&
&
من الأحداث الثقافية التي عاشتها فرنسا خلال السنوات الماضية،بيع الرسائل التي كان يبعث بها الكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ(1881-1942) الى مترجمه الفرنسي ألزير هيلاّ(1881-1953).وتقول السيدة دومينيك بونا التي كتبت سيرة زفايغ ،وقدمت العديد من أعماله الى القرّاء الفرنسيين الذي لا يزالون يقبلون اقبالا هائلا على قراءته،واكتشافه في تجلياته المختلفة أن ألزير هيلا كان يتقن اللغة الألمانية.لهذا تمكن من أن ينقل أعمال صاحب "عالم الأمس" الى لغة موليير بطريقة سلسة وبديعة ،محافظا على موسيقية أسلوبه وعلى تدفقه.
ولم يكن ألزير هيلا مترجما فقط لأعمال ستيفان زفايغ بل كان أيضا صديقا حميما له ،معه يتبادل الأفكار والآراء بشأن القضايا اللغوية والأدبية والسياسية وغيرها ،ومعه يتقاسم حبّ الموسيقى الكلاسيكية والروايات الكبيرة التي تميّز بها القرن التاسع عشر متمثلة في أعمال كل من تولستوي ودستويفسكي وفلوبير وبالزاك وستاندال وغيرهم.
وبسبب وفاة والده ،كان ألزير هيلا قد أجبر على الإنقطاع عن الدراسة وهو في سنّ المراهقة ليعمل في معمل للحلويّات.وفي عام 1905،وكان عمره آنذاك 24 عاما ،استقر في باريس ليعمل في المطابع منصرفا الى النضال النقابي ،ومبديا اعجابا بالحركة الأنارخية ،ومنكبّا على قراءة كتب منظريها الكبار خصوصا الروسي باكونين.وفي مطلع العشرينات من القرن الماضي،أصبح المترجم الأساسي لأعمال كتاب من ألمانيا والنمسا أمثال هوفمان،وشنيتزلير،وهاينرش مان..كما ترجم رائعة ايريك ماريا ريمارك :"لا شيء يحدث على الجبهة الغربية".غير أن ستيفان زفايغ هو الذي استهواه أكثر من غيره .لذلك انصرف الى ترجمة
أعماله الى اللغة الفرنسية بحماس كبير.ومنذ البداية أحسّ زفايغ بأنه عثر على المترجم المثالي .لذا أبدى ابتهاجا بذلك في أكثر من مناسبة خصوصا بعد أن أصبح يحظى بفضل تلك الترجمات على شهرة واسعة في فرنسا.وربما لهذا السبب كان يخاطب ألزير في البعض من الرسائل قالا له:”أنت رسولي وسفيري في فرنسا".وفي رسالة أخرى خاطبه قائلا:” يا صديقي العزيز ...كل اعمالي هي الآن بين يديك...وأنت الوحيد الذي يمكنه التصرف فيها كما يشاء".
وقد تمّ العثور على الرسائل في أرشيف مارسيل بودي(1894-1984).وهو صديق لألزير هيلا كان قد عمل معه في المطابع في باريس،ثم انطلق الى روسيا ضمن البعثة العسكرية الفرنسية وذلك عام 1916.وهناك أبدى اعجابا بالثورة البلشفية ،وانتصر لأفكار لينين مفضلا البقاء في موسكو .وعندما اشتدت الخلافات بين تروتسكي وستالين ،قررالعودة الى بلاده مظهرا معارضة شديدة لستالين.والواضح أن ألزير هيلا طلب من صديقه قبل وفاته الإعتناء بزوجته مسلّما إيّاه البعض من المخطوطات والوثائق التي من بينها رسائل ستيفان زفايغ.
وتقول السيدة دومينيك بونا أن العديد من الرسائل قد تكون أتلفت .تدلّ على ذلك الأغلفة الفارغة.والمؤكد أن رجال "الغستابو" داهموا شقة ألزير في شارع"أوديون"بباريس خلال الإحتلال النازي لينهبوا من كتبته الخاصة العديد من الوثائق الهامة.بل أن أحدى الجرائد الفرنسية اكدت انهم استولوا على 700 رسالة من رسائل ستيفان زفايغ.وهو أمر أوجعه كثيرا.مع ذلك يمكن القول أن الرسائل التي تمّ العثور عليها تتميّز بأهمية كبيرة إذ أنها تعكس فترات مختلفة من حياة ستيفان زفايغ انسانا وكاتبا.
وتشير السيدة دومينيك هيلا أيضا الى أن الرسائل تؤكد بالخصوص علاقة الصداقة المتينة التي كانت قائمة بين كل من ستيفان زفايغ وألزير هيلا.كما تؤكد انهما كانا يتبادلان الأفكار والآراء حول الأعمال التي يمكن ترجمتها الى اللغة الألمانية.وفي احدى الرسائل ينصح ستيفان زفايغ صديقه بترجمة كتاب جديد ل"كاتب شاب" يدعى غيورغ فينك.ويتحدث هذا الكتاب الذي حمل عنوان"أنا جائع" عن أوضاع البروليتاريا في برلين ،وعن المحن التي تعاني منها.ويبدي ستيفان زفايغ اعجابه بهذا الكتاب مؤكدا لألزير هيلا أنه سيحظى بتقدير النقاد والقراء إذا ما تمت بترجمته الى اللغة الفرنسيّة.
وفي البعض من الرسائل ،كان ستيفان زفايغ يتحدث عن اوضاعه المادية الصعبة نازعا عنه تلك الصورة التي تبرزه كاتبا غنيّا ومترفا.وفي رسائل أخرى كان ينتقد الطرق التي كانت تطبع بها البعض من كتبه،والأغلفة التي يتمّ اختيارها لها.وفي رسالة كتبها في بداية صعود النازية يشير ستيفان زفايغ الى أن ألمانيا "تسير بخطى حثيثة نحو الديكتاتورية" .وبعد أن غادر النمسا في شهر فبراير -شباط 1934،وهو على يقين من أنه لن يعود إليها أبدا،كتب من منفاه في لندن ،يقول:”هذا السيد القادم من قرية براونو(يقصد هيتلر الذي ولد في القرية المذكورة على الحدود الفاصلة بين النمسا وألمانيا)هو لا يفعل الآن شيئا آخر غير تسميم حياتنا،وتلطيخها بالأوساخ".وفي عام 1940،انطلق ستيفان زفايغ الى البرازيل .وهناك انتحر مع زوجته الشابة في الثاني والعشرين من شهر فبراير -شباط 1942.