كيف يرى الإسلام المتنور العالم الغربي المتغير؟. أينطلق من معتقدات جامدة متوارثة منذ أيام حملة نابليون على مصر وعهد محمد علي؟ أم يسير في قافلة التحديث، ويغيّر رؤيته إلى ما يحصل في العالم؟ هذان كتابان يتكلمان في هذا الأمر.

إيلاف من بيروت: بعد فترة وجيزة من غزو نابليون بونابرت مصر في عام 1798، أرسل بشير شهاب الثاني، الحاكم الماروني للبنان، شاعره في البلاط، نقولا الترك، إلى القاهرة، ليرى ما كان الفرنسيون ينوون القيام به. وأشار الترك إلى أنه بعدما هزم الفرنسيون المماليك الذين كانوا يحكمون مصر (في معركة ذبحوا فيها ألف فارس مملوكي يرتدون عمائم رائعة ومسلحين بسيوف مرصعة بالجواهر، بينما فقد الفرنسيون تسعة وعشرين رجلًا فقط من رجالهم)، أقاموا "عمودًا مزخرفًا طويلًا" في حديقة الأزبكية بالقاهرة، بالقرب من النيل، حيث أقام المماليك قصورهم. 

وبحسب وصف الترك، فالفرنسيون أطلقوا على هذا العمود اسم "شجرة الحرية، لكنّ الشعب المصري قال: "هذه إشارة إلى الوتد الذي انغرز فينا خلال احتلال مملكتنا".

إنّ ملاحظة الشاعر تعكس المعضلة التي واجهت الشعوب المسلمة منذ منتصف القرن الثامن عشر، عندما أثبتت الدول الإسلامية التي ترأسها "إمبراطوريات البارود" الثلاث، في تركيا العثمانية، وبلاد فارس القاجارية، والهند المغولية، أنها عاجزة عن مقاومة الأسلحة الأوروبية، وكذلك التغييرات في الأفكار والمؤسسات الاجتماعية التي أعقبت الغزو الغربي. طالب نابليون بمصر باسم "الحرية والمساواة"، لكنّ المؤرخ القاهري عبد الرحمن الجبرتي استبعد فرضية أن جميع الناس متساوون، معتبرًا أن "هذه كذبة وجهل وحماقة. إذ كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحًا عندما فضّل الله [بعض] الأشخاص على آخرين".

فكرة الحرية
في مصر المملوكية، ارتبطت فكرة "الحرية" بإعتاق العبيد، الذي أوصى به التعليم الإسلامي (على الرغم من أن العبودية كانت لا تزال قائمة)، وكان يبدو أقل صعوبة من فكرة المساواة. في كتابه "التنوير الإسلامي: الصراع بين الإيمان والعقل، من 1798 حتى العصر الحديث" The Islamic Enlightenment: The Struggle Between Faith and Reason, 1798 to Modern Times (ليفرايت، 398 صفحة، 35 دولارًا)، يقدّم كريستوفر دي بيليغ سردًا ممتعًا عن غزو نابليون - ما حطّم، بحسب أقواله، "قصص الخيال للمسلمين المعاصرين حول مراعاة المسيحيين للتفوق الإسلامي" – وعن علاقة الجبرتي به. 

ويضيف أن الجبرتي "يجد من المستحيل تقدير الحرية السياسية والاجتماعية التي يدّعي الفرنسيون أنهم أقاموها في بلادهم، في حين أن فكرة توسيع الحرية ليصبح معناها التحرر من الله - الإلحاد" - هي أمر رهيب للغاية لا ينبغي التفكير فيه حتى".

