&


ترجمة حسونة المصباحي


-1

أيها الليل ،آه أيها الليل، إجعلْ منّي شاعرَكَ!

بعضُهم ظلّ مُحْتَفظا بالصمت على مدى قرون. دعْني أغني أغانيهم. إحملْني على عربتك. عربتك التي بلا عجلات. عربتُك التي تَثبُ صامتة من عالم إلى عالم. آه، أنت ملك في قصر الزمن، أنت الرائع الحالك السواد!

أكثر من فكر يتساءل إنْسَلّ إلى بلاطك، وجاس في بيتك الذي من دون نور، راغبا في جواب.

من أكثر من قلب ،إخترقه سهْم فرح أطلقته يد مجهولة، إنفجر نشيد الإبتهاج، راجّا العتمةَ حتى أسسها.

هذه الأرواح اليقظة رفعت إلى الضوء أنظارها ،الضوء المزيّن بالنجوم،واندهشت لهذا الكنز الذي عثرت عليه فجأة.

إجعَلْ منّي شاعرَها ،آه أيها الليل ، شاعر صمتك المُتَعذّر سَبْرُهُ!


-2

يوما ما سوف تلقي الحياة فيّ الفرحَ الذي يختبئ في حياتي، رغم أن الأيام تكدّرُ دروبي بغبارها الفاسد.

تعرفت عليها من خلال إضاءات، ونَفَسها المريب وهو يأتي إليّ عطرا للحظة أفكاري. يوما ما سوف ألتقي خارج ذاتي الفرحَ الساكنَ خلف ستار الضوء.سأكون في الوحدة الشاسعة حيث ترى كلّ الأشياء كما تُرَى بعين خالقها.


-3

في هذا الصباح الخريفيّ المرهق بالضوء ، تبدو أناشيدك نزويّة ،متعبة، إعطني قيثارتك للحظة.

سأعزف بها حسب هواي، مرة فوق ركبتي، مرة على شفتي، ومرة موضوعة على العشب بجانبي. لكن في صمت المساء الجليل، سأقطف أزهارا وأضع عليها أكاليل،سأملؤها بالعطور، وبقنديل مضيء سأعيد لها شعائر تَعَبّدي.

في الليل آتي إليك،وأعيدها لك. وبها سوف تعزفُ موسيقا منتصف اللليل حين يكون الهلال المتوحد تائها بين النجوم.


-4

روحُ الشاعر ترقص وتحلّقُ فوق أمواج الحياة بين أصوات الريح ومدّ البحر وجزره.

الآن والشمس قد غربت ،والسماء المعتمة تنخفض على جبهة البحر مثل أهداب طويلة تسيل على عيون متعبة، تحين الساعة التي يضع فيها الشاعر ريشته ،ويطلق العنان لأفكاره لكي تهرب بعيدا، بعيدا باتجاه أعماق الصمت الأبديّ السري المتعذّر سبرُها.


-5

الليل حالك السواد،ونومك العميق في صمت روحي.

إستيقظْ يا وَجَعَ الحب لأني لا أعرف كيف أفتح الباب، وأخرج إلى الباحة.

الساعات تُستغرق في التأمل ، الريح صمتت. الصمت ثقيل في أعماق روحي.

إستيقظْ أيها الحب، إستيقظء ، إملاْ قَدَحي الفارغ، وبنغم نشيدك تعال،ة وحرّكْ هذا الليل.


-6

عصفور الصباح يغني .

كيف عرف أن السحر سوف يضيء الأفق في حين أن الليل لا يزال يلفّ السماء بطيّاته السوداء الباردة.

قلْ لي يا عصفور الصباح ، كيف خَلَلَ الليل المُضَاعف للسماء، والأشجار، يجد طريقَه إلى أحلامك ، ذاك النور الذي ينبثقُ من الشرق؟

العالم لم يكن باستطاعته أن يصدقك عندما صمتّ: « الشمس قادمة والليل رحل".

أيها النائم،إستيقظْ!

إكتشفّ جبهتك وأنت تنتظر أولَ شُعَاع مبارك للشمس، ومع عصفور الصباح، غن بحماسة فرح.


-7

المتسول الذي يسكنني رفع يديه المحروقتين إلى السماء الخالية من النجوم،وأطلق في أذن الليل، صرخة الجائع.

طارت صلواته باتجاه الظلمة العمياء المنتصبة مثل حاكم مخلوع في سماء قاحلة مسكونة بآمال ميتة.

الشكوى ماتت على ضفة هاوية اليأس . عصفور يدور حول هذا العش المهجور.

لكن حين رسا الصباح على شاطئ الشرق، وَثَبَ المتسول الذي يسكنني وهو يصيح:بورك فيّ لأن الليل الأصم أنكرني،ولأن كنزه كان فارغا.

مرة أخرى،غني:» أيتها الحياة، أيها الضوء، كم أنتما نفيسان ،وكم نفيس الفرح الذي يتعرف عليكما أخيرا".


-8

دائما تنتصب متوحدا هناك وراء تموّجَات أناشيدي:

أمواج أنغامي وإقاعاتي تغسل رجليك غير أني لا أعرف كيف أصل إليهما.

هل ما أنا أعزفه بعيد عنك.

إن وجع الفراق هو الذي صار نغما: وهو يغني بقيثارتي.

أنا أنتظر ساعة يشقّ مركبك الماء، ويأتي حتى ضفافي. ثم تأخذ قيثارتي في يديك.


-9

فجأة إنفتحت هذا الصباح نافذة قلبي ،النافذة التي تتنظر إلى قلبك.

