واضح من تصريحات د. محمد البرادعي بخصوص ترشيحه لرئاسة جمهورية مصر في انتخابات 2011، أن الرجل مدرك تماماً أن الساحة المصرية أبعد من أن تكون ممهدة لانتخابات رئاسية حقيقية، كما يتضح استقامة توجهه لتحقيق آمال الشباب المصري فيه، واختياره الطريق المستقيم لمسيرته مع الشعب المصري، برفضه التحايل بالانضمام إلى أحد الأحزاب الكرتونية الحالية، في عملية خداع للذات، لا يتوقع لها أن تثمر تغييراً حقيقياً أو حتى زائفاً، وإنما ستكون بمثابة تكريس للوضع السياسي المتردي والمهلهل. . ذلك الوضع المبني على أساس حكم الحزب الواحد، أو الحصان الواحد، وما بقية عناوين الأحزاب الأخرى، إلا كأجراس معلقة في رقبة ذلك الحصان، لكي تصدر بعض الجلبة المحببة لدى مسيره!!
يرى كثيرون أن د. البرادعي يجب عليه التزاماً بمبادئه وقناعاته، والتزاماً بالواقعية التي لابد أن يتحلى بها رجل دولة وسياسة في مثل قامته، أن يصرف النظر عن المسألة برمتها، فهي ليست أكثر من حلم ليلة من ليالي ديسمبر الملبدة بالغيوم، ولا تتوفر على أرض الواقع أي مقومات لتحقيقه. . يقول البعض أيضاً أنه يكفينا انجازاً أنْ فضح موقف د. البرادعي عورة النظام السياسي الحالي، وأنْ جعله مجرداً حتى من ورقة التوت، أمام الشعب المصري وأمام العالم، وكأن النظام غير مفتضح منذ ما يقرب من ستة عقود، أو كأن ورقة التوت ليست شفافة بما فيه الكفاية!!
إذا كانت السماء ممطرة والطريق مسدود مسدود، وديموقراطيتنا وحريتنا سجينة في قصر مرصود، والقصر كبير يا صاحبي، وكلاب تحرسه وجنود!!. . فلماذا نتطلع إلى نهاية الطريق أملاً في اختراق القصر المرصود؟. . لماذا نريد أن نهبط بمظلة عند نقطة النهاية؟. . أليس من المنطقي أن نبدأ من أول الطريق؟!!
واضح لكل ذي عينين أن د. البرادعي لا يسعى للسكن في القصر الجمهوري لأسباب شخصية، فهذا لن يمنحه تشريفاً شخصياً أكثر مما حصل عليه الرجل من العالم أجمع، فرئاسة هيئة عالمية خطيرة مثل هيئة الطاقة الذرية، والحصول على جائزة نوبل للسلام، إنجازات كافية لتحقيق الذات. . الرجل إذن لا يفعل أكثر من الاستجابة لنداء خدمة الوطن. . يعرف د. البرادعي أن الخدمة المطلوبة منه الآن حقيقة، ليس مجرد وصوله لرئاسة الجمهورية، ليحقق ما لم ولن يحققه أحد غيره. . فنحن لا نعرف عنه ، والأغلب أنه لا يعرف عن نفسه قدرات خارقة، تمكنه من تحقيق ما يعجز عنه آخرون. . المطلوب حقيقة هو فرض إرادة الشعب المصري، ووضع من يختاره الشعب في هذا الموقع، ووضع نهاية عصور تولي من ينجح في ركوب البلد والشعب، سواء بالاستعانة بقوة السلاح، أو بمعاونة جماعات المنتفعين والمصفقين. . المطلوب تحويل الشعب المصري من رعايا تقودهم عصا الراعي أياً كانت طريقة توليه الحكم، إلى مواطنين يفرضون إرادتهم على كل مؤسسات دولتهم. . هذه بالتحديد هي المهمة المطلوب من د. البرادعي الآن أن يلعب فيها دور الجوكر.