يستعمل دي بيليغ حملة نابليون إلى مصر نقطة انطلاق لكتابه الذي يهدف إلى معالجة التحيز الذي يراه بين القراء العاديين حول تاريخ التحرير السياسي الإسلامي. ووفقًا للافتراضات الواسعة الانتشار، فإن الجهود الرامية إلى تحويل الدول الإسلامية إلى مجتمعات حديثة فُرضت أساسًا "من فوق" من قبل أوتوقراطيين يميلون إلى الغرب، مثل الحاكم الأوتوقراطي الألباني محمد علي (1769 - 1849) أو ملكه الشكلي السلطان العثماني محمود الثاني (الذي حكم بين 1808–1839) - الفكرة الأساس هي أن حركة التنوير كانت حركة يهودية - مسيحية حصرية (أو ما بعد المسيحية) لا مثيل لها في المجتمعات الإسلامية.

أدّت هذه "المغالطة التاريخية"، في وجهة نظر دي بيليغ، إلى إصرار "المؤرخين والسياسيين والمعلقين الغربيين الانتصاريين، وكذلك بعض المسلمين المرتدّين الذين غيّروا ديانتهم"، على أن "الإسلام [لايزال] يحتاج تنويرًا".

تنظيم وديوان
على نقيض ذلك، يجادل دي بيليغ بشكل مقنع بأنّ الجهود الرامية إلى جلب الأفكار السياسية الحديثة إلى العالم الإسلامي كان لديها "جمهور مناصر طبيعي" بين الأقلية المتعلمة، وأنّها على الرغم من المعارضة، اكتسبت ببطء قبولًا عامًا: على الرغم من أن مبادئ الحداثة والتقدم تم إدخالها إلى الشرق الأوسط من الغرب، إلا أن حقيقة أنها نشأت في مكان آخر لم تكن في حد ذاتها عقبة أمام تبنّيها في هذه البيئة الجديدة. وفي تناقض مع الافتراضات حول التخلف الإسلامي المتعمد، لم يُظهر الإسلام معارضة للتحديث أكثر مما فعلت الثقافة اليهودية المسيحية لنسختها السابقة في الغرب...

إنّ سيادة الفرد، وفائدة النظافة، واحتمال ارتكاب الملك للأخطاء (على سبيل المثال لا الحصر ثلاث أفكار من الغرب) لا تحمل أي طابع حصري، بل يمكن فهمها من قبل الجميع. في الواقع، تكيّف العالم الإسلامي مع هذه القيم وغيرها بسرعة أكبر من ابتكار الغرب لها، حتى لو ترافق ذلك مع تغييرات في نقاط التركيز.

إن اعتناق أفكار الحرية والمساواة سوية، وهي مفاهيم تنبع بشكل مختلف من كتابات هوبز ولوك وفولتير وروسو، كان بلا شك صعبًا في معظم أنحاء العالم في زمن الغزو النابليوني. وكما يشير دي بيليغ، لم تحدث ثورة غوتنبرغ في الأراضي العثمانية. وكان معدل معرفة القراءة والكتابة في تركيا ومصر وإيران في مطلع القرن التاسع عشر حوالى 3 في المئة، مقارنة مع معدل 68 في المئة للرجال و43 في المئة للنساء في انكلترا، ومع أرقام أعلى كثيرًا في أماكن مثل أمستردام.

في العالم الإسلامي، رفضت الفئة الصغيرة من "العلماء" المطبعة على أساس أن "إتاحة الوصول إلى القرآن لن يؤدي إلا إلى تمكين الجاهلين من إساءة تفسيره". واعتُبرت الطباعة في أجزاء كثيرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جريمة كبرى، ولم تكن هناك صحف للإبلاغ عن مثل هذه الأحداث المتغيرة عالميًا مثل رفض أميركا للحكم البريطاني في عام 1776 و"سنة الحرية" في إيرلندا في عام 1798.

لكنّ الأفكار التي جاءت إلى مصر خلال الشهور القصيرة والمضطربة من الاحتلال الفرنسي للقاهرة كانت مزروعة في أرض خصبة. فبعد هزيمة المماليك، قدّم نابليون برنامجًا إصطلاحيًا على شكل مجلس، أو "ديوان"، شمل المشايخ والأعيان والعلماء. 

