لندن: قبل شروق الشمس بدقائق يوم 16 تموز 1945 كان انريكو فيرمي في صحراء نيو مكسيكو المفتوحة. وفي الساعة الخامسة والنصف صباحاً حدث أول انفجار نووي في العالم على بعد 16 كلم منه. وبعد ثوان على وميض الانفجار بحسابات فيرمي، توقع العالم الايطالي وصول الموجة. وبهدوء استثنائي وقف وترك قصاصات من الورق تتطاير مع مرور الموجة. وبعد حسابات سريعة أعلن فيرمي ان التجربة النووية تعادل نحو 10 كليوطن من مادة تي ان تي المتفجرة. 

كان فيرمي وقتذاك مشهوراً بين الفيزيائيين. وكان نبوغه بالرياضيات واضحاً وهو لم يزل طفلا في ايطاليا حين كان يلتهم النصوص المكتوبة للكبار وكأنها قصص طريفة. وظل يحتفظ بكتب قليلة طيلة حياته مفضلا اشتقاق النتائج من المبادئ الأساسية عند الحاجة. 

حين تولى فيرمي مناصب مختلفة في الأبحاث الأكاديمية سواء في ايطاليا أو بلدان أخرى، أثبت أنه ليس عالماً نظرياً لامعاً فحسب بل وتجريبي في جميع فروع الفيزياء ايضاً. وكانت لديه موهبة غريبة في اجراء حسابات سريعة للتوصل الى حلول تقريبية لمسائل في غاية الصعوبة. واظهرت التحليلات اللاحقة ان قوة الانفجار الفعلية في صحراء نيو مكسيكو كانت قريبة بدرجة مدهشة من تقديراته. 

مثل هذه الحسابات السريعة التي اصبحت تُسمى "مسائل فيرمي" كانت أمثلة صالحة على التفكير النقدي حتى انها تُستخدم الآن لاختبار المتقدمين على وظائف. وكانت حلول فيرمي صائبة حتى ان زملاءه في روما اطلقوا عليه لقب "البابا". 

اكتشاف فيرمي لدور النيوترونات بطيئة الحركة في جعل بعض الذرات مشعة ضمن له الفوز بجائزة نوبل في عام 1938. واغتنم فرصة الرحلة الى ستوكهولم للهرب مع عائلته من النظام الفاشي في بلده. وفي أميركا شارك في مشروع مانهاتن الذي اسفر عن اول سلاح نووي. 

كان فيرمي استعراضياً من الطراز الأول. وفي شيكاغو يوم قدم للعالم أول تفاعل نووي متسلسل تحت السيطرة، أدار الفعالية وكأنه ساحر في سيرك متعمداً تصعيد حدة التوتر بالتوقف لتناول الغداء حين كان الترقب في ذروته. 

 

 

ينقل ديفيد شوارتز كاتب "آخر رجل كان يعرف كل شيء" The Last Man Who Knew Everything بدقة النواحي الجمالية لأفكار فيرمي دون ان يغرق في التفاصيل. ولا يضم كتابه إلا ما يكفي من التفاصيل العلمية لشرح كل اكتشاف كما حدث. وهو يصور فيرمي قائداً بالسليقة، في المختبر، وفي النزهات التي كان يقوم بها على الأقدام قرب اماكن عمله، وعلى حلبات الرقص التي اصبح يعشقها في أميركا. 

ولكن رغم كل هذا الانفتاح الاجتماعي كان فيرمي لا يكشف الكثير عن عواطفه في الأحاديث أو المراسلات حتى عندما كان عضواً في الفريق الذي صنع اشد الأسلحة فتكاً في تاريخ البشرية. ولم تعرف زوجته لورا ما كان زوجها يفعل في مختبره إلا بعد القاء القنبلة الذرية. 

لذلك يواجه شوارتز العديد من الأسئلة نفسها التي اصطدم بها من سبقوه الى كتابة سيرة حياة فيرمي، مثل هل بقي في ايطاليا موسوليني من اجل تمويل ابحاثه؟ هل شارك في مشروع مانهاتن بدافع الوفاء لوطنه الجديد أميركا أم إنه استُدرج بسبب خبرته في الفيزياء النووية؟ هل هو الفضول لكي يعرف إن كان من الممكن حقاً صنع سلاح رهيب كهذا؟

من السهل تصوير فيرمي على انه عبقري من الطراز المعهود يحل كل مسألة وكأنه على اتصال مباشر بالله، على حد تعبير احد طلابه. ولكن تحريات شوارتز تكشف ايضاً كيف يعمل العلم في سياقه الصحيح: كيف يبني كل انجاز على ما تحقق قبله وكيف يمكن ان تتوارد افكار متطابقة عند أكثر من شخص واحد حين تكون الظروف الفكرية مناسبة، وكيف تتكون معرفة شيء عن الطبيعة لا من فراغ وانما من خبرة مكتسبة بمشقة وحسابات ذكية عادة. 

وصف طالب ذات مرة فيرمي بأنه آخر رجل كان يعرف كل شيء بعد أن حقق فيرمي في مجرى حياته العلمية اكتشافات مهمة في فيزياء الجسيمات والفيزياء الجيولوجية وحتى في علم النجوم. ولم يتوقف قط عن الحساب. وحتى على فراش الموت استخدم ساعة توقيت لتحديد كمية السوائل المغذية التي يتلقاها عن طريق الوريد. وكان يقول ان المسألة تكون بسيطة إذا ركزتَ على الأساسيات. 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "الايكونومست". الأصل منشور على الرابط التالي:

https://www.economist.com/news/books-and-arts/21733971-new-biography-italian-physicist-considered-last-man-know-everything-enrico