&
عن دار"لاكسيميتري" الفرنسية، صدر مؤخرا كتاب يحتوي على نصوص كانت مجلة "الرغبة الإباحية" قد نشرتها في الفترة الفاصلة بين 1973 و1975. وبذلك يكون الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي المقيم في باريس ، والذي كان يشرف على المجلة المذكورة قد حقق حلما من أحلامه المتمثل أساسا في التعريف بتجربة مهمة في تاريخ أدب المنافي، وفي تاريخ الحركات الطليعية التي عرفتها البلدان العربية على مدى النصف الثاني من القرن العشرين...وجميع النصوص الشعرية والنثرية التي احتواها الكتاب، تعكس بامتياز خصوصيات هذه التجربة، وتفاعلاتها لا فقط مع القضايا التي كان يعيشها العالم العربي ، بل وأيضا مع ما كان يعيشه العالم في الفترة المذكورة على جميع المستويات. كما تعكس جرأة نادرة في نقد المحرمات واليقينيات والمسلمات تكاد تكون منعدمة في الثقافة العربية المعاصرة ، بما في ذلك الثقافة التي يزعم أصحابها أنهم معادون ومعارضون للثقافة الرسمية.
&
وعلينا أن نشير في البداية إلى أن عددا من المثقفين الشبان المتمردين على كلّ شكل من أشكال السلطة سواء كانت عائلية أم سياسية أم ايديولوجية أم دينية، شعروا بعد ان استلم البعثيون السلطة في بلاد الرافدين عام 1968، أن زمنا قاتما ينتظرهم. زمنا ستتم فيه مصادرة أحلامهم وأمانيهم وملاحقتهم إن هم سعوا إلى شقّ عصا الطاعة في وجه الحكام الجدد، أو أظهروا نوعا من التقاعس في أداء "واجبهم الوطني" المتمثل في الرضوخ للحزب الواحد، وللقائد الأوحد. لذلك شرعوا في الفرار إلى المنافي بحثا عن الحرية. فمنهم من انطلق إلى بيروت التي لم تكن قد اكتوت بعد بنيران الحرب الأهلية.ومنهم من توجه إلى أوروبا، أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان عبد القادر الجنابي من بين هؤلاء ّ "الفارين" . في البداية حط رحاله في باريس، ثم انتقل إلى لندن، و بعدها عاد الى باريس مجددامقررا الإقامة فيها هي التي استقبلت قبله عشرات الفنانين من جميع أنحاء العالم متيحة لهم ما يساعدهم على توليد الأفكار ،وعلى جعل خيالهم في تحليق دائم، وعلى تغذية احلامهم والحفاظ عليها لأن من دونها تقفر الحياة لتصبح صحراء جدباء عقيمة . وفي الفترة التي لم يكن قد عرف فيها الإستقرار بعد، زار عبد القادر الجنابي فيينا باحثا في مقاهيها البديعة عن آثار الفنان الساخر كارل كرواس الذي كان قد اكتشفه في الفترة التي كان يتردد فيها على مقاهي بغداد حيث كان يتجمع الفنانون والشعراء والكتاب الغاضبون والمتمردون في الستينات من القرن الماضي.
&
وفي باربس ، لم يكن عبد القادر الجنابي راغبا في الإنخراط في حركات المعارضة السياسية من أي نوع كانت، بل كان يبتغي أن يخوض مغامرة فنية وأدبية توفر له فرصة تحقيق البعض من تلك الأحلام الجميلة التي روادته أيام التسكع والبحث عن الذات سواء في بلاده أم خارجها. ويعود اصراره على خوض مثل هذه المغامرة إلى أنه كان يؤمن في تلك الفترة المبكرة من مسيرته الفنية أن الثورات الإيدلوجية والسياسية سرعان ما تذبل ويخبو بريقها.أما الثورات الفنية فتظل مشعة، متحدية تقلبات الزمان، وعواصفه الهوجاء التي تتطيح بأعتى الإمبراطوريات، وتسقط أشد الحكام طغيانا واستبدادا. لذلك، شرع يعد نفسه لخوض هذه المغامرة متحديا الصعوبات المادية منها بالخصوص. وأثناء طوافه في مقاهي ونوادي "الحي اللاتيني"، التقى بالبعض من الحالمين امثاله بثورة فنية تقطع مع الثقافة السائدة في جل البلدان العربية،ومع لغة جافة ومصطنعة تكره تسمية الأسماء بأسمائها، وتعجز عن فضح المستور، وتزحف ذليلة مهانة أمام البلاغة الفقهية الصفراء الموروثة عن عصور الإنحاط، والتخلف، والإستبداد ، وتستكين أما مقص الرقابة وعصا الجلاد. وتزمت فقيه الظلمات.
&
وفي الفترة التي شرع فيها الجنابي في تهيئة نفسه لخوض مغامرته الفنية، كانت باريس لا تزال تعيش تحت وقع بقايا أفكار وأحلام ثورة ربيع 68 الطلابية التي هزت أركان النظام الفرنسي الرأسمالي، وانتشر لهيبها في جل البلدان الأوروبية، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والبعض من بلدان العالم الثالث حديثة الإستقلال مثل تونس. ورغم أنه فتن بتلك الثورة، وتحمس لها، وبارك أطروحاتها إلاّّ أنه كان يرغب في أن يستعين في تجربته بالسوريالية التي كان قد ذبل بريقها، إلاّ أنها كانت لا تزال فاعلة ومؤثرة على المستوى الفكري والأدبي لا في فرنسا وحدها وإنما في بلدان أخرى .