بشكل أكثر طموحًا، نظّم ديوانًا عامًا يضمّ ممثلين من مختلف المحافظات. وقام المهندسون بتنظيف القنوات وبناء طواحين الهواء وتحسين الدفاعات ضد الفيضانات على طول نهر النيل. وفي القاهرة بدأ بناء مستشفيات ومكتبات جديدة، وتمّت إزالة النفايات من الشوارع.

حضارة وتقدم
يُظهِر دي بيليغ كيف كانت هذه التغييرات مدمّرة، ولكن مغرية جزئيًا من خلال قصة رجل الدين رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، الذي أمضى خمس سنوات في باريس في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، وهو يدرّس الدين لمجموعة من الطلاب المسلمين. رواية الطهطاوي عن إقامته، التي أعلنت عن فوائد "الحضارة" و"التقدم"، كانت منتشرة على نطاق واسع في الأراضي العثمانية.

بعد العودة من باريس إلى القاهرة بتشجيع من محمد علي الذي وسّع نفوذه الخاص بشكل غير محدود وعيّن نفسه الوالي العثماني الرسمي في مصر بعدما ذبح المماليك العائدين، أصبح الطهطاوي رئيسًا للمدرسة الجديدة للّغات. هناك، بدأ بمشروع وصل في النهاية إلى ثورة فكرية، وذلك من خلال الشروع في برنامج لترجمة نحو ألفي مجلد من المجلدات الأوروبية والتركية، بدءًا بالنصوص القديمة في الجغرافيا والهندسة وصولًا إلى السيرة المؤثرة التي كتبها فولتير عن بيتر العظيم (الأوتوقراطي الإصلاحي الأصيل)، إلى جانب لامارسييز "La Marseillaise" وكل قانون نابليون. (ربما لم يكن الطهطاوي على دراية بمسرحية فولتير في عام 1741 "التعصب أو النبي محمد" Le Fanatisme, ou Mahomet le prophète، وهي عبارة عن هجوم مشفّر على الكنيسة الكاثوليكية يهدف إلى تضليل الرقباء الفرنسيين، حيث يُصوَّر النبي الإسلامي على أنه طاغية ماكر وطموح وشرّير، ودجال تدفعه الشهوة). 

وكما يشرح دي بيليغ، ضمّ برنامج الترجمة أكبر وأهم استيراد للفكر الأجنبي وتحويله إلى العربية منذ العصر العباسي [750-1258]. كان لهذه الترجمات تأثير ضخم على المهندسين والأطباء والمدرّسين والضباط العسكريين الذين بدأوا بتشكيل نخبة البلد.

في فرنسا، تفاجأ الطهطاوي من التجدّد المستمرّ للغة الفرنسية التي كان يتقنها، لتلائم أساليب الحياة الحديثة. لكنّ اللغة العربية لها مصادرها الخاصة لإعادة التجديد. إن نظام الجذر الذي تشترك فيه اللغة العربية مع ألسنة سامية أخرى مثل العبرية قادر على توسيع معاني الكلمات باستخدام تباينات ساكنة منظمة: كلمة الطائرة، على سبيل المثال، لها جذر كلمة الطائر نفسها.

دين ومعرفة
في كتابه الجديد "الحرية في العالم العربي: المفاهيم والأيديولوجيات في الفكر العربي في القرن التاسع عشر" Freedom in the Arab World: Concepts and Ideologies in Arabic Thought in the Nineteenth Century (منشورات جامعة كامبريدج، 235 صفحة، 99.99 دولارًا)، يقدم الباحث وائل أبو عقصة من الجامعة العبرية في القدس دراسة أكثر تفصيلًا لعمل الطهطاوي وخلفائه. تتوجّه دراسته إلى المتخصصين في الفكر السياسي بدلًا من القراء العاديين، وتتطلب حججها بعض الحساسية للنقاط العربية الجيدة.

