&
&
في اكتوبر 1960،أرسل جان جينيه رسالة إلى ناشره الأمريكي بارنارد فريتشمان تتضمّن رأيه في فرانز كافكا. وفي ذلك كتب يقول:»يا للحزن! ليس بمقدوري أن أفعل شيئا مع كافكا هذا!كلما حاولت الإقتراب منه ازداد بعدا عني!هل ينقصني عضو من أعضاء جسدي. أنا أفهم جيّدا قلقَه وفزعه إلاّ أنني لا أحسّ بهما على الإطلاق. وإذا ما كان يبدو هو مهووسا بوجود كينونة لا يمكن إدراك سرها، وسلطة قضائية نجهل عنها كلّ شيء، غير أننا خاضون لها تمام الخضوع، وتهمة من دون جريمة، فأني على العكس أشعر أنني مسئول عن كلّ ما أفعل،وحتى عن كلّ ما يحدث هناك أو هنا أو ما ما يفعله سواي. أنا لا أشعر أبدا بأنني خاضع لقوى لامرئية ،غير محسوسة. وحتى وإن حاولت أن أخترع تلك القوى، أو أن أبحث عنها، أو أن أكتشفها، فإن محاولاتي جميعها سوف تفضي إلى فشل ذريع.وكلّ شيء يبرز بشكل فوري ليؤكد لي بأنني أنا الوحيد المسئول ،والحَكَمُ المطلق.وهذه "الأنا" المسئولة، وهذا الحَكَمُ المُطْلق، ليسا خارج نفسي، بل هما ذاتي نفسها.
&
سأحاول أن أقدم تفسيرا لما سبق أن ذكرت: بعد أن حُكمت من قبل محاكم قضائية حقيقية وليست مُتَخيّلة، ولكي أتمكن من أن أواصل حياتي كما أنا أشتهيها، كان عليّ أن أبتكر وجودي،وأن اولد بقرار ذاتيّ نابع من سلطتي،ومن قوتي. وهذا كان بمثابة فعل تحرّري كان عليه أن يتجدد في لكل لحظة. أتحدث لك بالخصوص عن "المحاكمة" (رواية لكافكا-المترجم).هناك احتمال أن يكون المتهم والمحكمة أيضا موجودين داخل كافكا نفسه،أي أنهما متعايشان. واعتمادا على هذا، يمكننا أن نقول بإن كافكا هو المتهم،وهو المحكمة في نفس الوقت. أما أنا فقد كنت في العالم متهما حقيقياأمام محكمة حقيقية(لاذاك ولا هذه كانا أنا،وهما لا يتعايشان داخل نفسي إلاّ لكي يمزقاني). وكان على القرار الإرادي الذي اتخذته بهدف إنتشال نفسي من لعنة المحاكم، ومن العالم بأسره، أن يُجَنّبَني ذلك المصير الذي يبدو أن كافكا كان الفضاء الأمثل بالنسبة له. وتلك التي تشبه الصعقة الكهربائية، والتي هي الأحكام الصادرة ضدي،أو أحكام الإعدام، قد تكون- قد كون للأسف؟- جنبتني كل ذلك الذي يشبه الجزع أن أكون تحت رحمة محكمة عليا جدا ولامرئي<ة جدا.
&
إن كل الثمات في أعمال كافكا سواء كان ذلك فيّالمحاكمة"أم في "التحول"، أم في "إصلاحية الأحداث" تبدو لي وكأنها تجسيد وتعبير إذا ما أردت، عن هذا الهوس.وإذا ما كان لأعمال كافكا وقع في هذا العصر، وليس لهما أيّ وقع عليّ، فلأنني لا أنتسب إلى هذا العصر. إن مأساتي الشخصية ،والطبيعة الخاصة للمنفى الذي عشته وأعيشه، واللعنة التي لاحقتني زمنا طويلا، إنتشلتني جميعها خارج هذا العصر. إلاّ أن هذا لا يمنع من أن كافكا هو فنان عظيم. ولكن ما يغيظني حقا هو أنني لم أتمكن إلى حد الآن من النفاذ إلى داخل أعماله التي قيل إنها جميلة رغم تداخل الرموز وتشابكها،والجفاف التحليلي الذي سرعان ما يتعبنا ويرهقنا. وقد تكون التراجم مسئولة عن هذا الأمر إلاّ أن ما يحدث لجوزيف ك. (بطل رواية المحاكمة -المترجم) لا يعنيني لا من قريب ولا من بعيد لأن هذا لا يحدث ل"أحد" معين . هل تعتقد أن كافكا أراد أن يكون جوزيف ك. أي "حفرة" يتوجب على للقارئ أن يملأها؟ وعلى العكس من ذلك تبدو لي أعماله مثل "رسائل إلى ميلينا" ،و"اليوميات" جميلة جدا،وليست على صلة قوية بعالم كافكا! أودّ أن أقول بإن حساسيّة كافكا تأتي أمامي من دون أن تكون محمية بفنه .ومع ذلك فإن فنّ الكاتب هو وحده الجدير بالإعجاب،ويعني ذلك قدرته على السيطرة على حساسيته، وعلى استخدامها من أجل هدف كوني. لكن حين نقرأ كافكا، نشعر كم هو ذابل ،وكم هو بشع ذلك الأدب الذي ولد تحت تأثيره. أنا بانتظار ردة الفعل. كثير هم أولئك الذين ظنوا أنهم مُلاحقون،وتحت تأثير ذلك كتبوا أدبا لم يُخلّف أيّ أثر.
&