تنويلابد منه من الكاتب
يلزم بداية وقبل الدخول في موضوع هذا المقال، أن نُشهد العالم على فشل الدولة المصرية في وقف مسلسل الهجمات الغوغائية الدموية على الأقباط، ولجوئها إلى معالجة لهذه الأحداث، هي بمثابة تشجيع للغوغاء ولمحرضيهم، على استمراء ممارسة الإجرام في حق مواطنيهم المسالمين من الأقباط، بل وكثيراً ما ينبع التحريض من رموز محسوبة على الدولة، كأعضاء مجالس محلية ومجلس شعب وأعضاء الحزب الوطني، وكأئمة مساجد تابعين لوزارة الأوقاف، وفي أحداث قرية فرشوط محافظة نجع حمادي الأخيرة، المتهم فيها بالتحريض هو عميد المعهد الأزهري بالبلدة.. هكذا يكون رد فعل أجهزة الدولة، ليس فقط مقصِّراً أو متهاوناً، بل ونكاد نقول مشجعاً لما يحدث من مذابح!!

لا أخفي عليكم أن أملي ضعيف، في أن يأخذ كثيرون من أهلي الأقباط سطور هذا المقال على محمل النقد الذاتي البناء، والحريص على صالح ومصالح البلاد والعباد.. وليس كهجوم من عدو أو خائن أو كاره أو متآمر.. كما لا أخفي أنني ترددت كثيراً قبل كتابة هذا المقال، رغم أن سجلي (ولا فخر) حافل بالمقالات التي استجلبت لي اللعنات، من اتجاهات الدنيا الأربعة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهي الطعنات التي اعتدت أن أعتبرها مؤشراً على أنني أساهم مع كثيرين غيري بجهودنا المتواضعة، في تحريك مياه الشرق الأوسط الراكدة، التي من المحتم عندها أن ينالنا من رذاذها، ما يكفي أحياناً لأن تتخايل أمام عيوننا أشباح الإحباط واللاجدوى.
ما تستهدفه هذه السطور هو quot;المواقع القبطية على شبكة الإنترنتquot;، فالإعلام في عصرنا هذا، هو بلا مبالغة أخطر الأسلحة أو الأدوات بيد الإنسان المعاصر.. منبع الخطور في الإعلام يرجع إلى جذرين أساسيين، أولهما نقله للواقع، وكشفه أو فضحه لكل حقائقه، التي كان من الصعب أو المستحيل في الماضي كشفها، وبذات السرعة والدقة.. فصار صوت الإنسان الفرد، المجرد من كل أسباب الحول والقوة، قادراً على الوصول إلى كل أنحاء المعمورة، دون أي مجهود أو عناء يذكر.. ورغم أن الأمر يبدو إيجابياً محضاً، استناداً إلى ارتكازه على مقوم الشفافية، الذي يتيح لجميع الأطراف والفرقاء عرض وجهات نظرهم، إلا أنه شأنه شأن كل ما في الحياة، لا يخلو من سلبيات، تنشأ عن سوء الاستخدام، أو سوء نية المستخدمين، سيان.. فالإمكانية المفتوحة انفتاحاً مطلقاً للنشر على شبكة الإنترنت، تحمل في طياتها إمكانية تعرض المطالع لها لتأثيرات التهويل مثلاً، وذلك عن طريق تكرار عرض خبر ما، والتركيز المكثف عليه بالتعليقات والمناقشات، ليأخذ مساحة لا تتناسب مع حجمه الطبيعي على أرض الواقع العيني، بما يخلق مسافة تختلف من حالة إلى أخرى، بين ما نعرفه بالواقع الافتراضي على الشبكة العنكبوتية، وبين الواقع الحقيقي المعاش.
يقودنا هذا إلى الجذر الأساسي الثاني لخطورة الإعلام في عصرنا، وهو أنه بسطوته وسيطرته على الإنسان، خلال ساعات عديدة من يوم الإنسان الفرد، وهي الفترة التي يجلس فيها أمام وسائل الإعلام باختلاف أنواعها.. يخلق الإعلام عالماً موازياً للعالم الواقعي.. ونحن نفترض أن العالم الواقعي يؤثر على هذا العالم الافتراضي، ليأتي مطابقاً له، وهذا صحيح وحقيقي بقدر ما.. لكن أيضاً هناك تأثير عكسي، يأتي من العالم الافتراضي، الذي يتشبع به الإنسان، ويؤثر على نظرته وتصرفاته في العالم الواقعي.. هذه النقطة كسابقتها، ليست أيضاً إيجاباً محضاً، أو سلباً محضاً، فلا يكاد أمر يتفرد بسلبيات دون إيجابيات، ولا بإيجابيات دون سلبيات.