يبيّن أبو عقصة كيف أن اللغة المقدسة للقرآن وغيره من الكتب المقدسة الإسلامية جاءت في هذه السنوات لاستيعاب مفاهيم جديدة مثل الحرية والتقدم والعلوم والحضارة، وأحيانًا عن طريق تبني مصطلحات جديدة، ولكن غالبًا عن طريق توسيع الاستخدامات الدينية السابقة. ويكتب: "من خلال كسر احتكار" الدين للمعرفة، يمكن للغة الجديدة للعلوم أن تستوعب التخصصات الحديثة.

تمت معايرة العملية بعناية. على سبيل المثال، خلال الفترة التي قضاها الطهطاوي في باريس، لاحظ أن الناس أحرار في ممارسة أي دين اختاروه، بدون أي قيود، ولكن من المهم أن يستخدم في النص العربي الذي يتناول رحلته، كلمة "يباح"، بدلًا من "حر"، عارضًا بالتالي ما يسميها أبو عقصة "فجوة مفاهيمية كبيرة" بين مفهوم السلطة الكامن خارج إرادة الفرد، التي يمتلكها عادة الحكام أو رجال الدين، ومفهوم التنوير عن "الحق النابع من الإدراك المدني لوضع الفرد في النظام السياسي". وعلى الرغم من طول مدة إقامته في العاصمة الفرنسية، إلا أن فكرة الطهطاوي عن الحرية كانت أقرب إلى الجبرتي منه إلى روسو: ما يرغب [الفرنسيون] فيه ويسمّونه الحرية هو بالضبط ما نعتبره نحن [المسلمين] عدالةً،ّ وذلك لأن معنى الحرية هو المساواة أمام القانون الذي لا يميز فيه الحكام بين الناس، بل يطبّقون دولة القانون [كأعلى قيمة].

كتب دي بيليغ أن "المنطق الذي يكمن وراء مثل هذه التكافؤات" - حيث يُنظر إلى العدالة الإسلامية على أنها متطابقة مع الفكرة الفرنسية عن الحرية، وحيث يُفهم الحماس الديني على أنّه شكل من أشكال الوطنية - "يبدو مفتعلًا وغير مقنع". ويبدو أن هذه الجهود تهدف إلى إظهار أن المبادئ التي تعتبر الآن "حديثة، مثل التعددية والحرية والحقوق، كانت موجودة في شكل جنيني في أوائل الإسلام". هذا التوتر بين مفاهيم التنوير الفرنسية للمساواة والمفاهيم الإسلامية للعدالة يستبق الصراعات السياسية والدستورية في تركيا ومصر وإيران وغيرها، في القرون التي تلت ذلك.

أوروبا المتحولة
في باريس، شهد الطهطاوي ثورة يوليو 1830، عندما استُبدل حكم شارل العاشر البوربوني بالملكية الدستورية للويس فيليب. تغيّر لقب الملك من "ملك فرنسا"، الذي احتل عرشه بحق الوراثة، إلى "ملك الفرنسيين"، الذي يجسّد لقبه مبدأ السيادة الشعبية. استخدم الطهطاوي مصطلحات جديدة لشرح التنافس بين المعسكر الملكي وأعدائه، أنصار الحرية. 

ويقول أبو عقصة إن استخدام الحرية "يحقق استقرارًا كبيرًا في اللغة العربية خلال هذه الفترة" كمؤشر إلى التوجه السياسي الليبرالي. ومع مرور الوقت تطوّر مفهوم الحرية ومشتقّاته اللغوية إلى الدستور الليبرالي لحزب الوفد المصري الذي سعى إلى الاستقلال عن السلطة البريطانية بعد عام 1919، وحركة الضباط الأحرار الأكثر تطرفًا التي استولت على السلطة في عام 1952 لطرد البريطانيين من معقلهم في قناة السويس.

