&
عن دار"غاليمار" المرموقة،أصدر الكتاب الفرنسي فيليب لانسون كتابا حمل عنوان:” مزْقَة" فيه يروي بأسلوب بديع العذابات النفسية والجسدية التي كابدها إثر المجزرة الرهيبة التي ارتكبها أخوان أصوليّان من أصول جزائرية في مقر جريدة"شارل ايبدو" يوم السابع من شهر جانفي-يناير 2015. وكان فيليب لانسون هو الناجي الوحيد من تلك المجزرة التي خلفت 12 قتيلا جلهم من محرري الجريدة المذكورة. والرصاصة التي اصابته أفقدته فكه.وكان عليه أن يجري 12 عملية ليتوفر له فك اصطناعي.
&
وفي اليوم الذي سبق المجزرة كان فيليب لانسون قد كتب مقالا عن رواية "استسلام" التي يتصور فيها صاحبها ميشال والباك صعود إسلاميين من بلدان المغرب العربي إلى السلطة في فرنسا عام 2025. كما أنه شاهد مسرحية "ليل الملوك" .وفي كتابه "مزقة"، كتب يقول:”أصبحت ناقدا بحكم الصدفة، وبقيت ناقدا بحسب العادة،وربا بحسب لامبالاة. وقد سمح لي النقد بأن أفكر-أو أن أحاول أن أفكر- في ما أرى ، وأن أمنحه شكلا سريع الزوال وأن أكتب". ويضيف فيليب لانسون قائلا:”هل النقد يسمح لي بأن اصرع ضد النسيان؟ لا،أبدا بالتأكيد. فقد شاهدت عروضا وقرأت الكثير من الكتب التي لم أعد أتذكرها حتى بعد أن أكون قد كتبت عنها إذ لا بد أنها لم تثر مشاعري واهتمامي".
&
وقبل أن يشرع في تأليف كتابه المذكور الذي وصفته جريدة"لوموند" في ملحقها الثقافي الصادر يوم الجمعة 13 أبريل-نيسان بأنه"متقن"،وأنه "يوميات حداد حارقة" كان على فيليب لانسون أن يعود إلى العديد من المؤلفات للإستفادة منها والتعلم من أصحابها ليكونوا”حلفاءه الأساسيين" بحسب تعبير رني شار. وكان كتاب"سير" لبلوتارخ الذي رسم فيه صورا مدهشة لعظماء الإغريق والرومان " من أول الكتب التي أعاد قراءتها. كما أنه قرأ "الجبل السحري" لتوماس مان، و"رسائل إلى ميلينا" لكافكا، وأشعار رني شار التي كتبها خلال فترة المقاومة ضد النازية. و" البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست. في الآن نفسه واظب على الإستماع إلى سمفونيات باخ، وعلى التردد على المتاحف لمشاهدة البعض من اللوحات التي تعبر عن العذاب الإنساني بطرق مختلفة. ويقول فيليب لانسون أنه استفاد كثيرا من كافكا، ومن باخ. فمن الأول تعلم أنه عليه ألاّ يتوهّم أنه بإمكانه الخروج من الجحيم لكن يتوجّبُ عليه ألاّ تشتكي فلعله يصاب بمحنة أشدّ سوءا. وأما الثاني فقد تعلم منه ان يتقبّلَ محنته ،وأن يعيشها من دون أن يسعى الى تحويل نظره عن جمال الحياة والعالم.
&
وقد خصص فيليب لانسون الصفحات الستين الأولى من كتابه لوصف الحادثة بكل تفاصيلها. وكان عليه أن يستعيد شريطها لحظة بلحظة محاولا أن ينظر إلى نفسه وكأنه آخر. فقد كان أصدقاؤه في الجريدة يتساقطون أمام عينيه الواحد تلو الآخر. . وكان هو الذي افتعل الموت يفتح عينا واحدة ليرى ساق القاتل تقترب منه. وعندما شرع في الكتابة سعى إلى أن يكون دقيقا في وصفه من دون أن يحاول إثارة مشاعر الشفقة لدى القراء. كما سعى إلى أن لا يكون شبيها ببطل فيلم "أشياء الحياة" للمخرج كلود سوتيه الذي يستعيد فصولا من حياته التي يفقدها بسبب حادث سيارة. بل كان عليه أن يستعيد ما حدث وكأنه ذاك الذي يدخن النفس الأخير من سيجارة من دون أن يعلم أنه حكم عليه بالإعدام،وأن القاتل بصدد التوجه إليه:” كنت ممددا على بطني،ورأسي إلى جهة اليسار. لذلك كانت العين اليسرى هي التي فتحتها. رأيت يدا يسرى ملطخة بالدم تخرج من كمّ معطفي،وكان عليّ أن أنتظر مرور لحظة لكي أدرك أن تلك اليد هي يدي، يد جديدة (...) وصوت الذي هو أنا قال لي :” لقد أصبنا في اليد ،مع ذلك نحن لا نشعر بأي شيء. كنا إثنين. هو وأنا. أو على الأصح هو تحتي وأنا ملتو فوقه ،وهو يخاطبني من تحت قائلا نحن. العين مرت على اليد وشاهد هو هناك، على بعد متر، جسد رجل ممدد على بطنه وتعرفت على سترته ذات المربعات والذي لم يكن يتحرك. وهو صعّد نظره حتى بلغ قمة الرأس ليرى بين الشعر مخ ذلك الرجل ،ذلك الزميل ،ذلك الصديق هو ينبثق من قمة الرأس . برنار مات قال لي ذاك الذي هو أنا ،وأجبت نعم، هو مات، ونحن مركزون على قمة رأسه، وعلى تلك النقطة التي يخرج منها المخ الذي رغبت في أن أعيده إلى مكانه ، إلى داخل الرأس، تلك النقطة التي لا أستطيع أن أحول بصري عنها إذ أنها هي التي جعلتني أدرك في تلك اللحظة أن أمرا ما حدث لنا،وأنه لن يعود إلى الوراء أبدا".
&
ويواصل فيليب لانسون وصف الحادثة قائلا:” فكرة الإصابة بجرح لم تستبد بي بعد. والآن أنا ممدد على بطني على الأرض، وعيناي لا تزالان مغمضتين حين سمعت صوت رصاصات ينبثق تماما من التمثيلية المضحكة، من الطفولة، من الرسم، ويقترب من الصندوق الذي كنت محبوسا فيه،أو من الحلم الذي كنت غارقا فيه. لم تكن هناك طلقات متواترة. والذي كان يتقدم من الطرف الأخرمن القاعة ومني أنا أيضا كان يطلق رصاصة ويصرخ:”الله أكبر!الله أكبر!”. ثم يطلق رصاصة أخرى ويصرخ مرة أخرى:”الله أكبر! الله أكبر!”(...) ظل رأسي يدور ثم استقر على وجنتي اليسرى. رأيت كمّ المعطف ليدي اليمنى وقد تمزق ثم رأيت مقدمة يدي مشقوقة من الكوع حتى المفصل "كما لو أنها شقت بخنجر" قال لي ذلك الذي لم يمت تماما، وهو رآى خنجر "رامبو" طويلا، مسننا، ومشحوذا جيدا(...) أدرت لساني في حلقي وشعرت أن قطعا من أسناني تطفو هنا وهناك".