الغالبية منا تعتبر أن النفاق آفة اجتماعية يجب التصدي لها ومحوها، وآخرون يساوون بين النفاق والمجاملة في المضمون. أما أن يُمدح النفاق ويُعتبر منقذ المجتمعات الأول فهذا رأي جديد غريب ومدهش لم نألفه من قبل. 

إيلاف: من يتناول موضوع النفاق لا بد أن ينتقده ويذمّه ويعدد ما له من آثار سيئة على الأفراد والمجتمع بشكل عام. لكن أن يكتب أحدهم عن محاسن النفاق وفوائده... فهو ما لم يحدث إطلاقًا.

النفاق هو ما يجعل مجتمعاتنا متوازنة ومتماسة ويمنعها من الانهيار، بكل جرأة هكذا يقول الكاتب أولفييه بابو، وهو أستاذ في جامعة بوردو وخبير اقتصادي ورئيس معهد سابيان للدراسات الاقتصادية والاجتماعية وصاحب مؤلفات عديدة، منها "الرعب السياسي" و"مزرعة الحيوانات الجديدة".

مصدر صمود
هذا ما يريد بابو إقناعنا به في كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "في مدح النفاق" والذي يقع في 308 صفحات، وقد اقتبسه من عنوان أهم كتاب للمفكر الاجتماعي والتربوي الهولندي المعروف إيرازموس "في مدح الجنون".

يعتبر الكاتب أن النفاق كظاهرة اجتماعية تعرّضت لسوء فهم، ويؤكد أنها تستحق تقديرًا واحترامًا أكبر، ومن المفترض ألا تكون مصدر عار وخجل بالنسبة إلى من يمارسها، لسبب بسيط هو أن المجتمع كما نعرفه ما كان ليتماسك ولا يحقق تعايشًا إلا بوجودها، هذا المجتمع الذي يرى الكاتب أنه يتعرّض لخطر داهم حاليًا، بسبب ما يسمّيه "انتشار فكرة التساوي في كل شيء وديكتاتورية الشفافية".

نسختان من "أنا"
إلا أن الكاتب يميّز بين نوعين من النفاق. أحدهما حسن، والآخر خبيث. ويشرح قائلًا إن "أحد أشكال النفاق الحسن هو اللباقة والتصرف الصحيح والسلوك السليم والقويم أو ما نسميه بآداب السلوك الاجتماعي الصحيح".

ويرى بابو أن هذا النوع من النفاق ليس أمرًا خاطئًا على الإطلاق، لأن إخفاء الباطن والتعامل بظاهر مختلف وسيلة مهمة للتخفيف من احتكاكات وصدامات محتملة بين أفراد المجتمع. أي إنها بالنتيجة وسيلة تسمح بتجاوز الخلافات، وإقامة حواجز وفواصل بين الناس، وإلغاء العنف، بطريقة تؤدي إلى تحقيق تعايش سلمي مع ضمان التواصل بين مختلف المكونات. بتعبير آخر، النفاق يعزز العلاقات الاجتماعية، ويتعامل مع مستويات متعددة من الواقع ومن الحقائق.

يسترسل موضحًا: "هناك الأنا الحقيقية عندما يكون المرء وحده، وهناك الأنا الاجتماعية التي قد تختلف، وعادة ما تختلف عن الأولى. وإذا ما انتهى هذا الفرق بين الاثنين، وكان الإنسان هو نفسه مع نفسه ومع الآخرين، فلا بد من حدوث مشاكل واحتكاكات ومصادمات".

مدخل إلى "الإيتيكيت"
ويرى الكاتب أن أفضل عصر ازدهر فيه النفاق في فرنسا كان عهد الملك لويس الرابع عشر، الذي أنشأ مجتمعًا غير مسبوق، يقوم على إتقان فن الحديث وأصول التصرف واللياقة والإيتيكيت، وخلق ظاهرة الصالونات القائمة على طريقة خاصة في الكلام وفي التصرف... ولم يكن ذلك النفاق سيئًا، حسب رأي الكاتب، بل ساهم في صنع مجتمع جديد تمامًا، يقوم على ما يعتبر حاليًا معايير رقي وصلت حدًا لم يعرفه أي مجتمع في السابق.

يميّز الكاتب بين هذا النوع من النفاق ونفاق آخر يقوم على فكرة أن "كل الناس منافقون إلا أنا". فهذا التعميم وهذا الإستثناء يؤدي بالتأكيد إلى تزمّت، والتزمت يميل إلى فرض الشمولية، وبالتالي إلى فرض نوع من الديكتاتورية.