يمكن رؤية المعاني المتغيّرة لأوروبا والحرية الأوروبية في العالم الإسلامي في تاريخ ميدان التحرير بالقاهرة. سميت الساحة سابقًا على اسم الوالي المصري إسماعيل باشا (حكم من 1863 - 1879) الذي جرّ بلاده إلى الإفلاس بعد غزو السودان، وحفر قناة السويس بتكلفة بشرية هائلة، وأعاد صياغة القاهرة كمدينة جديدة، مستوحيًا من باريس هوسمان، الذي تباهى أنّها "الآن جزء من أوروبا". 

في عام 1952، أطاح الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر الملكية، وأقاموا دولة عسكرية استبدادية، وأعادوا تسمية الساحة، بسخرية لا إرادية، "ميدان التحرير". عندما قال جورج دبليو بوش، في خطابه في سبتمبر 2001 بعد الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون، "إنهم يكرهون حرياتنا: حريتنا في الدين، وحريتنا في التعبير، وحريتنا في التصويت والتجمع والاختلاف مع بعضنا البعض"، وأعقب ذلك بـ"صدمة ورعب" الغزو، تذكّر الشرق أوسطيون على الأرجح الاحتلال أكثر من تذكّرهم شجرة الحرية.

التحديث القسري
خلال مناقشة دي بيليغ قضيّته، يأخذ قرّاءه في رحلة رائعة عبر القمم والوديان على طول الطريق الإسلامي نحو العالم الحديث. إحدى القمم هي دراسة التشريح - وهو موضوع ذو أهمية حيوية، لا يتم النظر إليه عادة في مناقشات "التحديث القسري" المفروض على العالم العربي من خلال إصلاح الحكام المستبدين. خلال فترة الاحتلال الفرنسي، ربما شاهد حسن العطار (1766-1835)، وهو عالِم ومُعَلِّم من أبطال كتاب دي بيليغ، غرفة تشريح الحيوانات في معهد نابليون في مصر، الذي كان يتضمّن قفصًا للطيور وحديقة نباتية ومرصدًا ومتاحف صغيرة متنوعة، وكذلك ورش عمل لإنتاج مجموعة واسعة من الأدوات العلمية، من الأدوات الدقيقة إلى شفرات السيف والعدسات المجهرية".

على أية حال، أصبح العطار مقتنعًا بضرورة دراسة التشريح ـ على الرغم من المعارضة الدينية الهائلة التي كانت جزئيًا نتيجة اعتقاد المسلمين المنتشر بأنّ "الموتى يشعرون بكل شق يجرحهم"، وأنه في يوم القيامة يجب أن تكون الجثث سليمة. عندما تم توظيف الجراح الفرنسي أنطوان كلوت (1793-1868) من قبل محمد علي لتحسين صحة رعاياه، كان محظوظًا أن العطار، الذي كان في ذلك الوقت أرفع رجل دين في العالم السني، كان لديه النفوذ لإلغاء المعارضة المتعصّبة التي أظهرها أقرانه المحافظين في جامعة الأزهر. لكنها كانت مهمة خطيرة. وكما ذكر كلوت، "لقد أجرينا عمليات التشريح [الأولى] بدون علم الجمهور، وأحطنا المدرج بحراس ربما كانوا سيكونون أول من يهاجموننا لو عرفوا ما يجري".

"مَن عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم" هو المثل الذي يعكس القلق من فقدان الهوية الذي قد يكون قويًا بين المسلمين اليوم بقدر ما كان قويًا في تسعينيات القرن التاسع عشر، عندما أصدر الحاكم القاجاري ناصر الدين شاه (حكم بين عامي 1848 و1896) "مرسومًا بأن تتخلى نساء الحريم عن ملابسهنّ التقليدية من السراويل الطويلة المطرزة من أجل زي شبيه غريب" كان قد أذهله في زيارة إلى الباليه في باريس. غير أن مثل هذه السخافات لا ينبغي أن تنتقص من تأثير التحولات الحقيقية في المواقف الاجتماعية، مثل التحول من عدم تقبّل المجتمع لفكرة تعليم ابنة شخص ما، إلى عدم تقبّل فكرة ألا تتعلّم.

