ولدت بوكو حرام نتيجة مصالح محلية متعددة الأوجه تعمل في بيئة سياسية معقدة. وكان سعي أي فاعلين خارجيين لتورط أكثر نشاطًا في الأزمة مجازفة في الإسهام في تشكل هذه الأزمة النيجيرية.

إيلاف: يتجاوز محمد عبد الكريم أحمد في دراسته "بوكو حرام من الجماعة إلى الولاية" حدود المعالجة التقليدية لقضية بوكو حرام، ويضعها في إطار سياقها التاريخي والمجتمعي، راصدًا ومحللًا إشكالية البحث في جذور الراديكالية الإسلامية، في غرب أفريقيا على وجه العموم، وفي الخبرة النيجيرية على وجه الخصوص، من خلال تتبع وتحليل قضايا السياسة والحكم في نيجيريا منذ الاستقلال، مؤكدًا أن نشأة بوكو حرام لم تكن منفصلة عن المجتمع النيجيري بكل أطيافه ومشكلاته، والذي تفوق فيه الولاءات الدينية والإثنية الولاء للدولة. 

بوكو حرام تعني فعلًا "الحضارة الغربية" محظورة

وقال محمد عبد الكريم "إن التركيبة السكانية في نيجيريا منقسمة بين المسلمين (50.5%) والمسيحيين (48.2%)، والنسبة الباقية (1.4 %) سكان وثنيين. 

يسيطر الدين على الحياة اليومية للنيجيريين. ومن هنا فإنه ليس مفاجئًا بالمرة أن صنف النيجيريون في فبراير 2004 على أنهم الشعب الأكثر تدينًا في العالم مع إيمان 90% من السكان بالله، والصلاة بانتظام، وتأكيد استعدادهم للموت في سبيل معتقداتهم. 

تحديات أساسية
أشارت التفسيرات أيضًا إلى أن الدين في نيجيريا يعد بلا شك القوام الحقيقي للسياسة والتفاعل الاجتماعي، وأن دور الدين كمشرع للسلطة له مضاعفات مهمة بالنسبة إلى مجتمع تعددي مثل نيجيريا. ويشتق ذلك من وجهات نظر الجماعات الدينية المهيمنة في البلد التي ترى الله مصدرًا للسلطة وسنامها. يؤدي هذا التصور إلى التنافس على السلطة السياسية وفق مبادئ دينية. ويفسر ذلك جزئيًا سبب كون الانتخابات والتعيينات السياسية مجالات يتم فيها التفاعل بين الدين والسياسة بأوضح ما يكون في نيجيريا. 

يحتشد أنصار المجموعات الدينية انتخابيًا لمصلحة أحد أفراد عشيرتهم حتى ينتخب في منصب سياسي. وفي أمثلة عديدة "فإن هذه المنافسات تسفر عن العنف". وفي مثل هذه الصراعات فإن أصحاب الهويات الخاصة يتم تحديدهم من قبل المهاجمين لتتم تصفيتهم. 
ربما تخدم الطبيعة الجماعية للعنف تقوية تضامن جيو- سياسي. كما كان عدم قدرة الحكومة (أو ربما تحفظها في رأي البعض) على التعامل بحسم مع الأحداث السابقة أحد العوامل الرئيسة وراء تكرار الانتفاضات الدينية.

وأشار في كتابه الصادر من دار العربي للنشر إلى أن مسلمي نيجيريا يواجهون اليوم تحديات معقدة لاتصال الداخل النيجيري المضطرب؛ بالموقف الإقليمي المعقد؛ في ظل الاهتمام الدولي المتزايد. من هذه التحديات: إشكالية تواضع تأثير الإسلام سياسيًا في نيجيريا، على الرغم مما للإسلام من وضعية مهمة في الواقع النيجيري. ويمكن إرجاع تواضع تأثير الإسلام في نيجيريا سياسيًا إلى عدد من العوامل التي تشكّل أبرز المشكلات التي تواجهه، ومنها: تنامي نشاطات الجمعيات التنصيرية والتغريبية بشكل ممنهج ومنظم، والتي تتجاوز عدد مائة منظمة وجمعية، خاصة أن ما يقرب من 75% من المسلمين أُمّيون، خصوصًا مع غياب إعلام إسلامي مؤثر في نيجيريا. 

زيجات مختلطة
إضافة إلى وضع المدارس العربية، فهي غير معتمدة حكوميًا منذ إلغاء تطبيق الشريعة واللغة العربية على يد المستعمر البريطاني، وهو ما ينعكس على وضعية المسلمين الاقتصادية والسياسية في الجهاز الحكومي للدولة. مع ملاحظة أن هناك مجتمعات مسلمة كبيرة في الجنوب، وخاصة وسط اليوروبا، الذين لا يبدون تعاطفًا كبيرًا مع شركائهم في الدين المقيمين في الشمال. ومن السهل جدًا أن نجد في الأسر النيجيرية وجودًا للمسيحيين والمسلمين والزواج المتبادل بينهم ليس أمرًا غريبًا.

