&كقطار خرج عن مساره وانقلب، أو كتشكيل جميل صنعه طفل من الرمال الندية على شاطى ثم أتت موجة غاضبة ومحت كل تفاصيلة ،هذه هى الصورة بين عشية وضحاها ، رحلت رفيقته دون أى سابق& انذار ولوحتى انذار كاذب ،وبدا له أنها النهاية فلن تعود تلك المنظومة الحياتية التى اعتادها الى ماكانت عليه ، فبعد أن فرغ العش الكبير من كل& الأفراخ الصغيرة ،وكل طار الى عشه الجديد ،وتقاعدوا& وقد سبقها بالسنوات الثلاث التى كان يكبرها بهم ، وكانت وتيرة حياتهم هادئة رتيبة رتابة محببة ، قاوموا بشدة أى شبهة تغيير في نمطها الهادئ المنتظم.
&فى زحمة مجلس العزاء كان يعلم أن الحزن الأكبر قادم بعد أن يغادر الجميع وتبدأ مراسم المواجهة مع الوحدة مع الجدران الباردة الصامتة ،فلا نقاش حاد ولا هادئ ولا كلام عن ماضى أو مستقبل ولا بحث فى شئون الاولاد والاحفاد ،فقد جاء الموت وعشش بين الجدران& وقصم ظهر حياته وحتى الذكريات أصبحت مؤلمة وبلا قيمة كورقة نقد نصفها قد ضاع .
يؤلمه أكثر أن يصبح شبه عالة بعد أن لاحظ& أن بناته يتهامسن عما سيحدث هل سيعيش وحده ؟أم يقبل العيش مع احداهن والأكثر ايلاما أن يضطر لمغادرة بيته أو يذهب لدار مسنين .&
&لقد تعب ومل من تكرار القصة لكل معز ياتى لمصافحته ، لان كل مره كان يحكى فيها عن كيف ذهب ليوقظها فوجدها بلا روح كان الجرح يزداد عمقا والمشهد المؤلم بكل تفاصيله يتمدد ويحتل مساحة أكبر فى خلايا الذاكرة وأصبح ككابوس لايرحمه حتى فى ساعة الغفوة من الاجهاد .
فى اليوم الثانى من العزاء جاء أقارب من سفر ، وكان بينهم قريب ماتت رفيقته منذ عدة سنوات ولم يكن يتتبع اخباره، اقترب منه الرجل وواساه بالكلمات المعتاده وخطرلصاحبنا& أن يسأله عن أحواله وكيف سارت أموره بعد ماحدث ، وفعل والقى السؤال مترددا& ثم بهت عندما أجابه الرجل بسرعة& (تزوجت) ، فى البدايه تخيل أن الرجل يمازحه للتخفيف عنه لكن الرجل استطرد فى شرح الأسباب وبدا كما لو كان يدفع عن نفسه تهمة، كان فى مثل سنه تقريبا أى على مشارف السبعين تابع الرجل شرح أسبابه وعندما لاحظ علامات الاندهاش على وجهه توقف ، ثم انسحب من جواره وهو يشيعه بنظرة هى مزيج من الدهشة والاستغراب& من الفكرة التى اعتبرها جنون مطبق .
&فى اليوم الثالث حضر الكاهن الى قاعة العزاء وتلا صلاه قصيرة ايذانا بانتهاء مراسم العزاء وانصراف الجميع كل الى حال سبيله ،وكان& فى الليلتين السابقتين& ينام فى قاعة العزاء مع الضيوف القادمون من سفر بعيد ، وربما الزحام والمسامرات كانت قد خففت عنه آلام بواكير ليالى الوحدة ،لكن ذلك انتهى الان وعليه أن يعود اليوم الى منزله، حاول بناته أن يستضيفوه فترة حتى يطمئنوا عليه لكنه أصر على العودة الى بيته ورفض حتى قدوم أحد معه .فهو يريد مواجهة الحقيقة كما هى مجردة عليه أن يرضى بالعيش نصف حياه ، فالبديل هو الخروج من اطارها تماما والدفن حيا فى دار مسنين يبتلع أقراص الاكتئاب أويشارك أحد أحفادة& غرفته فى شقة احدى بناته ،لكن موروث المقاومة الكامن بين ضلوعه انتفض وتذكر مقولة أن حياة الانسان تنتهى بموته هو وليس بموت الآخرين ، ثم تذكر الأمنيتين اللتين كانت لاتمل من ترديدهما& ، الاولى هى أن ترحل دون مقدمات ،& والثانية هى أن تسبقه فى الرحيل ، وكانت أسبابها فى الأولى مقنعة يشاركها فيها كثيرون ، أما فى الثانية فكانت تعتقد بأن شريكها قوى يستطيع مواصلة حياته بمفرده ، أما هى فكانت تتخيل& وتحكى سيناريوهات& مفزعه فيما لو حدث العكس ورحل هو أولا وتركها وحيده تتقاذفها بناتها بينهن وتهينها الدنيا والظروف والصحة ، هذه السيناريوهات جعلته بينه وبين نفسه ورفقا& بها وخوفا عليها يستحسن الفكرة ، وكان يداعبها مطمئنا بعبارة اطمئنى سنرحل معا. أوصله زوج احدى بناته وحاول أن ينزل معه لكنه رفض ، فتح الباب وخيل اليه أنه يسمعها تناديه باسمه كالعادة عندما يأتى من الخارج ويفتح الباب& بمفتاحه الخاص ، جفل قليلا وخطر له أن يتراجع ويغلق الباب ويعود ، لكن أحد جيرانه جاء بينما الباب مواربا& وواساه وكان يحمل قفص العصافير الذى تركوه فى رعايته أيام الجنازه ، شكر جاره ودخل لكنه ترك الباب مواربا ووضع العصافير فى مكانها& المعتاد وذهب يبحث لها عن غذائها ، وكالعادة عندما كان يهم بالبحث عن شئ ناداها بصوت عال لكن نصف الكلمة احتبس فى حلقه ،وانهمرت دموعه غزيرة حارة وجرى نحو الباب الموارب وأغلقه وبكى بصوت عال& وارتفع صوت زقزقة العصافير.
وجد غذاء العصافير وهدا وهدأت العصافير بعد بدأت فى التقاط غذائها ، وتناول أقراص دوائه وأعد فنجان من قهوته المفضلة وتمدد على أريكة فى صالة الاستقبال ونام وجاءته مبتسمة كمن حقق أمنيته للتو وخطر له أن يسألها عن بعض الاشياء التى لايعرف مكانها ، لكنه فضل ألا يشغلها عليه فهو قوى كما قالت ويستطيع مواصلة الحياه ، ونام نوما هادئا واستيقظ على فجر يوم جديد مختلف باكورة أيام مرحلة جديدة من حياته عليه أن يواجهها بأسلوب جديد& أسلوب الرجل (الأرمل).&&