المستبد التقدمي!
يتعمق دي بيليغ بشكل خاص في التوتر المستمر في هذه المجتمعات بين ما يسميه "استبدادًا تقدميًا وإرادة شعبية جاهلة". على سبيل المثال، عندما اجتاح الطاعون الأراضي العثمانية (بما فيها مصر) قبل أربعينيات القرن التاسع عشر، استشهد العلماء بأحاديث مفادها أن الطاعون من عمل الجنّ (ثمة مراجع قرآنية كثيرة عن هذا الموضوع)، وأنه كان بالتالي من غير التقي التدخل في إرادة الله عن طريق مكافحة انتشاره. أسس محمد علي محطات للحجر الصحي في القاهرة في وقت مبكر من عام 1813، وأمر الناس برش الشوارع بالماء وبتهوئة ملابسهم. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأ حملة بالتعاون مع القناصل الأوروبيين لمهاجمة أماكن تكاثر بكتيريا عصية الطاعون من خلال ملء البرك الراكدة، وحرق القمامة، ومراقبة المواد الغذائية للحصول على النضارة والجودة. كان الانخفاض في معدل الوفيات كبيرًا.

في عام 1841 كان عدد الضحايا في الإسكندرية حوالى ستة آلاف. بعد أربع سنوات فحسب أصبح العدد صفرًا. ويلفت دي بيليغ: "مع قمع الطاعون، بالطبع، صمت الظلاميون. وقف الإسلام إلى جانب الوقاية، وتدابير الصرف الصحي نفسها التي تم التنديد بها على أنها هرطقة دخلت روتين الحياة. كان التأثير اللاهوتي مهمًا، مع شيخ الإسلام - رجل الدين الأعلى رتبة في الإمبراطورية العثمانية - الذي أعلن في عام 1838 "عندما تصاب المدينة بالطاعون، يُسمح لها بتفادي غضب الله واللجوء إلى حضن رحمته".

صدر تقرير حكومي في العام نفسه يشرّع نظرية المعرفة ذات المسارين التي تدعم فتوى الشيخ: "جميع الفنون والمهن هي منتجات العلوم. تخدم المعرفة الدينية الخلاص في العالم اللاحق، لكنّ العلم يخدم كمال الإنسان في هذا العالم... من خلال العلم يمكن لرجل واحد الآن أن يقوم بعمل مئة رجل. أصبح من الصعب العمل والربح في البلدان التي يجهل فيها الناس هذه العلوم. بدون العلم لا يستطيع الناس معرفة معنى الحب للدولة وأرض الآباء".

باختصار، يشير دي بيليغ إلى أن "عصر التنوير الإسلامي حدث بالفعل، تحت تأثير الغرب، لكنّه وجد شكله الخاص". حدث "من خلال التدابير الصغيرة التي لا تحصى، والتقدم والأخبار المنتشرة والحذف" التي جلبت "المبادئ الحديثة للتجارب والملاحظة والتحليل" إلى بعض المراكز الرائدة في العالم الإسلامي. "لقد أظهر التفكير الجديد نفسه أولًا في الميكانيكا العسكرية، قبل أن يقفز إلى الطب والتعليم".

مع الوقت، فإنّ "الإحصاءات، وعلم الاجتماع الحديث والإبداع الزراعي والنظرية السياسية" استرشدت جميعها بأفكار المنفعة والتقدم. ويجادل بأن بعض سمات التنوير عالمي، مثل "هزيمة العقيدة أمام المعرفة المثبتة، وتخفيض رتبة رجل الدين كحَكم في المجتمع، وإبعاد الدين إلى المجال الخاص"، وكذلك، في النهاية، "المبادئ الديمقراطية وظهور الفرد لتحدي المجموعة التي ينتمي إليها". ويصرّ على أن هذه الأفكار قابلة للتحويل عبر جميع أنظمة الإيمان، وأنها دخلت أيضًا في الإسلام. وهي تعمل الآن، حتى لو عانت رفضًا.