وأكد محمد عبد الكريم أن المعضلة الأكبر في فهم نشأة بوكو حرام تبرز عند تلمس مدى اتفاقها في المنطلق مع الرأي العام للمسلمين في نيجيريا، وتلاقي بعض أهدافها مع هذا الرأي من دون الاتفاق في الوسائل، وبينما لا يوجد شك في أن بوكو حرام تسعى إلى ترسيخ الشريعة كقانون مقياسي في أرجاء نيجيريا - وهو هدف يتشارك فيه على نطاق واسع معظم المسلمين، وخاصة في الشمال - فإنه من اللافت أن الجماعة لم تضم منذ قيامها حتى اليوم أي علماء مسلمين بارزين في صفوفها. كما كانت غالبية حالات اغتيالاتها الأولى (أو الاغتيالات المستهدفة) من صفوف العلماء المسلمين الذين عارضوا تعاليم أحد مؤسسيها محمد يوسف، بل بعض من قتلوا كانوا من السلفيين أنفسهم. 

جذور سلفية
الأكثر من ذلك أن بوكو حرام بافتقادها النسبي للعلم الديني ودعم العلماء المسلمين قد برزت بين الجماعات الجهادية - السلفية في أرجاء العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال فإن القاعدة والدولة الإسلامية في العراق وسوريا كان لديهما علماء كبار معروفون بدعم أنشطتها ويكسبونها شرعية إسلامية ما. 

لا تحظى بوكو حرام بمثل هذا الدعم العلمي، ولا توجد أية حركة جهادية سلفية في أنحاء العالم دعمت واحدة من فتاوى بوكو حرام التي تبرر تكتيكاتها، بالرغم من أن جذور بوكو حرام تمتد في الجماعة السلفية. 

ورأى أن التفسير الأكثر شيوعًا لظهور بوكو حرام هو انتشار الفقر والتخلف في شمال نيجيريا، وخاصة في الشمال الشرقي. غير أن هذا التفسير يواجه انتقادات عدة، منها أن بوكو حرام نفسها في معظم الفيديوهات والبيانات لا تؤكد كثيرًا على القضايا الاقتصادية (وأحيانًا لا تذكرها بالمرة)، كما إن هذا التفسير لا يقوم عند الدفع بعدم وجود حركات مماثلة في مناطق فقيرة للغاية من نيجيريا. الأمر نفسه ينطبق على بقية دول غرب أفريقيا تعاني مناطق كثيرة منها من الفقر، لكن لم تظهر فيها جماعات مسلحة مثل بوكو حرام.

مصالح وجهات خارجية
من جهة أخرى أشار إلى رؤية البعض أن حركة بوكو حرام ظهرت نتيجة تدفق سوسيو- اقتصادي صاحب عملية الانتقال الديمقراطي (في العام 1999) وكذلك نتائج عقود من سوء الإدارة الناتج من الحكم العسكري والفساد. كما إن بوكو حرام نفسها في حالة تدفق مستمر، وكانت تتكيف دائمًا مع الظروف المتغيرة، وهو الأمر الذي تعكسه طرق عملها وعضويتها. وأطلق ذلك روايات مختلفة عن هذه الجماعة وعن إرهابها وكونها منظمة جريمة تميزت في جمعها للتكتيكات الطائفية والإرهابية، واستغلالها نقاط الضعف المؤسسية في الدولة، وتشابهها مع السياق العام للمجتمع في ولاية برونو، حيث ظهرت بوكو حرام، بما مكنها من التحرك بسهولة بالرغم من الوجود الأمني.

وأوضح عبد الكريم أن بوكو حرام لم تكن حركة عنف في بدايتها، كما إنها لم تكن عند مرحلة انتقالها في العام 2009- 2010 من الحجم أو التنظيم حتى تشكل تهديدًا وطنيًا، وأدت قدرة الحركة على استخدام الوضع المتهرئ لمؤسسات الدولة النيجيرية لتقديم نفسها على أنها تهديد كبير ذو قدرة فائقة، وزعامتها ذات القبول النسبي المتمثلة في أبي بكر شيكاو إلى إثارة شكوك حول طبيعة صلاتها الدولية. 