شردت حين إنتبهت إلى أن الإسم الذي تعرفينني به منقوش على ورق أبريل وأزهاره .إنتظرت صامتا.

لبرهة ارتفع الستار، بين أغانيّ، ثم أمسك بها.

اكتشفت أن ضوء صباحك مفعم بأناشيدي الصامتة التي لم تغنى بعد. فكرت أن حفظها سيكون هيّنا عند قدميك، ثم إنتظرت صامتا.


-10

حين ترفعين قنديلك إلى السماء ، يلقي بنوره على وجهك ،وينزل ظله عليك.

وحين أرفع قنديل حبي من قلبي ، ينزل نوره عليك، وأبقى أنا في الظل مُهْمَلا.


-11

آه الأمواج، الأمواج التي تلتهم السماء، ساطعة بالنور، بالحياة الراقصة. أمواج فيض من الفرح متوثبة دائما.

هي تهدهد النجوم ،وأفكار بمختلف التفردات تمتصّ من أعماق العدم وتنثر على ضفاف الحياة.

الولادة والموت يصعدان وينزلان مع النغم، وطائر البحر الذي يلاحق روحي يُفردُ جناحيه لكي يغني إنبهاره.

-12

الأغنية التي سوف أغنيها لم تُغنى إلى حد الآن. أمضيت أيامي أهيئ ربابي.

لم أتمكن من العثور على النغم المناسب، الكلمات لم تنتظم كما هو مرغوب. لم يبق في القلب غير احتكار الأمل.

الزهرة لم تتفتح، فقط بالقرب منها تزفر الريح.

لم أرَ وجهها ،لم أسمع صوتها، فقط سمعت خطواتها الهادئة على الطريق المار أمام المنزل.

اليوم الأطول في حياتي مضى، وأنا أتململ في مقعدي، إلاّ أن القنديل لم يضأ، ولم أستطع أن أدعوها للدخول.

أعيش على أمل لقائها ،غير أن هذا اللقاء لم يأت بعد.


-13

السحب تتكدس فوق السحب.العتمة تغمر الدنيا.

أيها الحب ،آه! في زحمة عمل منتصف النهار أنا مع الجوع، لكن في هذا النهار المعتم المتوحد لم أر غيرك.

إذا لم تبيني ،إذا ما أهملتني ، لست أدري كيف أقضي هذه الساعات الطويلة الممطرة.

أظل أتأمل عتمة السماء الشاسعة ،ومع الريح يجوس قلبي دون توقف.

-14

يوم تفتحت زهرة اللوتس،واأسفاه كان عقلي تائها في المغامرة وأنا لم أعرف ذلك. سلّتي ظلت فارغة ،والزهرة مهملة.

لكن أحيانا، ومرة أخرى، يداهمني الحزن. أستيقظ مذعورا من حلمي، شاعرا بالأثر اللذيذ لأريج غريب لريح الجنوب. هذه العذوبة الغامضة تجعل قلبي مريضا بالرغبة. في الآن نفسه يخيل إليّ أني أستشعر النّفَسَ الحار للصيف وهو يُجهد نفسه لكي يبلغ إكتماله.

وأنا لم أكن أدري أن ذلك قريب، قريب جدا،وأنه لي وأن تلك اللذة تفتحت في أعماق قلبي.


-15

في الظلال العميقة الممطرة لشهر يوليو ، بخطوات خفيفة، تمشي بحذر، متجنبا الساهرين.

اليوم، الصباح أغمض عينيه ، غير منتبه لنداءات ريح الشرق الملحّة.

حجاب كثيف يمتدّ على صفحة السماء المتيقظة. الحريجات أسكتت أغانيها ،وجميع أبواب المنازل مقفلة.

في هذا الشارع المقفر ،أنت المارّ الوحيد. آه...يا صديقي الوحيد،يا صديقي القديم. أبواب منزلي مفتوجة. لا تختفي مثل حلم.

-16


هل أنت خارج البيت في هذا الليل العاصف، مواصلا رحلتك العاشقة يا صديقي؟ السماء تتوجع مثل عاشق في حالة يأس.

أنا ساهر يا صديقي، بين لحظة وأخرى، أفتح الباب وأتفحّصُ الظلمة.

لا أرى شيئا أمامي، وليس بإمكاني أن أعرف أين

طريقك؟

على أيّ ضفة معتمة لنهر بلون الحبر ،على أيّ تخم لغابة مهددة، خلَلَ أيّ عمق حائر للظل، تبحث عن طريق لكي تصل لي يا صديقي.


-17

إذا ما انقضى النهار ، وسكتت العصافير عن الغناء، وصمتت الريح متعبة،أطرح على جسدي غطاء الليل تماما مثلما غُطيت الأرض بجفن النوم،وغُلّفت بحركة ناعمة تويجات زهرة اللوتس خائرة القوى.

للمسافر الذي إنتهى زاده قبل أن يُكْمل رحلته، والذي إنسلخت ثيابه، وثقل بالغبار، والذي فقد قواه ،إفتحْ بابَكَ، وجدّدْ حياة الزهرة تحت غطاء الليل المُتَسَامح.

النها انقضى،والعتمة استقرت فوق الأرض. لقد حان الوقت لكي أذهب إلى النهر واملأ قربتي.

الهواء مفعم بهمْس مياه تناديني.

في هذا الغروب الحزين، سأذهب . لا أحد في الدرب المتوحد. الريح بدأت تنفخ على أشرعة الليل. رعشة تزحف على صفحة ماء النهر.

لست أدري هل أعود أم لا أعود.

لست أدري أيّ لقاء ينتظرني هناك، قرب المعبر، على المركب الصغير، الرجل المجهول يعزف على قيثارته.
&