تأتي الإيجابيات هنا، حين يكون ما يتميز به الواقع الافتراضي على الواقع العيني المعاش، عبارة عن تطلعات ورؤى مستقبلية إيجابية من منظور الحداثة والحضارة، يتناولها الإعلام كأنها حقائق حاضرة وحالة، فيتأثر بها المطالع أو المشاهد، ليبدأ أداؤه العملي ينحو باتجاهها بدرجة أو بأخرى.. الأمر هنا أشبه بأن تقنع إنساناً بأنه صادق وأمين ومجتهد مثلاً، رغم أنه قد لا يمتلك بالفعل من هذه الصفات إلا النذر اليسير، فالأغلب أنه سوف يتأثر بما نقنعه بأنه يمتلكه من صفات، فتتلبسه روح الصدق والأمانة والاجتهاد، وذلك بدرجة أو بأخرى.
تأتي سلبيات تلك الحالة، حين يكون الواقع الافتراضي الذي تصوره وسائل الإعلام سلبياً ومتدنياً، فيتصور وينظر المشاهد إلى الحياة، على ضوء الأفكار والأحكام التي تشكلت لديه بفعل الواقع الافتراضي.. فإذا كان الواقع الذي يصوره الإعلام عنيفاً وحافلاً بجرائم القتل مثلاً، فليس لنا أن نتوقع إلا أن تكون ردود أفعال الإنسان متأثرة بهذا العنف.. هكذا يكون التأثير متبادلاً بين العالمين، العالم الحقيقي، والعالم الافتراضي الذي تصوره وسائل الإعلام.
الآن لدينا عدد لا بأس به من المواقع الإلكترونية القبطية، أراد لها مؤسسوها أن تعمل وفق الجذر الأول لوظيفة الإعلام، وهو نقل الواقع المصري، وبالتحديد ما يعاني منه الأقباط.. الهدف شريف ومجيد، هو توصيل صوت الأقباط إلى العالم، والضغط على أولي الأمر في مصر، للقيام بما يتوجب عليهم القيام به، من ترتيب للساحة المصرية، على أسس مبدأ المواطنة، الذي يساوي بين جميع المصريين، على قاعدة سيادة القانون، وتفعيل آلياته في الواقع المصري، بما يتيح ردع كل من تسول له نفسه اختراقه، وارتكاب ما يرتكب حالياً في حق الأقباط من جرائم.
لكن كثيراً ما يحدث أن يبني الإنسان آلة لكي يقودها ويتحكم فيها، ليحقق بها أغراضه، لكن عندما تستكمل الآلة بناءها، ترتد هي عليه لتقوده، ذاهبة به إلى ما لم يتصور أنه سوف يذهب إليه.. فالمواقع الإلكترونية المفتوحة تحتاج إلى أخبار ومدونات لتملأ فراغها، وهي تستهلك بشراهة ما يلقى به إليها، والذي سرعان ما يتقادم، فتطلب المزيد والمزيد.. هناك أيضاً العشرات والمئات من الشباب والنشطاء، الذين احترفوا أو تطوعوا للعمل بهذه المواقع، والذين تدفعهم وظائفهم التي يتقاضون عليها رواتب، أو مكافآت بالقطعة.. كذا حماستهم للقضية، أن يزودوا تلك المواقع، بتيار مستمر من المدونات والأحداث، بالطبع حول ذات القضية التي تم إنشاء تلك المواقع من أجلها، وهي قضية معاناة الأقباط، وما يرتكب في حقهم من جرائم.. هكذا يمكن أن تسيطر الآلة على صاحبها، فبدلاً من أن نطلب نافذة إعلامية لنعرض عن طريقها ما يحدث للأقباط، نجد أنفسنا أمام الحاجة لأحداث تقع للأقباط، لنعرضها في نوافذنا الإعلامية، التي لا تشبع ولا ترتوي، طالبة المزيد والمزيد من تلك المواد والأخبار!!