لكن بينما كان يتم التدويل المتزايد لبوكو حرام ونشاطها أدت رؤية المشكلة من خلال منظور دولي متعدد إلى مخاطر الاستجابات السياسية غير مناسبة. وفي حين كانت بوكو حرام متجذرة بقوة في تلك السنة في سياقها المحلي، اعتمد نموها بالدرجة الأولى على مواجهتها مع الدولة النيجيرية، بحيث يمكن القول إن بوكو حرام كانت: مضيفًا لفاعلين ومصالح محلية متعددة الأوجه وتعمل في بيئة سياسية معقدة. وكان سعي أي فاعلين خارجيين لتورط أكثر نشاطًا في الأزمة (لأي سبب كان) مجازفة في الإسهام (بقصد أو من دون قصد) في تشكل هذه الأزمة النيجيرية.

محرم إسلاميًا
وكشف عبدالكريم أن تشكل جماعة بوكو حرام في الأصل من مجموعة من الطلاب الذين تخلوا عن الدراسة، وأقاموا قاعدة جماعتهم في قرية كاناما في ولاية يوبه في شمال شرق نيجيريا على الحدود مع النيجر. وتستخدم "بوكو حرام" للإشارة إلى التعليم الغربي بكل مشتقاته وجميع الأشياء المصاحبة له والناتجة من المرحلة الاستعمارية في نيجيريا، حيث كان معظم الذين يدعون إلى التعليم الغربي من البعثات التبشيرية المسيحية، وقد استخدم هؤلاء مدارسهم في مراحل متأخرة للدعوة إلى المسيحية بين المسلمين، وعليه فقد نظر البعض إلى التعليم الغربي باعتباره ردًا عن الإسلام. 

وتعني كلمة "بوكو" في لغة "الهوسا" التقليدية حرفيًا الزيف والخداع. إنها تستخدم بمعنى "العروس المزيف"، وقد تعني كذلك أن التبشير الكنسي المصاحب للتعليم الغربي هو غير جائز من الناحية الإسلامية، وذهب البعض للقول إن كلمة بوكو هي تحريف لكلمة Book بالإنجليزية، أي كتاب، وهي مصاحبة للتعليم الغربي.

في هذه الإطار رأى محمد عبد الكريم أن أيديولوجية بوكو حرام متعمقة في ممارسة ما اصطلح عليه بالإسلام السلفي والذي تعتبره الجماعة يبغض التعليم الغربي والعمل في الحكومة. يفسر ذلك سبب اشتهار الجماعة باسم بوكو حرام، وفي أية حال فإن البيان المنسوب إلى المعلم ساني عمر القائم بأعمال زعيم الجماعة، وصادر في أغسطس 2009، رفض هذا الوصف قائلًا: لا تعني بوكو حرام بأية حال أن "التعليم الغربي حرام"، كما تواصل وسائل الإعلام الملحدة الإدّعاء. إن بوكو حرام تعني فعلًا "الحضارة الغربية" محظورة. والفارق هو أنه بينما يعطي التعبير الأول أننا نعارض التعليم الرسمي الآتي من الغرب، وهو أمر غير صحيح، فإن التعبير الثاني يؤكد اعتقادنا بتفوق الثقافة (وليس التعليم)، لأن الثقافة أوسع نطاقًا من الإسلامية، وتشمل التعليم، لكنها ليست محددة بالتعليم الغربي. وتفضل الجماعة أن يطلق عليها اسم جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد، والعمل على إنشاء مجتمع إسلامي مثالي يتجنب الفساد السياسي والحرمان الأخلاقي". 

عدو مشترك
وقال "خلال سنوات الديكتاتورية العسكرية في نيجيريا فإن القضايا الملحّة مثل انتهاكات حقوق الإنسان، وتفشي الظلم، والتهميش، والإقصاء والحاجة إلى التوصل إلى الديمقراطية عملت كقوة موحدة للمجموعات الدينية المختلفة. وكان للمسيحيين والمسلمين عدو مشترك يواجهونه؛ إذ أرادوا التحرر من القبضة الحديدية للديكتاتوريات العسكرية. وفي أية حال فقد كانت سلسلة القيادة العسكرية قادرة على إثارة العنف المرتبط بالدين. 

وعقب الموت المفاجئ لآخر طاغية عسكري نيجيري، وهو ساني أباتشا في عام 1998، فإن أوليسجون أوباسانجو، وهو عسكري سابق، فاز بالانتخابات الرئاسية، وأصبح حاكمًا ديمقراطيًا للبلاد. ولسوء الحظ فإن الديمقراطية الناشئة صاحبتها سنوات من التوترات الدينية التي تم قمعها، لكنها تراكمت في النهاية في الحالة النفسية الجماعية للكثير من النيجيريين. وبهذا المعنى فإن غير المنتمين إلى الجماعة اعتبروا كفارًا أو فاسقين. تكمن المفارقة في أن أنصار بوكو حرام لا يرفضون استخدام المنتجات التكنولوجية أو يعترضون عليها، مثل الدراجات البخارية والسيارات والهواتف المحمولة وبنادق AK-47، وغيرها من مكتسبات الحضارة الغربية".

