اعتدنا أن نطلق على الشخص الذي تتسم توجهاته نحو الآخرين بالمسالمة والوداعة، نعت quot;رجل طيبquot;، لكن مع تواتر الاستخدام لهذا الاصطلاح، واستسهال وصف الآخرين به، باعتباره في حد ذاته تعبير طيب، لا يرتد على من يطلقه بنتائج سلبية تؤخذ عليه، صار لكلمة quot;طيبquot; لدى الناس مفاهيم ملتبسة، تراوحت بين مفهوم الوداعة والمسالمة، مروراً بالسذاجة والغفلة، وانتهاء بالعبط أو الخبل العقلي.. فإذا افترضنا أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما صادق ومخلص حقيقة لما يرفعه من رايات، وما يعلنه من توجهات، فإن لنا أن نبادر من فورنا بنعته بأنه quot;رجل طيبquot;.. ولما لا وكلامه فعلاً كله quot;كلام طيبquot;، مادام ينفر من استخدام القوة العسكرية، ويمد يده بالسلام والتوافق مع كل شعوب الأرض؟
افتراض إخلاص أوباما لسياساته وإيمانه الحقيقي بها، ينحي جانباً فرضاً آخر، هو أنه لم يسر في هذا الاتجاه، إلا ليجد ما يختلف به عن الإدارة الأمريكية السابقة، التي كلفت سياساتها الشعب الأمريكي الدماء والأموال، دون أن تحقق انتصارات واضحة وحاسمة، تحقيقاً لما أعلنته من أهداف، تحديداً في استئصال الإرهاب، ونشر الديموقراطية فيما يعرف بالعالم الإسلامي.. وإذا لم يكن لنا القدرة على الحكم على نيات البشر وبالأحرى الزعماء، علاوة على أن محاكمة النوايا يخرج بنا عن نهج التزام الموضوعية، فليس أمامنا إلا أن نفترض في أوباما الإخلاص لسياساته ورؤاه، التي لابد أن نصفه بموجبها بأنه quot;رجل طيبquot;.
لكن كيف لنا أن نميز نحن من اعتدنا استخدام توصيف quot;الطيبةquot;، لنعت ألوان طيف متباينة، بين quot;الطيبةquot; ذات المفهوم والتقييم الإيجابي، وبين مساحات السذاجة والهبل والخبل الملحقة بها؟!
نستطيع بقدر مقبول من العقلانية أن نفض هذا الالتباس، بالقول أن الطيبة المثمنة إيجابياً هي quot;التوجهات الوديعة المسالمة، المصحوبة بقراءة صحيحة وموضوعية لعلاقات الواقع وحقائقهquot;.. وأن إساءة قراءة الواقع، سواء العائدة للجهل، أو لسطحية المقاربة، هو من قبيل السذاجة.. ليكون العبط أو الخبل هو انفصال صاحب التوجهات quot;الطيبةquot; التام عن حقائق الواقع، وضياعه في عالم من التهاويم والخيالات!!
تقييمنا الموضوعي والإنساني للسيد/ باراك أوباما يجعلنا نحذف من اعتبارنا تماماً الشك في وجوده داخل مساحة الغياب التام عن حقائق الواقع، التي يوصف أصحابها بالعبط والخبل.. ليتبقى البحث فيما إذا كانت توجهاته وأحلامه تعتمد على قراءة صحيحة للواقع وعلاقاته، أم أنه قد أساء قراءتها، فيتحتم علينا عندها إزاحته من من دائرة quot;الطيبةquot; بفمهومها الإيجابي، ليمرح في فضاء quot;السذاجةquot; الفسيح!!
لقد انتوى السيد/ أوباما تغيير حالة العداء والكراهية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي، وذلك عن طريق توجهه نحو ذلك العالم بخطاب سلام وتفاهم، مصحوباً بالطبع بسياسات جديدة، تتفق مع التوجه الذي تصوره جديداً.. يبدو الأمر من الناحية الشكلية وللوهلة الأولى جميلاً بل ورائعاً.. وهو بالفعل كذلك، إذا كان تقييمنا سيكون لذلك الخطاب في ذاته، أما إذا كان محط اهتمامنا هو مدى ارتباط هذا الخطاب بحقائق الواقع، فإن الأمر يقتضي منا التريث ولو قليلاً، لنتفحص مدى سلامة الوشائج بين ذلك الخطاب، وبين الواقع وعلاقاته الحاكمة والمتحكمة.. ولن تتسع هذه العجالة لأكثر من ثلاث نقاط، تشكل انفصالاً أو قطيعة، ما بين الرؤى والتوجهات الأوبامية، وبين ما نعايشه من حقائق وملابسات:
bull;النقطة الأولى هي افتراض أوباما أن التوجهات الطيبة نحو العالم الإسلامي سوف تزيل حالة كراهية وعداء هذا العالم لأمريكا، يعني ضمنياً أن حملة أمريكا ومعها العالم الحر لمحاربة الإرهاب كانت سبباً -ولم تكن نتيجة- لهذا العداء.. هذا الافتراض وارد نظرياً بالطبع، لكن إذا كان صاحبنا على اطلاع على تاريخ بلاده وتاريخ العالم، لعرف بالتأكيد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت منذ استقلالها، حاملة لمشعل الحرية والديموقراطية والحداثة إلى كافة بقاع الأرض.. هذا بالطبع بقدر ما أتاحت لها ظروفها وظروف العالم.. ولعرف أيضاً أن يد المعونة الأمريكية باختلاف مجالاتها، كانت صاحبة الفضل على جميع من اجتاز مصاعبه من الشعوب، وعلى رأسهم شعوب أوروبا وشرق آسيا، وأيضاً بقيت المعونة الأمريكية تستنهض وتعين أغلب الشعوب التي مابرحت تتخبط في فشلها وعجزها.. لو كلف أوباما نفسه مشقة ربط أفكاره بحقائق تاريخ بلاده، لأدرك أنها ربما قد أساءت في بعض الأحيان في اختيار الوسائل المثلى لتحقيق أهدافها، لكن تلك الأهداف كانت دوماً موجبة لكل تقدير، لرسالة الشعب الأمريكي العظيم وإداراته الديموقراطية!!