اذا لم يكن لنا أن نتوقع أن تبرأ الورود من الأشواك المحيطة بها، فليس لنا أن نستغرب من المواقع الإلكترونية القبطية، التي من المفترض أنها أنشأت لتحارب الكراهية والفاشية، أن تستقطب بعض المتأثرين بثقافة التعصب السائدة في مصر، يندسون وسط النشطاء الأقباط الجادين والمخلصين لقضية العدالة والليبرالية.. هؤلاء يجدونها فرصة سانحة، ومجالاً نموذجياً لضخ أفكار ومشاعر الكراهية المختزنة لديهم، والتي كانوا لا يجرؤون في السابق على التلفظ بها، فيدخلون في تنافس مع المواقع والمنابر المتأسلمة، والتي احترفت واحتكرت منذ زمن ضخ خطاب كراهية مماثل، بل ويقتضي الإنصاف أن نقول أن خطاب الأخيرة، أكثر وأعمق كراهية، كما تقطر من حروفه أيضاً دماء ضحاياه، من الكفار وأعداء الله.. هكذا يتم شحن الواقع الافتراضي بالكراهية والعداء بين مواطني مصر المسلمين والمسيحيين، بما يخالف الواقع الذي نعيشه جميعاً، والذي يشهد توافقاً وتعايشاً طبيعياً، تدعمه طبيعة وسيكولوجية الإنسان المصري، الميال بطبعه إلى السلام، وإلى الحياة الوادعة المتدفقة هوناً، كما تتدفق مياه النيل العظيم.. أو هكذا على الأقل كان الإنسان المصري الذي عرفناه وعرفه التاريخ، قبل أن يداهمه طوفان الوهابية، ليبدأ النحر في مجرى حياته الهادئ المسالم!!
يدخل ما سبق في نطاق سوء الاستخدام لآليات إعلامية، يذهب بها في اتجاه مضاد تماماً للغرض النبيل الذي أنشأت من أجله.. وإذا أضفنا إليه عاملي حماسة القائمين على تلك المواقع، وموجبات أداء مهامهم الوظيفية، وتأثيرها على اندافعهم للعمل واستجلاب الأخبار والمدونات، وكذا احتياج تلك المواقع لمادة، فإننا سنجد أنفسنا ومواقعنا الإلكترونية، مدفوعين إلى استجلاب أحداث وقضايا قبطية، بحجم أكبر من ذاك الموجود بالفعل في الساحة.. وهذا يتأتي بالنظر إلى عشرات ومئات الحوادث الإجرامية، التي تحدث في ساحة سكانية تعدى حجمها ثمانين مليوناً من البشر، على أن كل حادث يكون قبطي طرفاً فيه، هو حادث طائفي، مقصود به اضطهاد الأقباط لصفتهم الدينية، وليست حوادث من قبيل ما يقوم بين البشر من نزاعات وتباين رؤى وأغراض، لا شأن للهوية الدينية بها.
نكون هنا أمام حالة مغالطة وتزوير في تصورينا للواقع، يستشعر من يقومون بها أنهم الأكثر غيرة على مصالح الأقباط، والأكثر إخلاصاً لقضيتهم، وقد يكون هؤلاء كذلك بالفعل، فنحن لم نعتد توجيه اتهامات لشخوص وأفراد، وإنما ينصب نقدنا على نهج عمل، وعلى ما يؤدي إليه ذلك العمل من نتائج.
السؤال هنا هو: هل الرد الأمثل على طوفان خطاب الكراهية والتحريض المتأسلم، هو ضخ خطاب قبطي مماثل، حتى وإن خلا من الدعوة لسفك الدماء؟
وهل مثل هذه المبالغات وخلط الأوراق الطائفية، بالحوادث الإجرامية الاعتيادية، تؤدي إلى نتائج في صالح الأقباط والمجتمع المصري عموماً، أم أن العكس هو الصحيح؟
هنا نجد أنفسنا أمام الجذر الثاني الذي تحدثنا عنه لأداء وسائل الإعلام، وهو خلق واقع افتراضي مواز، يختلف عن الواقع الحقيقي، وكما سبق وقلنا، أن هذا الواقع الافتراضي ينطبع في ذهن المشاهدين وكأنه الحقيقة، لتكون النتيجة في حالتنا هذه، هي أن ينطبع في ذهن الجماهير، مسلمين ومسيحيين، أن ما يفرقنا ويوجب تبادل الكراهية بيننا عميق وشامل، وأن كل ما يحدث بالبلاد، يحدث من منظور ديني، وبدلاً من أن ينظر الناس لأي جريمة، على أنها quot;جريمةquot; يرتكبها quot;مجرمquot; أو quot;جانيquot; في حق quot;ضحيةquot; أو quot;مجني عليهquot;، سينظر إليها على أنها quot;صراعquot; بين quot;مسلمquot; وquot;مسيحيquot;!!
