&

&
صدرت عن دار الفؤاد في القاهرة للروائي والاديب علي لفته سعيد رواية جديدة حملت عنوان(مزامير المدينة) هي السادسة له في مسيرته الروائية، وهي الجزء الثاني من رواية (الصورة الثالثة) التي صدرت عام 2015 عن دار فضاءات في الأردن.
تقع الرواية في 272 صفحة من القطع المتوسط.. صمم غلافها الفنان ستار نعمة،وقد اهداها الروائي (الى ابي مرة أخرى.. علمتني مواجهة الصعاب.. وتركتني للأثر) ، فيما افتتحها بـ (كلمات أولى) مأخوذة من ملحمة جلجامش قال فيها (يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم، يهلك الرجل وهو محزون القلب، ها أنذا أنظر من فوق الأسوار، فأرى الجثث تطفو على النهر، وأنا سيحل بي حقا نفس المصير)، لكنه في الصفحة اللاحقة يرسم تساؤلا وجوابا حائرا هما (لا أدري لمن تعزف المزامير؟ربما الى القبور)، ويبدو ان المؤلف اختار المقطع من ملحمة جلجامش والتساؤل وجوابه بعناية ودقة كأنه يريد ان يقول ان طرق الرواية محفوفة بالعذابات وبالموت وبالقهر وبالاسف حيث تحول العراق العظيم بحضارته وخيراته وناسه الى جثث وقبور وتقلبات في كل شيء .
ينتهج المؤلف في الرواية نهج الراوي للاحداث والوقائع من خلال حديثه الطويل لصديقه بطل الرواية (محسن)، انطلاقا من الحاضر فيذهب بالاحداث الى الماضي ليجلب منه حكايات الحرب وما خلفته والذكريات المريرة والكثير من التناقضات التي حفل بها المجتمع العراقي على مختلف الاصعدة ، لاسيما في حاضره حيث (كل يضحك على الكل، السياسيون على السياسيين ورجال الدين على رجال الدين والمفسرون على المفسرين، ولا خاسر سوى عقل المواطن البسيط وكل هؤلاء يخافون من قول المثقف، وقتله أبسط من قتل اسير ولا أحد يقف وينادي من قتل مثقف في هذه البلاد )، فيذهب الروائي في اتجاهات الازمنة المختلفة ومختلف الاماكن ليسرد الحكايات حتى وان كانت فكاهية من المواقف التي يذّكر بها صديقه والتي تتسع لتشمل كل ما يخص الحياة العراقية ،فهي جزء من تاريخ شعب .
في الرواية ليست هناك فصول او ابواب ، ولكن المؤلف يضع عناوين لها دلالاتها على رؤوس تقسيمات روايته مثل ( للحروبِ آلهتها والجنود عبيد ، الفردوس آخر أبواب جهنم، والميتةُ الأولى طغاة، الحروب أناشيد والضّحايا بلا مُوسيقى ، القبورُ شواهد والبكاءُ البلاد ، التاريخ حكايات مبتورة بألسن عديدة، يتشابه الهذيان في الطرق الطويلة)،وغير ذلك وكلها منهمكة بالحرب واوجاعها وما خلفته في المجتمع العراقي، كل عنوان يفتح امام القاريء لحظات من التأمل قبل ان يمسك قلبه لولوج ساحة البؤس التي تترامى مع صفحات الرواية حيث تشير العناوين تلك الى تخبئه الاحداث .
تتناول الرواية تطور الأحداث التي شهدها العراق في ازمنة مختلفة ابتداء من الحرب العراقية الايرانية مرورا بحرب الكويت ثم الحصار وحرب 2003 وما حدث بعد سقوط نظام صدام ، وصولا الى الحرب ضد (داعش) ،وقد صارت هذه الاحداث علامات من علامات التاريخ العراقي المعاصر لها ما لها من سلبيات عديدة قلبت احوال الناس رأسا على عقب ، وكيف تغيّرت مواقفهم ،حيث يؤكد (كل شيء تغيرّ ما بعد الجرب الأخيرة، ما بعد الإحتلال، ما بعد سقوط صدام، ما بعد نضوج السلاح في الشوارع وقيام الساعة كل يوم في شوارع البلاد. والمناداة بالقطيعة والحرب بين الأحزاب والتخويف من الساعة بالمناداة بالصلاة بطريقة المذهب، واللعنة على كل من لا يساير قوانين السير حفاة خلف من جاءوا بمنة التغرب في أصقاع الأرض).
لكن المؤلف ازاء التغييرات التي حصلت يمنح البطل (محسن) تحولا ،فهو وان كان كاتب
لكن المؤلف ازاء التغييرات التي حصلت يمنح البطل (محسن) تحولا ،فهو وان كان كاتب قصة فهو يعمل مشغّل مولد كهربائي فوق سطح فندق، كما في الجزء الأول "الصورة الثالثة"، فأنه يتحول إلى حفار قبور في الجزء الثاني "مزامير المدينة"،وقد تمزقت الحياة الاجتماعية بسكاكين المتغيرات السياسية والدينية والإرهابية التي شهدها العراق، فرسم المؤلف للبطل (محسن) مشاهداته من خلال عمله حفارا للقبور، وبحثه عن عشيقته في الجزء الأول (سلوى)، بعد موت زوجها (الذي انتهكته الطائرات الأمريكية في ساحة سعد بالبصرة لحظة الإنسحاب من الكويت) ، انه يتوقف ازاء ما يتأمل (لم يعد قلبك يتسع للحزن على الموت الذي لا يختلف إن جاء به الأهل ملفوفا بالعلم أو مات انتحارا، فالجميع يصرخ ويبكي ويلطم أو يجعل موكب الدفن بهيبة الحياة. ولكن أكثر القهر الذي يصيبك هو رؤية العوائل التي تأتي بنعوش الشهداء، الملفوفة بأكياس من النايلون، ربما بأجساد ممزقة أو مقطوعة الأطراف أو محروقة، لا ترى شيئا منهم وتدرك من حركة النعش الذي ينزل رأسيا الى الدفان، ومن ثم يكون أفقيا بموازاة الأرض ليدخل اللحد الداخلي إن الجسد ملموم في الكيس وقد مزقته الشظايا، أو صار كومة حلم محروقة).
يؤكد المؤلف : ان روايته لا تدين البلد ولا تتعكز على الموت بقدر ما تشير الى انه يمكن للمثقف والروائي تحديدا ان يصنع الجمال حتى لو كان من خلال الموت.
واضاف: والمهم فيها انها انتهجت اسلوبا كتابيا جديدا،ليس بمعنى التجريب بل بمعنى التجديد في المتن السردي وتداخل المعنى واللغة وتصوير المشهد الغرائبي عبر متن متداخل مع الحوار والحوار متداخل مع الثيمة والثيمة متداخلة مع الشكل.. تحمل عناوين فصولها ومضات شعرية ترتبط بالسردية وتستلهم معناها ولا تناقشها شعريا،انها رواية (مزامير المدينة) حيث تعزف المأساة مثلما يعزف الالم ونسمع الصدى أملا .
يمكن القول في الختام .. ان الرواية بكل تفصيلاتها،سواء الرمزية منها او المعلنة بوضوح، ما هي الا وثيقة لحقبة من الزمن العراقي تحدث فيها الكاتب الروائي باسلوب جميل عن حال العراقيين وقد تمكنت الحرول منهم فأذاقتهم مراراتها التي انتجت في نفوسهم الكثير من السلوكيات السلبية .