&
ومعلوم أن الحركة السوريالية كانت قد برزت بعد الحرب العالمية الأولى لتدين التعفن الذي أصاب الحضارة الغربية في الصميم، مظهرا وجهها القبيح، وجانبها الهمجي المظلم ، وتدهورها الأخلاقي والثقافي. ومدينا إياها بشدة، كتب اندريه بروتون يقول:”لقد تعفنت القيم الفكرية ،وفشلت الأفكار الأخلاقية جميعا، وفسدت حسنات الحياة كلها واختلط كلّ شيء بكل شيء". ويرى اندريه بروتون أن سبب مرض الحضارة الغربية وتعفنهاوتفسّخَها هو"قذارة المال التي غمرت كل شيء". لذا لم تعد لفظة "الوطن"، و"العدالة" و"الواجب" تعني شيئا بالنسبة لمن وعوا بذلك. لذا يتحتم عليهم أن "يعارضوا كل شكل من أشكال الإكراه " بهدف قبول الأمر الواقع، والرضوخ لمن يريدون فرضه على الشعوب والمجتمعات. اعتمادا على قولة اندريه بروتون المذكورة، أراد السورياليون منذ البداية أن تكون "معارضتهم" شاملة، أي فكرية، وفنية،وسياسية، وأخلاقية. لذلك ابتكروا أدوات فنية ولغوية وأسلوبية جديدة لم تكن معهودة حتى ذلك الحين. إلاّ أن هذا لم يكن يعني أنهم انطلقوا من الصفر،وإنما هم عادوا إلى تجارب فنية وفلسفية وشعرية قديمة ليستوحوا منها ما يمكن أن يفيدهم، ويعمق تجربتهم ومعارضتهم. وبذلك أعادوا الإعتبار لمن كانوا حتى ذلك الحين مجهولين أو منسيين ومهملين ومغضوب عليهم ومدانين سياسيا وأخلاقيا أمثال فرانسوا فيون، والماركيز دو ساد، ولوترايامون، وشارل فورييي، وآخرين.
&
إلا" أن عبد القادر الجنابي لم يشأ أن يكون مقلدا للسوريالية،ومجرد تلميذ نجيب لها، بل كان هدفه بعث حركة فنية وأدبية تقطع مع كل ما هو سائد في عالم عربي يتحكم فيها حراس الثقافة الرسمية ، ويحكمه طغاة وعسكريون جهلة مستعدون في كل لحظة لإطلاق النار على كل من ينطق بكلمة "حرية" . وبسبب التزمت الديني الذي تعتمد عليه الأنظمة في بسط نفوذها، باتت المجتمعات العربية تعيش حياة جامدة خاملة مقفرة من أي أمل،ومن أي طموح . وقد وجد الجنابي ورفاقه القليلون في تجربة الحركة السوريالية التي نشأت في مصر في الثلاثينات من القرن الماضي ،وأيضا في تجربة الشاعر اللبناني أنسي الحاج " الذي كان قد فجر قنبلة في المشهد الشعري العربي من خلال مجموعته "لن" ما منحهم منذ البداية القدرة على تحويل أحلامهم إلى واقع ملموس لتصبح مجلة "الرغبة الإباحية" التي أسسها الجنابي ناطقة باسم حركة أدبية خارجة عن كل النواميس الفنية والأدبية والسياسية والفكرية التي كانت سائدة في العالم العربي حتى ذلك الحين. ولم يثرْ العدد الأول من "الرغبة الإباحية غضب رجال السياسة ورجال الدين فقط، بل أثار أيضا حفيظة حراس الثقافة الرسمية في جل البلدان العربية الذين لم يترددوا في اتهام أصحابها ب"العمالة لوكالة الإستخبارات الأمريكية". وفي حين كان المثقفون العرب ، بمن في ذلك التقدميون واليساريوزن منهم، يخشون التطرق حتى ولو بالهمز واللمز إلى المحرمات في المجال السياسي والديني، دأب "مجانين الرغبة الإباحية " في كل عدد من أعدادها اعتمادا على الكلمة والصورة والكاريكاتور على نقد راديكالي للأوضاع العربية بجرأة غير مسبوقة،وبطرق فنية متميزة تغيض أعداء الحرية وحراس المقدس الديني بالخصوص.
&
وراغبة في أن تتجاوز حدود الأفق العربي الضيق، لم تكتفي "الرغبة الإباحية" في نقد الأوضاع في العالم العربي، بل تجاوزت ذلك لتشن هجوما على غرب العنصرية البيضاء وأسلحة الدمار الشامل، وثقافة التفوق العرقي، لتجعل الثقافة العربية في قلب القضايا الكبيرة التي كان يعيشها العالم في تلك الفترة، والتي لا يزال يعيشها حتى زمننا الراهن. لذلك يمكن القول أن "الرغبة الإباحية" كانت ومضة الأمل الكبير،وحجرة حركت مستنقع واقع عربي بائس ومريض.وقد تساعد العودة إلى النصوص التي نشرتها على مواجهة المخاطر التي تتهدد راهنا الثقافة العربية والإنسان العربي أيضا.