ماذا نتوقع في هذه الحالة، وفي ظل ما يسود مصر بالفعل من احتقان طائفي؟
ليس لنا إلا أن نتوقع زيادة مساحة الاحتقان، بتفشي ثقافة وسيكولوجية الكراهية المتبادلة، وزيادة حالة الاستقطاب، فيصطف المسلمون خلف الطرف quot;المسلمquot;، ويصطف الأقباط خلف الطرف quot;القبطيquot;، ويتجاهل الجميع التصنيف الحقيقي للقضية، وهي أنها quot;جنايةquot; quot;جانيquot; على quot;مجني عليهquot;!!.. فهل هذا ما يسعى إليه الأقباط، ومعهم المستنيرون من أبناء الوطن؟
ألا يكون الأقباط هكذا يذبحون أنفسهم بأنفسهم؟!!
ما حدث أخيراً في ديروط، ثم في فرشوط بمحافظة نجع حمادي، من مهاجمة بعض المسلمين لكنائس الأقباط وبيوتهم، إثر انتشار خبر علاقة غرامية، بين شاب مسيحي وشابة مسلمة، في مجتمع تقليدي مغلق، أو اغتصاب بائع قبطي جوال لطفلة مسلمة.. فكان أن اعتبر المسلمون هذه العلاقة أو الجريمة في حق المجتمع كله، كأنها أمر يخص المسلمين، وليس فقط الفتاة وأهلها في الحالة الأولى، وتخص المجتمع كله في الحالة الثانية.. وحمّلوا الأقباط كلهم، وزر شاب واحد ومحدد منهم.. أليس هذا المنهج هو ما يُعتبر الأقباط رواداً في تبنيه، حين استكبروا الاعتراف أن بعض الشابات المسيحيات، تقعن في غرام شبان مسلمين، ويهربون سوياً، فكان أن علت أصواتهم بالصراخ، متهمين المسلمين بخطف الفتيات لأسلمتهن إجبارياً؟!.. أليست النتيجة لتبني هذه الرؤية الطائفية المدلسة والكاذبة، هي أن الأقباط الطائفيون يعبرون عن طائفيتهم بالصراخ والعويل في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، فيما نظراؤهم المسلمون يعبرون عن طائفيتهم بسفك الدماء، وبقذف الأحجار وكرات اللهب؟
هذا الاستقطاب بين أبناء الوطن الواحد، بدأ في مصر بفضل ميكروب الجماعة المحظورة، لكن رد الفعل لدى بعض نشطاء الأقباط، المفتقدين لكل وعي سياسي، والمتأثرين بالثقافة الفاشية السائدة، جاء ليزيد حدة ذلك الاستقطاب، لتزداد معه النيران الطائفية اشتعالاً.. وإذا كان مجابهة زارعي الفتنة والكراهية من المتأسلمين، هو مهمة أخوة الوطن من المستنيرين المسلمين بالدرجة الأولى.. فإن تقويم أداء نشطاء الأقباط وأدواتهم الإعلامية، هو مهمة أصحاب الوعي والبصيرة الأقباط، الذين لا يجب أن يترددوا في أداء رسالتهم، خوفاً من قائمة اتهامات تنتظرهم، يحفظها عن ظهر قلب المغيبون والمنتفعون من الأقباط.
يلزم أخيراً أن ننوه، أنه رغم نقدنا هذا، والذي يبدو مريراً لبعض المواقع الإلكترونية القبطية، ولبعض القائمين عليها، إلا أنها صاحبة الفضل الذي لا يعلى عليه، في إيصال صوت أقلية مطحونة ومهمشة طوال أربعة عشر قرناً، هي عمر الحكم الإسلامي لمصر.. بل وأحد هذه المواقع صار الآن منبراً للدفاع عن حرية الإنسان المصري وكرامته بوجه عام، وصار مفهوم quot;وحدة الأقباطquot; في عنوانه، تعني وحدة كل المنتمين للجنسية المصرية، بأكثر مما يعني المفهوم الطائفي الشائع حالياً.. هذه المواقع هي نتاج لعصر العولمة والتقدم الهائل لوسائل الاتصالات، والتي إذا ما استخدمت برشادة، كفيلة بتحويل وجه الحياة في شرقنا الأوسط، بإخراج شعوبه من كهوف التخلف والجهالة، إلى أنوار الألفية الثالثة.

مصر- الإسكندرية
[email protected]