بعد وفاة أمى ومرض جدتى &انتقلنا من المدينة الى بيت متواضع فى الاقطاعيه الصغيرة &التى كان أبى يدير شئونها حتى يكون قريبا منا ،فجدتى كانت مريضة وأبى لازال يرفض الزواج ثانية،وبالطبع لم تكن هناك مدرسة قريبة فى كل الجوار، وحتى استقرت أوضاعنا الجديدة كان قد ضاع منى عام دراسى كامل وأظنه الصف الخامس لأنى كنت قد تجاوزت العاشرة ،زارتنا عمتى وزوجها وعرضت استضافتى والالتحاق بمدرسة قريتهم حتى لايضيع منى عام دراسى جديد ، وافق ابى وبعلاقات زوج عمتى بناظر المدرسة &بالاضافة لاختبار فى القراءة والكتابة والحساب أعجب فيه الناظر بمستواى فتقررالحاقى بالصف السادس مباشرة وقد كان .

كنت فرحا بعودتى الى المدرسة ،وفرحا أكثر ببيئة جديدة هى بيت عائله ريفى &كبير متسع من طابقين وجو أسرى دافئ افتقدته كثيرا ، فزوج عمتى كان له ثلاث أخوة ذكور كلهم متزوجون فى بيت العائلة والاطفال كثر، وكنت أحبهم وكانوا يحبوننى فقد كنت سابقا &زائر الصيف المستديم .
كالعادة قبل بدء العام الدراسى كانت تجرى المراسم السنوية التى تنظم اصطحاب الكبار للصغار الى المدرسة، فكان المعتاد أن الكبار وهم من فى الصف الخامس والسادس هم المكلفون باصطحاب الصغار الملتحقين الجدد والأكبر بعام ، أما من هم فى الصف الثالث والرابع فهم مكلفون بأنفسهم فقط ،وهذا العام استجد وافد جديد فى الصف السادس وهو أنا ،كما استجد أيضا وافد أوبالأحرى وافدة جديدة ستلتحق بالصف الآول ،واستقر الراى على أننى سأصحبها ذهابا وعودة وتم القاء التنبيهات على مسامعى &مصحوبة بتحذيرات شديدة من أى مخالفة والا ستكون العواقب وخيمة ،وبالطبع كان يتراقص أمام عينى شبح حرمانى من المدرسة أو بالأحرى حرمانى من هذا الجو العائلى المبهج الذى حرمت منه وخصوصا بعد وفاة أمى ،حذرنى كل الاولاد من اصطحابها لكن أحدا منهم لم يفصح عن سبب واحد &يبررهذه التخوفات التى بالغوا فيها حتى اننى سألت عمتى لكنها لم تجب سوى بضحكة قصيرة مقتضبة أعقبتها بكلمة نصيبك.
فى اليوم الدراسى ألأول انتظرتها أمام مدخل مسكنهم المستقل فى الطابق العلوى فتح الباب خرجت أنيقة مهندمة بحذاء لامع لكن شبه باكية ،مدت يدها بحركة آلية لكى أمسك بها لكنها والظاهر أنها تعليمات الأم فقد تفحصت يدى بنظرة سريعة وأظن أنها للتأكد من نظافتها ،أمسكت بيدها واذ هى باردة ،مشينا بينما لازالت آثار الدموع فى عينيها ،وكان الموقف على جديدا واصطحبتها مرتبكا ، مشينا فى دروب القرية الضيقة صامتين تزاحمنا الرحلة الصباحية لقطعان البهائم والدواب الذاهبة الى الحقول ،لم تقل ولم أقل شيئا طوال المسافة وكانت لاتقل عن كيلومترنصفها داخل القرية &والنصف الثانى طريق متسع ممهد يوازى ترعة بين الحقول ، دخلنا باب المدرسة وكان بداية طابور الصباح وساعدنى أولاد عمتى فى البحث عن صفها الدراسى ،وتركتها بين أقرانها تشبثت بيدى للحظة لكننى تخلصت منها مسرعا نحو مكانى فى الطابور.
&فى عطلات الصيف السابقة &التى كنت فيها مجرد &ضيف كان ظهورها للعب معنا فى باحة البيت نادرا ، لكن كنا نسمع كثيرا أنها مريضة وكنت أسمع جدتها لأبوها تدعو لشفائها وكنت ألحظ عينيها مغرورقتين بالدموع .
فى رحلة العودة انتظرتها على باب المدرسة جاءت متباطئة يبدو الارهاق على وجهها ،حملت عنها حقيبة كتبها القماش وحاولت المشى بها مسرعا للعودة لكن لاحظت عدم قدرتها على مجاراتى ، فاضطررت الى ابطاء خطواتى قدر ما استطعت ثم اضطررت لحملها فى ربع المسافة الأخير ، ساعدنى بنيانى وساعدنى جسدها النحيل ،وبالطبع وصلنا متأخرين ووجدنا الجميع فى انتظارنا قلقين اختطفتها أمها منى بسرعة قبلتها وضمتها لحضنها بقوة واسرعت بها الى مسكنهم .
كان فى الموقف مايحتاج الى تفسير، ولم أجد من يجيبنى ، لكننى اكتشفت أشياءا من حوارات النساء الجانبية المبهمة المشوبة بالأسى &ومن عبارات بعض نساء الاقارب والجيران ونحن فى طريق المدرسة ، تكشف لى أنها كان يجب أن تذهب للمدرسة العام الماضى &لكن مرضها الشديد وعدم وجود مرافق مناسب لحالتها أضاع عليها العام الأول ، لكن الحاحها واشتياقها &للذهاب للمدرسة ووجود رفيق مناسب هذا العام &عجل بتحقيق رغبتها ،وفهمت لماذا كان ابناء عمتى يحذروننى من اصطحابها ، وترسخ فى ذهنى أن هذا هو المقابل المطلوب منى حتى أستمر فى المدرسة واستمتع بهذا الجوالأسرى الدافئ،وواظبت على القيام بالمهمة الموكولة الى بكل همة ونلت استحسان الجميع،وتوطدت العلاقة بيننا ومع الوقت لم تعد المهمة ثقيلة بل أصبحت أستمتع بصحبتها ،تمشى بجانبى أو أحملها وأطمئن عليها بين الحصص ثم أكتشفت أن لها وجه ملائكى مميز ،عيون زرقاء وشعر أصفر وبشرة بيضاء وصوت عذب خفيض هامس ،ثم انصرم العام الدراسى بسرعة وتعافت هى من مرضها وصارت تلعب معنا فى باحة البيت ،بعد ستة عقود هاهى بين أحفادها تحكى لهم &كيف كان جدهم يحملها الى المدرسة .
&