مشاركة فكرية
هذه وجهة نظر متفائلة، تشير إلى أنه في النهاية، ينبغي أن تتلاشى قوة المؤسسات الدينية في إيران والمملكة العربية السعودية - وهما دولتان حيث السلطة الدينية تعزز الخصومات الطائفية - أمام منطق التغيير. 

يهيّئ دي بيليغ المشهد لمشاركة فكرية بين العالمين الإسلامي والغربي في ثلاثة فصول عن مدن القاهرة وإسطنبول وطهران، حيث أدّى اللقاء مع أفكار التنوير إلى توليد الحركات القومية ذات التوجهات الحداثية، وفي نهاية المطاف رد الفعل على الحداثة، الذي يسمّيه مكافحة التنوير (يشار إليه عادة باسم الإسلام). يتمّ إنجاز هذا ببراعة مع التفاصيل الرائعة والرؤى. ولكن بعد قراءة الفصول التي تتناول المدن، يتساءل المرء: لماذا لم تتم إضافة دلهي إلى القائمة؟. فبعد تأمين مصر، كان نابليون ينوي التحالف مع السلطان تيبو، حاكم إمارة ميسور الجنوبية وأكثر أعداء بريطانيا فعالية في الهند في ذلك الوقت.

تم إضفاء الطابع الرسمي على انهيار السلطة الإسلامية في جنوب آسيا من خلال خلع الإمبراطور المغولي الأخير في عام 1858، ما شجّع النهج المبتكرة للتقاليد الإسلامية، كما كانت الحال مع الهزائم التي عانى منها العثمانيون في أوروبا وأتباعهم المماليك في مصر. أدّت الاضطرابات الأخلاقية في الهند الناجمة من فشل التمرد العظيم في عام 1857، والذي وصفه البريطانيون بأنه "عصيان"، إلى سلسلة من ردود الأفعال الفكرية واللاهوتية، على نطاق واسع بقدر الهزائم التي عانت منها القوى الإسلامية في إيران والغرب العثماني. كان المصلح الهندي سيد أحمد خان (1817-1898)، وهو موظف سابق في شركة الهند الشرقية، شهد الآثار المدمرة للانتقام، عندما قتلت القوات التابعة للقيادة البريطانية ما يصل إلى 30000 شخص في دلهي، عاصمة المغول، وهدمت نصف منطقة لنكاو تقريبًا، أكبر مدينة في جنوب آسيا في ذلك الوقت.

مدركًا مدى القوة الاستعمارية، خلص سيد أحمد إلى أن الكفاح العسكري ضد الحكم الاستعماري سيكون ميؤوسًا منه واختار إصلاح القيادة الدينية والاتفاق مع المحتلين البريطانيين. في تعليقاته على القرآن والكتاب المقدس، وفي العديد من الدراسات والمقالات، كان يجادل بأن الإسلام متوافق تمامًا مع التقدم ومعرفة العلوم، وأنه يجب على المسلمين التعامل مع هذه المعرفة مثل أسلافهم في العصر الذهبي للكلام، الفلسفة الإسلامية. أدّى قرار سيد أحمد بالعمل مع البريطانيين إلى تأسيس كلية أنغلو- مسلمة في أليغرا - تمت ترقيتها إلى جامعة في عشرينيات القرن الماضي - لتدريب جيل جديد من النخب الإسلامية ذات التفكير العلماني.

كما ظهرت تطورات مماثلة في آسيا الوسطى، حيث أدى التوسع الروسي إلى إعادة تقويم التقاليد الإسلامية من قبل قادة مثل إسماعيل غاسبرينسكي (1851–1914)، التتاري من شبه جزيرة القرم الذي أسس حركة "جديد" الإصلاحية، المؤثّرة على المجتمعات الإسلامية من القرم إلى وادي فرغانة في آسيا الوسطى. كان غاسبرينسكي أستاذ مدرسة، وتمّ تعيينه في إحدى المرّات عمدة مدينة باختشيساراي، مسقط رأسه، ورأى أن اعتماد المعرفة العلمية من الغرب الكافر هو شرط أساسي للتجديد الثقافي. وفي هذا الصدد، كانت لديه الرؤية مثل سيد أحمد وغيره من المدافعين عن التنوير الإسلامي، مثل جمال الدين الأفغاني (1839-1897) في العراق وتلميذه المصري محمد عبده (1849-1905)، الذي يظهر في هذين الكتابين.

