حسونة المصباحي

في مطلع السبعينات من القرن الماضي، انتفض شعب ما كان يسمى آنذاك بباكسان الشرقية ضد الحكومة المركزية بقيادة الشيخ مجيب الرحمان. وكانت حصيلة تلك الإنتفاضة الشعبية العارمة مئات الآلاف من القتلى، ومجزرة رهيبة سميت "مجزرة الصفوة" التي ذهب ضحيتها أطباء وأساتذة وشعراء وكتاب وفنانون مرموقون. وفي النهاية تمكن الشيخ مجيب الرحمان من الإنفصال عن باكستان ليؤسس دولة بنغلاديش، وعاصمتها داكا.

في تلك الفترة التي تميزت بالإضطرابات الدموية، كان شهاب الدين طالبًا في مدرسة الفنون الجميلة بداكا. وكان مغرمًا بالفلسفة، وبالشعر، وعن ظهر قلب كان يردد قصائد طاغور، وقصائد شعراء آخرين. وكان في الثامنة عشرة من عمره لما أحرز على الميدالية الذهبية تقديرًا لأعماله الفنية الأولى.&

عند اندلاع الإنتفاضة، إلتحق بحركة المقاومة ليكون أحد قادتها الكبار. وتقديرًا لشجاعته وبطولاته، حصل على منحة من حكومة بنغلاديش لاستكمال دراسته في باريس. وقبل سفره، استقبله الشيخ مجيب الرحمان، وقال له: "أرجو أن تكون بيكاسو بنغلاديش!".

وبعدما أنهى دراسته، اختار شهاب الدين الإقامة في العاصمة الفرنسية. لكنه يحرص على العودة إلى بلاده مرة واحدة في السنة ليكون دائم الحضور في المشهد الثقافي والفني. وقد عرضت لوحاته في العديد من المدن الفرنسية. كما عرضت في سويسرا، وفي بريطانيا، وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي كندا، واليابان... وأقيمت له أيضًا معارض كبيرة في الهند، وفي الصين وفي إسبانيا، وفي ماليزيا، وفي كوريا الجنوبية.

في بداية حواري معه في فندق "صدربعل" في مدينة الحمّامات التونسية، حيث أقيمت أيام الفنون والحوار بين الثقافات، التي كان من أهم المشاركين فيها، قال لي شهاب الدين: "إن ما يرعبني اليوم هو أن العالم الإسلامي يعيش فترة عصيبة في تاريخه، قد تكون غير مسبوقة. وبسبب تنامي الأصولية، تعيش الشعوب الإسلامية الحروب والنزاعات المدمرة التي أحرقت القيم النبيلة والروحانيات، وأشعلت نيران الأحقاد والضغائن... وبالنسبة إليّ أعتقد أن الفن هو الوحيد القادر على أن يجعلني محافظًا على توزاني النفسي والروحي، وعلى التمسك بالأمل في الخلاص، لا الفردي فقط، وإنما الجماعي أيضًا".

عن المرحلة الأولى في باريس يقول شهاب الدين: "الحقيقة أني شعرت بأني ضائع في باريس خلال السنوات الأولى. وكنت أبحث عن طريقي، ولا أحد كان بإمكانه أن يساعدني على العثور عليه. وأحيانًا كنت أقضي أيامًا من دون أكل ولا شراب. ووحيدًا أهيم على وجهي في شوارع باربس. في عام 1978، شاهدت معرضًا ضخمًا للفنان الإيرلندي الكبير فرانسيس بايكون، فأعجبت به كثيرًا، وشيئًا فشيئًا بدأت أتحسس طريقي، وأعرف وجهتي، وأحدد أهدافي...".

راسمًا صورة لرؤيته الفنية يقول شهاب الدين: "إن هدفي الأساسي طوال مسيرتي الفنية هو السعي إلى إيجاد تقارب بين الفن الغربي المعاصر، وبين المنظور الفني الشائع في بلادي، وفي منطقة جنوب آسيا، حيث يكثر المسلمون. وعليّ أن أشير إلى أني متأثر جدًا بالفيلسوف الروحاني الكبير كريشنامورتي، الذي إلتقيت به في باريس في منتصف الثمانيات من القرن الماضي. وأذكر أني تجولت معه في "الحي اللاتيني، "وتحدثنا طويلًا عن ضرورة مد جسور التواصل بين الشرق والغرب. وكنا متفقين على أن الفن هو من الوسائل الأساسية لمد هذه الجسور".

يواصل شهاب الدين حديثه قائلًا: "تاريخ بلادي معقد، وفيه حدثت أكثر من مواجهات بين السياسة والدين. وبسبب الحروب والمجاعات والمحن، فر الكثيرون بحثًا عن الخلاص، أو هم قتلوا أو ماتوا جوعًا وحرمانًا. وكان الحصول على الحرية باهظ الثمن. وأنا عملت في كل ما رسمت من لوحات على التعبير عن كل هذا. كما رغبت أيضًا في التعبير عن الجمال، لأن الجمال هو جوهر الفن في معناه الأصيل. وكما لاحظ العديد من النقاد، ليست هناك في لوحاتي مدن، أو غابات، أو مشاهد طبيعية، أو بحار، أو سماء.&
وليست هناك أشكال هندسية أو تجريدية، وإنما هناك أجواء رطبة أو جافة، هادئة أو مضطربة، وخيول ونمور، وثيران، كما في بنغلاديش. وهناك لوحات توحي بالإستغراق في التأمل الصوفي. ومن الكائنات التي أرسمها تنبعث حيوية عظيمة، حيوية السعي من أجل الحصول على الحرية، والتخلص من القيود بمختلف أشكالها، وأيضًا من العذاب، سواء كان هذا العذاب جسديًّا أم روحيًا أم غير ذلك. وهناك لوحة رسمت فيها شخصًا يركض حاملًا على ظهره شخصًا آخر. وقد تكون اللوحة ترمز إلى شخص واحد، وليس إلى شخصين، لأن الإنسان يشعر أحيانًا أن بداخله شخص آخر يثقل كاهله. وقد يكون الشخص الثاني غريبًا، لأن الإنسان مهما كانت جنسيته أو لونه أو ثقافته يحس أحيانًا أن الغريب جزء منه. لذلك قد يكونون على حق أولئك النقاد الذين يرون أن لوحاتي تعبّر عن الوحدة السايكولوجية والطبيعية التي عليها يعتمد الفلاسفة الهندوس والبوذيون".