وشدد محمد عبد الكريم على أنه من المضلل الاعتقاد أن نيجيريا كانت من دون مشكلات دينية قبل العقود الأخيرة. فقد كانت هناك، ولمدة قرون منذ دخول الإسلام ثم المسيحية إلى الإقليم الذي أصبح لاحقًا نيجيريا الحديثة، توترات بخصوص تفسيرات مفهوم العلاقة بين الدين والدولة واستخدام القضايا الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. 

روح انتقامية
أرخ لمجموعة الحركات الإسلامية التي سبقت بوكو حرام، وتباينت عنها في أوجه عدة، ومنها: جماعة "نصر الإسلام، وجماعة "إزالة البدعة وإقامة السنة"، وجماعة الطلاب المسلمين، وجمعية "أنصار الدين"، وجماعة الدعوة. هذا بجانب حركات أصغر، وأكثر راديكالية بشكل بالغ ظهرت في الوقت نفسه لظهور "إزالة". 

ونبه عبد الكريم إلى الأسباب التي جعلت قيام بوكو حرام يلاقى تأييدًا واسعًا ساهم في نشر فكرها، ولخص هذه الأسباب في الآتي: أولًا ما خلفه تطبيق الشريعة الإسلامية في ولاية زمفرا من طموح الشباب في تنفيذ ذلك في ولاياتهم بشكل كلي، وليس جزئيًا كما فعل الكثير من الولايات.

ثانيًا روح الانتقام التي أبدتها الأقلية المسيحية بشن هجمات في المناطق التي طبقت الشريعة الإسلامية، حيث مارست القتل وإحراق البيوت والمساجد والمراكز التجارية، لإظهار رفضها وقلقها من الشريعة الإسلامية، مع إعلان تلك الولايات بأن الشريعة لا تخص غير المسلمين في البلاد. مثال ذلك ما حدث في مدينة "كادونا"، وكذلك ما حدث في مدينو "جوس" في ولاية "بيلاتو" 2001، وفي حوادث متكررة خاصة في عاصمة الولاية "جوس"، من دون إدانة من لهم يد في إشعالها بعد إجراء التحقيقات، وكأنهم قتلوا حشرات وليس بشرًا. ولاشك أن هذه الجماعة حين عرضت نفسها كمدافع عن الإسلام والمسلمين ضد هذه الهجمة الوحشية فإنها وجدت نفوسًا متعاطفة متآزرة معها، وخاصة من قبل بسطاء المسلمين. 

ثالثًا ما شهده شمال نيجيريا من صحوة دعوية تتسم بالتشدد والخروج عن المنهج الإسلامي الوسطي، وكانت منابر الدعاة تهتز دائمًا بالمحاضرات التي تدعو إلى البطولة والجهاد، وهتاف بعض العلماء بهتافات القاعدة، والتأكيد على الدعوة للجهاد من دون إيضاح قواعدها وضوابطها.

طائفية وأمية
رابعًا تردي الوضع الاقتصادي وانتشار البطالة والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، فكما سبقت الإشارة حول ما تمتلكه البلاد من ثروات بشرية ومادية، إلا أن الشعب يعيش في فقر مدقع، من دون كهرباء أو ماء صالح للشرب، بل إن سكان الأرياف يشربون من المستنقعات مباشرة. يفسر هذا الفقر في ضوء الفساد الذي ينخر في عظم الدولة، حيث تحتكر فئة قليلة من رموز الدولة كل الثروات وتستغلها، ولم يستثمروها في البلاد، مما أدى إلى خروج جماعات معارضة مختلفة من هنا وهناك هذه بصفة العرقية وأخرى بصفة الدين. 

خامسًا تفشي الأمية والجهل بين أفراد الشعب، فأكثر من 50% من شعب نيجيريا يعيشون في الجهل دينيًا وثقافيًا حتى صارت المنابر يعلوها الشباب، الذين ليست لديهم مؤهلات علمية إلا شهادة الثانوية، بل ومن دونهم يستفتيهم البسطاء فيفتونهم بغير علم ويتعالون على العلماء. 

سادسًا توظيف الانقسامات العرقية والطائفية من جانب بعض السياسيين من أجل الوصول إلى السلطة، وهو ما يعطي الفرصة للتيارات الدينية المتطرفة كي تنشط بقوة، على أساس أنها تدافع عن دينها وعقيدتها أو منطقتها، مثال ذلك ما حدث في ولاية نسراوا 2008، من إغلاق المسيحيين الشارع الكبير من عاصمة الولاية إلى أبوجا وإخراج المسلمين من المواصلات وقتلهم ليس إلا إظهار الغضب للمرشح المنافس للمسلم الحاج "عبد الله علي أكوي".