bull;النقطة الثانية هي تصور أوباما أن quot;خطابه الطيبquot; للعالم الإسلامي، سيصل إلى آذان الشعوب الإسلامية ذاتها.. إلى مليار ونصف من الكادحين الفقراء والمطحونين، غير منتبه إلى أن هذه الملايين من أصحاب المصلحة في السلام، وفيما يترتب عليه من رخاء، أو على الأقل تخفيف بعض الشيء من معاناة الحياة.. هذه الملايين غائبة تماماً ومغيبه، عن كل ما يمكن أن يقوله أوباما أو غيره.. هي قطعان تائهة في بوادي الفقر والجهل والمعاناة، تعيش يومها لتدبير قوتها بشق النفس، ولا تملك من أمر غدها قلامة ظفر، كما لم تملك يوماً أمر أمسها القريب والبعيد.. خطاب السيد/ أوباما إذن لن يصل إلا إلى النخب المسيطرة، وإلى أصحاب السلطة المعتمدين في بقائهم على حد السيف.. من هاتين الفئتين بالتحديد يصدر العداء والكراهية، ليس للولايات المتحدة فقط، بل لكل العالم الحر وللحضارة الإنسانية ذاتها!!
bull;النقطة الثالثة هي أن أمل أوباما في أحداث تغيير في أحوال العالم، يقوم على تصور أن العداء بين العالم الإسلامي ndash;كما تمثله رؤية النخب والحكام- يقوم على خلافات موضوعية، بحيث أنه إذا ما تم حلها بالتوافق، فسوف يختفي الخلاف ومعه الكراهية والعداء.. مثل الخلاف على الملف النووي الإيراني، ومشكلة احتلال إسرائيل لأراض فلسطينية وما شابه هنا وهناك.. يتصور أوباما وإدارته هذا ndash;بحكم ما نرى من تصريحاتهم ومحاولاتهم البائسة اليائسة- رغم أن الواقع يصرخ، بأن العكس تماماً هو الصحيح، وأن العداء الأيديولوجي والدوجماطيقي المعشعش في رؤوس النخبة، هو الذي أدى لتعقد واستحالة حل الخلافات الموضوعية، إن لم نقل أنه هو الذي اختلقها من الأساس.
عند هذه النقطة الأخيرة، يستحسن أن نكف نحن عن بث وجهة نظرنا، حتى لا نحسب كمن يكيل اتهامات، يسهل على الطرف المقابل التبرؤ منها، لنترك رجل الدين البارز آية الله أحمد جنتي، يوضح للسيد/ أوباما ما يجهله أو يتجاهله، حين يفتي لا فض فوه قائلاً: quot;إن صراع إيران مع أميركا يجب أن يستمر للحفاظ على النظام الإسلامي والثورة والإسلامquot;.. كما تضمنت خطبة له خلال صلاة الجمعة قوله: quot;إذا أردنا ضمان بقاء المؤسسة الإسلامية والثورة والإسلام وأن يعيش الناس في راحة فيجب أن تظل راية الحرب ضد أميركا مرفوعةquot;.. هذه الكلمات الواضحة الصريحة توضح حقيقة وموقف من يتحكمون في مقدرات العالم الإسلامي، والذين يأمل أوباما في استمالتهم ببضع كلمات معسولة، غير مقدر لأن دعوته للسلام والمصالحة في حد ذاتها، تشكل تهديداً لوجود هؤلاء الحكام، ومن يسير في أذيالهم من النخب باختلاف ألوانها.. السلام والحب والحضارة أشبه بمبيد حشري، كفيل بالقضاء على كل هؤلاء، وتخليص ملايين المسلمين وغير المسلمين في الشرق الكبير منهم ومن شرورهم.. فهل يتصور quot;السيد الطيب أوباماًquot; أنهم سيقبلون على استنشاق مبيده الحشري مرحبين مهللين؟!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]