هكذا يكون الهدف هو تغيير الحالة السياسية المصرية، وليس مجرد تغيير الحاكم. . يعني هذا أن أمامنا حوالي العامين حتى الانتخابات الرئاسية، لنمارس بقيادة د. البرادعي الضغط الجماهيري على النظام. . تعديل المادة 76 من الدستور، وتعديل ما نستطيع من القوانين والنظم المقيدة للحريات ولتكوين الأحزاب، ليتمكن د. البرادعي وغيره من الشخصيات المصرية الجديرة بالمنصب من الترشح. . لكن ماذا إذا لم تكن الفترة المتاحة كافية لإحداث الضغوط والتغيير المطلوب، هل نكون عندها قد فشلنا، أم أن الشعب المصري الذي لم يختر يوماً حاكمه بإرادة حرة، لا يضيره أن يمتد به الحال على هذا النحو ست سنوات أخرى، إذ يمكننا أن نصرف النظر الآن عن تمثيلية الانتخابات القادمة، وأن نذهب يومها إلى الحدائق والشواطئ، نروح عن أنفسنا، ونعطي الفرصة لأن تخرج آخر انتخابات على هذا النحو بنتيجة مشرفة، ولتكن 99.999% وربما أفضل من ذلك. . على أن يبدأ د. البرادعي من الآن، في تأسيس حزب حقيقي. . حزب يجمع الصفوة من طلاب الحرية والحداثة، ويجمع الجماهير المصرية التواقة لحياة أفضل؟. . لن تستطيع لجنة quot;إعدام الأحزابquot; العتيدة أن تقف في وجه تأسيس هذا الحزب، فالمتوقع أن تنكفئ على وجهها خجلاً ورعباً من جماهيره، ومن رجالاته الكبار بعلمهم وسمعتهم وإخلاصهم للوطن وللشعب المصري.
ستكون فترة الثماني سنوات من الآن أكثر من كافية ليجمع وينظم الحزب كوادره، ويحدد توجهاته ورؤاه. . يضع برنامجه الكفيل بنقل مصر من قرونها الوسطى إلى الألفية الثالثة. . ربما سيفاجأ النظام الحاكم ود. البرادعي معاً، حين يجد ملايين الشباب، ومئات الآلاف من الكفاءات العلمية في كافة التخصصات، يحملون لمصر نفس الحب، ونفس النوايا التي يضمرها د. البرادعي لوطنه. . ليس هذا التصور وهماً محضاً كما يتصور البعض، رغم ما يتضمنه من تفاؤل، وثقة في الجماهير لا مبرر لها من ماضي شعبنا وحاضره. . فنحن لو أحجمنا بصورة نهائية وقاطعة عن الثقة في الجماهير والارتكان إليها، لن يكون أمامنا بحثاً عن التغيير، غير توسل انقلاب عسكري، أو أن نلزم بيوتنا ونقصف أقلامنا، ونقول للغربان المعشعشة في أنحاء الوطن: quot;خلا لك الجو فبيضي وصفريquot;. . بل سيكون عندها من العبث أن تسعى الصفوة لإحداث تغيير، لا يمكن بأي حال أن تتحمس له الجماهير، أو تضعه ولو في مرتبة متأخرة من قائمة أولوياتها.
نعم الإنترنت والفيسبوك حافل بدعوات ما أنزل الله بها من سلطان، وتذهب في اتجاه مضاد لمسيرة البشرية، لكن هذا لا يعني الفشل في الانتباه إلى آلاف مؤلفة من الشباب الواعد والمتحمس والمتطلع لغد أفضل، والذي لن يبقى طويلاً سجين العالم الافتراضي، فلابد يوماً أن ينزل إلى الشارع، وأن يفرض نفسه وتطلعاته، على آبائه المتخاذلين واللامبالين، وعلى جلاوزة السيف والنصوص المقدسة، ليضعهم جميعاً في الحدود والمكان الذي يليق بهم. . علينا فقط ألا نخذل هؤلاء، وأن نأخذ بأيديهم حتى ينتقلوا من الحبو إلى المشي على القدمين!!
