&
في ما مضى قال ابن سينا: "الخرافة تسبق المعرفة". هذه المقولة يمكن لها أن تنسحب على الكثير من الإنجازات العلمية التي تمَّ استخلاصها من محاولات الإنسان الأولى الساعية للتكيف. ولعلَّ التنويم المغناطيسي خير مثال على هذا.
بدأ التنويم المغناطيسي بقلادة تتأرجح يميناً وشمالاً بيد جندي روماني كان يحاول تسلية طفل صغير، فغطَّ الطفل في نوم عميق. هذه المصادفة أدت في ما بعد إلى اختراع إحدى أهم طرائق العلاج النفسي لسنوات طويلة.
شاع في أوروبا سابقاً العلاج بالمغناطيس، وذلك من خلال تمرير قطعة مغناطيس على مكان المرض بغية شفائه. وكان رائد تلك الممارسات العالم النمساوي "مسمر" صاحب نظرية (المغناطيسية الحيوانية) والتي زعم من خلالها وجود طاقة مغناطيسية غريبة في جسم الإنسان يستطيع من خلال تحكمه بها شفاء الأمراض.
يُعدُّ الطبيب والجرّاح الإسكوتلندي "جيمس بريد" أفضل من ساهم في تطوير تقنية التنويم، حيث عمل جاهداًعلى استخلاص الترياق الشافي من السم إن صح التعبير، ووضعه في خدمة العلم.
وعلى صعيد متصل نفى "برامويل" وجود أية علاقة للمغناطيسية في عمليات التنويم وفي الشفاء الحاصل بعدها. فالنوم، بحسب برامويل، هو نوم عصبي وذلك بسبب شلل طارئ يصيب المراكز والخلايا العصبية في المخ، بسبب مجموعة عوامل
ضغط مقصودة وممنهجة تقود إلى إرهاق الأجفان والعينين من جهة بالتزامن مع استخدام مفردات موحية غرضها تحريض رغبة النوم والتأثير على اللحاء (العقل) من جهة ثانية.
أمَّا في ما يخص سبب الشفاء الذي كان يحصل بعد النوم، فهو مرتبط "بالإيحاء" أولاً وبقابلية "الدماغ العميق" على إعادة ترميم ذاته مع مساعة بسيطة من الخارج ثانياً. فيكون الإيحاء هو العنصرالخارجي المحرّر لإمكانات الدماغ المقيّدة.
أثناء عمليتَي التنويم والإيحاء (العلميتَيْن) يقوم المعالج النفسي برفع "التاج" عن رأس المريض، ومن ثم إزالة الشوائب المزعجة، وبعد ذلك يعيد وضع "التاج" على رأس النائم، وهذا كل شيء. التاج في هذا التبسيط هو قشرة المخ التي يتم تغييبها والتي تساوي الشعور والإرادة والإدراك والقرار.
والشوائب هي عقدة نفسية أو مشكلة عاطفية أو فقد لقريب أو مشكلات نطق يراد تصحيحها.
وقد يسأل البعض هنا لماذا لا نزيل هذه الشوائب بحضور الوعي؟ أي دون رفع التاج ودون أن نكلّف أنفسنا عناء التنويم.
في هذه الحالة سوف نخسر أفضليتين اثنتين: الأولى لن يتمكَّن المريض من البوح التام بكل الأفكار والرغبات والذكريات بحضور الوعي لأنه سيعتبر ظهورها أمراً غير لائق أخلاقياً. والثانية تجنباً منّا لعمليات المقاومة والتثبيت والتحويل (أي ردود فعل المريض تجاه المعالج النفسي).
يثير موضوع التنويم المغناطيسي، أو ما يُسمَّى اليوم "هِبْنوسز"، الكثير من الجدل، ولا زال يكتنفه الغموض والريبة إلى يومنا هذا لغرابة سلوكيات النائم أثناء جلسة التنويم.
يلعب المعالج النفسي خلال جلسة التنويم دور "رجل المسرح الخفيّ" فيحرّك أحاسيس النائم كيفما يشاء، وكأنما بين أصابعه خيوط الدمية التي تتحرَّك بإرادته في إحدى مسرحيات "خيال الظل".
ومن أجل إماطة اللثام عن سرّ هذا السلوك الذي يُبديه الخاضع لجلسة التنويم لا بد لنا أولاً من التعرّف إلى إحدى أجزاء جملتنا العصبية المذهلة وهي "الجملة الودّية أو الإعاشية". فالجملة العصبية الودّية بمثابة نقطة التقاء البحر باليابسة إن صح التشبيه، فهي من يشرف على العلاقة ما بين المعنوي والمادي في جسم الإنسان.
على سبيل المثال، عندما يتعرض إنسان ما لضغوط نفسية حادَّة فإن ذلك سينعكس سلباً على سلامة العضوية، فالجملة الوديّة ستنشب مخالبها في الأعضاء. وعندما يصاب الإنسان بمرض عضويّ فإن ذلك سينعكس سلباًعلى سلامته النفسية. وبالمختصر فإن الجملة الودية هي التي تحوّل الأوامر الذهنية إلى "الأنا الحشويّ"، وبالعكس هي التي تحوّل الحاجات والغرائز الصاعدة إلى الوعي لتصبح متاحة للإدراك.
وبالعودة إلى ما انطلقنا منه فإن المعالج، بتغييبه للوعي، يجلس في مكانه ويمارس صلاحياته في إعطاء القرارالإرادي، وبالتالي فإن الجملة الودية ستفتح "الكاريدور" وتنقل العلاقة التقليدية ما بين المعنوي الذهني والمادي العضويّ.
&
&باحث سوري في مجال علم النفس.