تقع عملية الإصلاح الأوسع في العالم الإسلامي خارج نطاق عمل أبو عقصة. على النقيض من ذلك، يوحي عنوان دي بيليغ، "عصر التنوير الإسلامي"، بموضوع أكبر، وقد يبدو غياب شخصيات مثل غاسبرينسكي وسيد أحمد حذفًا ذا مغزى. هذا لا يهم إذا كانت مناطق مختلفة (الغرب العثماني، والمركز الفارسي، والهند، مع تراثها المميز للتفاعل بين المسلمين والهندوس) معزولة عن بعضها البعض. ولكن في القرن التاسع عشر، مدفوعةً بالمنافسة الإمبريالية، كانت العملية التي أسميناها العولمة، قد بدأت بالفعل، خاصة في التبادل المتنامي بين جنوب آسيا والشرق الأوسط.

افتراضات جهادية
قد يتضمّن "التنوير الإسلامي" أيضًا الشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال (1877-1938)، الذي درس في بريطانيا وألمانيا، وأحب غوته وأعجب بنيتشه، وكتب شعرًا بالفارسية ساعد على إلهام الثورة الإيرانية في عام 1979. وبالمثل، الصحافي والباحث الهندي أبو الأعلى المودودي (1903-1979)، مؤسس الجماعة الإسلامية Jamaat-i-Islam، الحركة الإسلامية التي يدعوها بانكاج ميشر، من دون مبالغة، "أول حزب طليعي ثوري بأسلوب لينين في أي مكان في العالم الإسلامي"، القائمة على الأفكار السياسية الغربية.

يمكن القول إن المودودي هو المؤسس الحقيقي للحركة الإسلامية الحديثة. واستندت معارضته اللاذعة للوطنية العلمانية وكذلك للاستعمار، إلى القلق الطائفي لمسلمي الهند في السنوات التي سبقت التقسيم. لقد واجهوا حركة رأى المودودي أنها ملوثة بنفوذ هندوسي، وهي وجهة نظر يتقاسمها معه محمد علي جناح، العضو السابق في عصبة عموم الهند الذي يئس من فكرة توحيد الهندوس والمسلمين، فأسس باكستان. 

قام آية الله الخميني بترجمة نصوص المودودي باللغة الفارسية. أما سيد قطب، مؤلف كتاب "معالم" (1964)، والمناصر للجهادية الحديثة والأب الفكري للقاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى، فتأثّر تأثرًا شديدًا بكتاباته.

ومثلما قامت المفاهيم السياسية الغربية بصقل النضال من أجل الاستقلال الهندي، يكشف الخطاب الجهادي الحديث عن مجموعة من الاقتراضات من الفكر الغربي الراديكالي. وكما كتب الفيلسوف البريطاني جون غراي، فإنّ "الأصولية الإسلامية" ليست نموًا محليًا بحتة، بل هي "هجين غريب نشأ من لقاء أقسام من المفكرين الإسلاميين مع أيديولوجيات غربية راديكالية" – وربما أيضًا مع الفرص الجديدة للدعاية والتوظيف التي توفرها وسائل الإعلام الاجتماعية. كانت "حركة التنوير الإسلامية"، وردود الفعل التي ولَّدتها، ظواهر امتدت إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط.



أعدّت إيلاف هذا التقرير نقلًا عن موقع "nybooks". الأصل منشور على الرابط:
http://www.nybooks.com/articles/2017/06/22/islamic-road-to-modern-world/