهم العوامل المؤثرة على إدراك مصداقية وسائل الإعلام بشكل عام. وتطرق في الفصل الثانى مصداقية شبكة الإنترنت بشئ من التفصيل، وذلك باستعراض مفهوم مصداقية شبكة الإنترنت وأبعادها ومستوياتها، وخصائص الشبكة الداعمة لمصداقيتها، وتلك التحديات التي تواجهها، فضلاً عن استعراض عدداً من الأطر النظرية التى تفسر كيفية تقييم مستخدمى الإنترنت لمصداقيتها، وأهم العوامل المؤثرة على تقييمهم لمصداقية الشبكة، وأخيراً طرح معايير تقييم مصداقية المعلومات على شبكة الإنترنت التى وضعها باحثون ومؤسسات متخصصة فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.&
وفي الفصل الثالث والأخير عرض كدواني دراسة ميدانية استهدفت الكشف عن كيفية تقييم مستخدمى الشبكة من الجمهور المصرى لمصداقية الإنترنت مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية؛ بما يساهم فى تقديم تراكم علمى يمد القائمين بالاتصال فى وسائل الإعلام بمؤشرات للآليات التي تكتسب من خلالها الوسائل الإعلامية المصداقية، وبما يساعدهم على تطوير أدائهم المهنى لكسب ثقة الجمهور وتحقيق المصداقية.
وأشار كدواني إلى إنه بالرغم من وجود العديد من الخصائص التى وفرتها شبكة الإنترنت لمستخدميها، والتى تميزها عن وسائل الإعلام التقليدية، لايزال هناك عدداً من التحديات والعقبات التى تقف عائقاً أمام استحواذ شبكة الإنترنت على صفة الوسيلة الأكثر مصداقية، وتتنوع تلك التحديات مابين تحديات خاصة بالبنية التنظيمية للشبكة، وأخلاقيات وقواعد العمل المهنية بها، وأخرى متعلقة بطبيعة الوسيلة ذاتها، وهو ما تجلى فى تقييمها كوسيلة متوسطة المصداقية .&
وخلص من خلال نتائج دراسته إلى التأكيد على وجود علاقة ارتباط إيجابية بين تقييم الأفراد لمصداقية الإنترنت، وكل من معدل إستخدامهم لها، ودوافع هذا الاستخدام ، والإشباعات المتحققة منه. وهو ما يتفق بلاشك مع افتراض الجمهور النشط الذى يمثل جوهر نظرية الاستخدامات والإشباعات، والذى ينطبق تماماً على مستخدمى شبكة الإنترنت الذين يتسمون بالإيجابية والنشاط والعمدية فى انتقائهم للمواقع والمضامين التى يتعرضون لها على الشبكة، والتى ارتبطت بتوافر المصداقية فى تلك المواقع ومضامينها؛ فقد أصبح الجمهور هو القادر على التنقل بين الخدمات التى تقدم عبر الوسيط الجديد، وهو القادر أيضاً على تحديد المعلومات التى يريد استقبالها من بين العديد من مصادر المعلومات. ومن ثم فجمهور شبكة الإنترنت يتميز بالنشاط والإيجابية والقدرة على الاختيار الواعى والتفكير؛ وبالتالى القدرة على تقييم مصداقية الوسيلة التى يستخدمها دون غيرها من الوسائل الإعلامية الأخرى.
وأضاف أن المصداقية ليست سمة جامدة وراسخة عبر الزمن، ولكنها متغيراً ديناميكياً يتطور ويتغير وفقاً لسمات القائم بالاتصال والرسالة والوسيلة الإعلامية ذاتها، ويتوقف على عدد كبير من المتغيرات الوسيطة المرتبطة بالجمهور والسياق الإجتماعى والثقافى والسياسى فى المجتمع التى تُدعم أو على العكس تُضعف مصداقية الوسيلة الاعلامية. هذا فضلاً عن اختلاف المصداقية من وسيلة إعلامية إلى أخرى فى المجتمع الواحد، ومن مجال إلى مجال آخر داخل الوسيلة الواحدة. إن مصداقية شبكة الإنترنت ليست متغيراً ثابتاً جامداً ؛ فهى تنطوى فى حد ذاتها على العديد من المستويات والمتغيرات والعوامل المؤثرة عليها؛ وهو ما يؤدى بدوره إلى اختلاف إدراك المصداقية من فرد لآخر، واختلاف المعايير التى يعتمد عليها مستخدمو الإنترنت عند تقييمهم لمصداقيتها، فهى ليست علاقة خطية أو أحادية الجانب من الوسيلة الى الجمهور، ولكنها عملية معقدة ومتغيرة.
وأوصى كدواني بضرورة تطبيق عدد من التوصيات التي ربما تساهم فى تحقيق قدراً أكبر من المصداقية لشبكة الإنترنت، تلك الوسيلة الفريـدة التـي لا يمكـن تجاهلها أو الاستغناء عنها. وتتلخص أهم التوصيات فى النقاط التالية:
أولا ضرورة وضع المتخصصين فى مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لأدلة إرشادية تتضمن مجموعة من الأسس والمعايير التي يمكن لمستخدمى الإنترنت الاعتماد عليها لتقييم مصداقية المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت، والعمل على نشرها بين مستخدمى الإنترنت، وتطويرها أولاً بأول بناءً على التطورات التقنية الجارية؛ لمساعدة مستخدمى الشبكة على الوصول إلى المعلومات والمصادر الموثوق بها، وإعمال العقل فى المعلومات المتوافرة فى تلك البيئة غزيرة المعلومات متعددة المصادر. مع العمل قدر الإمكان على وضع قائمة تضم أسماء أكثر المواقع مصداقية فى مختلف المجالات والتى تصدر عن مؤسسات معروفة الهوية.
ثانيا ضرورة مراعاة مواقع الشبكة المختلفة لأخلاقيات النشر فى ممارسة وظيفتها الإعلامية، وعلى رأسها المصداقية التي تشمل ضرورة توافر العناصر التالية فى مضامين تلك المواقع: الحالية، الدقة، العمق، الاكتمال، الموضوعية وفصل الآراء عن الحقائق، الاهتمام بمصلحة المجتمع وقضاياه، عدم التحيز وعرض الرأى والرأى الآخر، احترام خصوصيات الأفراد، الأمانة فى عرض الموضوعات دون مبالغة أو تحريف، التفاعل مع الجمهور؛ وهو ما يضمن لها تحقيق رصيد كبير من المصداقية فى أذهان مستخدميها ، واكتساب ثقة أكبر عدد من مستخدمى الشبكة.&
ثالثا سن التشريعات والقوانين ومواثيق الشرف التي تنظم آليات الاستخدام والنشر على شبكة الإنترنت، والتى تضمن لمستخدميها إمكانية الحصول على مضامين تتميز بالمصداقية، مع مراعاة عدم مساس تلك القوانين بحقوق وحريات الأفراد المتمثلة فى الحق فى الاتصال وتبادل المعلومات، والتعبير بحرية عن مختلف الآراء والأفكار، والحق فى الخصوصية، وحقوق حماية الملكية الفكرية.
&