أقنعة تمنع التصادم
يناقش الكاتب مقولة مفادها أن الصادق ليس لديه ما يخفيه، ولكنه يعتبر الإخفاء مهمًا وأمرًا ضروريًا، لا يدعو إلى الشعور بالخجل على الإطلاق، لأن الإنسان بلا إخفاء يتحوّل إنسانًا خطيرًا بشكل ما، وقد يتصادم مع آخرين بكل سهولة، وهو ما يؤدي إلى بروز مشاكل جمة. 

ويشير إلى ما يحدث أحيانًا في عصرنا الحالي عندما يكون المرء قد تخلى عن نفاقه، وأصبح يتعامل بتلقائية كاملة، إذ قد يثور هذا الشخص لمجرد أن ينظر إليه أحدهم لأكثر من ثوان قليلة.

التزمت ممهد للتبعية
يعرّج الكاتب على مفهوم التساوي الشامل بين الأفراد، ويرى أنه دين جديد يدعو إليه البعض، ويجبرون الناس على الإيمان به والانتماء إليه. لكنه الكاتب يعتبر أن هذا التساوي يقضي تمامًا على فكرة النسبية والاختلاف، وحتى التعددية، لأنه يقوم على مبدأ اللاتمييز بين هذا وذاك.

وينبه بابو إلى أن معارضة هذه الفكرة والإيمان بالتعدد تحوّل اليوم مصدر عار وخطر، وهو ما يخلق نوعًا جديدًا من النفاق الخبيث، لأنه يضع عقبات وحواجز أمام الناس، بدلًا من أن يعمل على تحريرهم من القيود. 

يضيف: "علينا أن نتصرف وكأننا جميعًا متشابهون في كل شيء، وهو ما يقضي على معايير السلوك السابقة، فيما يعتقد دعاة هذا النوع من النفاق أنهم عثروا على المثل الأخلاقي الأكمل والأبدي". يتابع موضحًا: "ولكن هذا النوع من النفاق يؤدي إلى التزمّت، والتزمت هو ادّعاء امتلاك منبع الحكمة الأول والأخير، وهو لا يكتفي بخضوع البعض فقط، بل يريد المجتمع كله تابعًا له".

مساواة قاتلة 
أحد مظاهر "التزمّت العادل" الصادم، بحسب الكاتب، هو المساواة العمياء بين الرجل والمرأة، وهو يشير إلى أن هذه الفكرة جعلت حتى الحديث عن اختلاف الرغبات والمهن بين الجنسين تعبيرًا عن تمييز واضطهاد. ثم يذكر بقضية مهندس كان يعمل في غوغل وخسر عمله بعدما طردته الشركة، لأنه كتب بحثًا أراد أن يثبت فيه حقيقة وجود اختلاف بين المرأة والرجل، من خلال مثل واقعي اختاره، يقوم على فكرة أن النساء لو خيّرن بين مهن مجتمعية ومهن ينجزنها بشكل منفرد، مثل العمل كمهندس أو خبير كومبيوتر، فسيخترن المهن الاجتماعية. وطرد الرجل من عمله بسبب ذلك.

يتحدث الكاتب عن الطب أيضًا منبهًا مثلًا إلى أن لا أحد يريد أن يقتنع بأن المرأة مختلفة جسديًا عن الرجل، وبالتالي ليس هناك من يدرسها ليطور علاجات خاصة بها، حتى لو كانت الأمراض تصيب الجنسين معًا!، وهو ما يعني أن هذه الأيديولوجية ليست غبية فقط، بل هي قاتلة أيضًا، حسب قوله.

شفافية الزمن الرقمي
خلاصة ما يريد المفكر قوله هو أن انتهاء طبيعة العلاقات الاجتماعية كما كنا نعرفها قد يؤدي إلى القضاء على كل هذه العلاقات وإلى تنافر كل الأفراد وإلغاء التعايش وإنكار الواقع، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى وقف تطور الأفكار والمجتمع، وقتل إمكانية النقاش والجدال والاختلاف.

أخيرًا يرى الكاتب أن زمن الرقميات خلق شفافية خطيرة قضت على مظلة النفاق التي كانت تحمي الفرد من المجتمع، ويحتمي بها الإنسان من ضغط المجتمع، ومنحت المتحكمين بهذا الزمن في الوقت نفسه أسلحة جبارة، لم يملكها أي دكيتاتور في السابق، وهم يستخدمونها في الإقناع وفي كسب أعضاء جدد لمفهوم التشابه الكامل والشفافية المفضوحة.