من بين جماهير الحزب سيُكَوِّن البرادعي ما لو وزارة ظل، وسيجد الوقت لتعميق برنامج الحزب، مدعماً بدراسات تقوم على أسس علمية وميدانية راسخة. . الأغلب أيضاً أننا سنشهد حينها نزوحاً لكفاءات مصرية رائعة، تخدم بلدها الآن مضطرة تحت راية الحزب الواحد المتوحد، ذلك الحزب صاحب مسلسل التسميات الطويلة، بداية من quot;هيئة التحريرquot; وquot;الاتحاد القوميquot;، ثم quot;الاتحاد الاشتراكيquot; وquot;منبر الوسطquot; وquot;حزب مصرquot;، وأخيراً quot;الحزب الوطني الديموقراطيquot;. . فطوال تلك الفترة ترافق في هذا الحزب كل ألوان الطيف المصري. . إمعات ومنافقين وانتهازيين، إلى جوار علماء ومخلصين، ممن لم يبخلوا في العطاء لمصر في أحلك الأوقات وأسوأ الظروف. . كثير من هؤلاء الأخيرين لابد وأن ينضموا إلى مسيرة الحداثة، متى بدأ محرك قاطرتها يعمل وعجلاتها تدور.
لنا أن نتوقع أيضاً أن يكون هذا الحزب الجديد سنداً لأحزاب أخرى حقيقية، تشاركه الأمل في مستقبل أفضل، وتحمل رؤى لسياسات تختلف بدرجة أو بأخرى، لنجد لدينا حياة سياسية ليبرالية وديموقراطية، تحتفي بالتعدد والتنوع، ولا تُجَرِّمُه أو تُخَوِّنُه أو تُكَفِّرُه. . بل ومن المؤكد حينها أن حال الحزب الوطني لن يبقى على ما هو عليه الآن. . من الممكن أن يتلاشى ليصبح مجرد ذكرى مضحكة أو مبكية، لكنه من الممكن أيضاً أن يتحول إلى حزب حقيقي، ويصير بالحقيقة quot;وطنيquot; وquot;ديموقراطيquot;، ويكون عندها الشعب المصري قد تضاعفت مكاسبه.
ثمان سنوات قادمة يمكن أن نتفق فيها على عقد اجتماعي جديد، ونسعى لحسم خياراتنا وقضايانا المعلقة، والتي لا نظلم النظام الحالي بتأكيدنا تعمده بقاءها غير محسومة. . الشعب والصفوة المصرية تعرف الآن جيداً ما لا تريد وهو الحالة الحالية، لكن ما تريده غائم أمام عيونها ومختلف عليه. . وهذا أهم ما ينبغي العثور على أول الطريق إليه، ولا نقول الحسم التام له. . عندها يمكن أن نضع دستوراً حديثاً خالياً من التناقض الداخلي، ومن التعارض مع حقوق الإنسان وكافة المواثيق الدولية، ويكفل ويحمي جمهورية برلمانية أو رئاسية حقيقية، وليس ملكية عسكرية أو عائلية. . هي فترة كافية أيضاً لكي نتدرب جميعاً على الحوار بدلاً من الصدام، وأن ندرك أن الحب يقربنا لبعضنا لبعض، أكثر مما يفعل اجتماعنا على كراهية الآخر. . ثمان سنوات يمكن أن تقنعنا أن العلم وحده هو الأساس الذي يمكن أن نؤسس عليه مصر الحديثة، وأن الحياة لا يمكن أن تكون هبة لمن يتقن صناعة الموت، وأن جنة وادي النيل لا تزرعها إلا سواعد الرجال، ولا يرويها إلا قطرات العرق المنحدرة على جباههم!!
لقد حلمنا من قبل quot;بتماثيل رخام عالترعة وأوبراquot;، سوف ينشئها لنا الزعيم الملهم والقائد البطل. . وعندما استيقظنا من الحلم، وجدنا مصرنا قد تحولت إلى كتلة عشوائية منتهكة ومستباحة، من سقط المتاع من أبنائها، ومن أكثر شعوب الأرض تخلفاً. . الآن لا ننتظر من فارسنا د. البرادعي أكثر من أن يكون نقطة ضوء في مركز الحلم، نقطة ضوء تجمع حولها الشموع والمشاعل، من أسوان إلى الإسكندرية، ومن العريش إلى السلوم، لنبدأ معاً مسيرة الشعب المصري لتبديد الظلمة، إيذاناً ببزوغ فجر المستقبل.

مصر- الإسكندرية

[email protected]