نعوم تشومسكي الجواد الذي تعثر فكبا (2/2)

دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى في يوليو تموز 1914 وما إن خرجت من الحرب بتوقيع اتفاقية صلح (برست لوتوفسك) مع ألمانيا في مارس آذار 1918 حتى نشبت الحرب الأهلية الطاحنة بانعكاساتها التدميرية على المجتمع الروسي . وما إن شارفت الحرب الأهلية على الانتهاء بانتصار البلاشفة في مارس آذار 1919 حتى بدأت حروب التدخل التي شنتها أربع عشرة دولة رأسمالية جندت تسعة عشر جيشاً تستهدف كما أعلنت "خنق البولشفية في مهدها" وزادت هذه الجيوش الجرارة دماراً على دمار واستمرت حربها على البلاشفة حتى مارس آذار 1921 بهزيمة ساحقة للدول الاستعمارية . لم تشرق شمس السلام على روسيا التي تغطي قارتين قبل أن باتت قفراً بلقعاً بعد ثمان سنوات من الحروب المتصلة وهو ما أوجع لينين حتى شكا يقول في العام 1922 "شعوب الاتحاد السوفياتي تبيت على الطوى" .

بعد انتهاء الحروب في العام 1921 لم يبق في المحتمع السوفياتي غير ثلاث طبقات رئيسية هي البروليتاريا والفلاحون والبورجوازية الوضبعة . الفلاحون والبورجوازية الوضيعة لا يملكون أية قدرات على بناء اقتصاد شامل وصناعي متطور . لم يكن أمام روسيا فرصة للتطور والبقاء سوى الارتهان لطبقة البروليتاريا . كان ذلك من أفعال الضرورة وليس عملاً بالمبدأ الماركسي الثابت القائل بأن لا تكون هناك اشتراكية بغير دولة دكتاتورية البروليتاريا .

لا أعتقد بأن تشومسكي أم غير تشومسكي يطالب البروليتاريا أن تبني نظام إنتاج غير اشتراكي، بل حتى لينين امتحن تلازم البروليتاريا بالإشتراكية فاستورد بموجب مشروع "النيب" (New Economy Policy) مؤسسات رأسمالية من إيطاليا وفرنسا لتعمل في موازاة المؤسسات الاشتراكية محذراً البروليتاريا بنفس الوقت إن لم تتغلب على المؤسسات الرأسمالية في منافسة حرة خلال وقت قصير فقد تفقد الثورة الاشتراكية . بقيادة ستالين، وهو الظاهرة الانسانية التي لا تتكرر، بدأ الاتحاد السوفياتي تفكيك "النيب" في العام 1926 حين وصل مجمل الإنتاج السوفياتي مستوى العام السابق للحرب 1913. البروليتاريا الروسية، التي أكد لينين في المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية 1919 أنها هي التي ستقرر مصائر العالم" هي القادرة على بناء الإشتراكية وليس غير الإشتراكية . 

ما يثير استهجاننا حقاً هو أن نعوم تشومسكي لا يعترض على أن البروليتاريا هي التي تبني الاشتراكية بل هو يؤكد أن الاشتراكية لا يبنيها غير البروليتاريا، لكنه يقول أن الاشتراكية اللينينية ليست هي الاشتراكية الحقيقية ولا تربطها بالاشتراكية الحقيقية سوى علاقة التناقض، وحجته الرئيسة في ذلك هي أن ماركس لم يكتب كلمة عن بناء الاشتراكية . ويذهب نشومسكي بعيداً ليدعي أن نخبة بيروقراطية "حمراء" منفصلة عن البروليتاريا وعن المجتمع هي التي بنت الإشتراكية اللينينية – يصفها حمراء متجاهلاً وهو بطريرك اللغة أن معنى كلمة "حمراء" هو الثورية والثورة لا تقوم بها النخب بل طبقة إجتماعية بحالها . ثم يمكن أن يفهم المرء لماذا يفتئت التروتسكيون على لينين لكن ليس الفوضويين الذين ينكرون ماركس فلا يعودون بحاجة إلى إنكار لينين والإفتئات عليه . تشومسكي نقل عن أحد التروتسكيين يقول نقلاً عن لينين.. "الدولة الرأسمالية يعني أن الدولة تحتكر الرأسمالية لصالح الشعب " . هل يعلم تشومسكي أن تروتسكي نفسه عمل جاسوسا مخبراً لدى الاستخبارات الأميركية (FBI)؟ فكيف له أن يعتمد في بحثه على أكاذيب التروتسكيين . لا يمكن أن يصدر عن لينين مثل هذا الكلام السخيف . لينين قال أن دولة البروليتاريا سمحت لمؤسسات تعمل بالنظام الرأسمالي كيما توجد رابطاً بين البروليتاريا والفلاحين شريكها في الثورة حيث الفلاحة ظلت إنتاجاً بورجوازيا، ومن أجل أن تتعلم البروليتاريا كيف تبني الاشتراكية . لكن تشومسكي بحاجة لأن يثبت أن لينين ورفاقه ليسوا اشتراكيين بل نخبة حمراء منفصلة عن الشعب . تلك كانت حجة تروتسكي ضد الحزب الشيوعي وهي ما أدت إلى طرده . الفوضويون يشاركون التروتسكيين في حجهم وإلا كانت فوضويتهم لعباً في ملعب الأعداء .

كي يستبقي نعوم تشومسكي شيئاً من الصدقية لمدرسته الفوضوية الإشتراكية التحررية (Libertarian Socialism) يترتب عليه أن يفسر كبف أن "نخبة حمراء" منفصلة عن الشعب تمكنت أن تبني ما بنت في الاتحاد السوفياتي . كيف تمكنت تلك النخبة الحمراء أن تجعل من الاتحاد السوفياتي الذي كانت شعوبه تبيت على الطوى في العام 1922 ليصبح أقوى دولة في العالم في العام 1941 . الجهود والتضحيات التي قدمها الاتحاد السوفياتي وحيداً في مواجهة النازية الهتلرية في ألمانيا وكامل القارة الأوروبية وسحقها حفاظاً على حرية شعوب العالم قاطبة بما في ذلك شعوب الدول الرأسمالية الكبرى، تلك الجهود والتضحيات فاقت كل حدود التصور أو حتى حدود العقل , أن يحتل الاتحاد السوفياتي برلين ويسحق هتلر في وكره بثلاثة ملايين جندياً يخدمهم ثلاثة ملايين أخرى بعد أن فقد في الحرب 9 ملايين جندياً وأكثر من 15 مليوناً من المواطنين من غير المعقول إزاء هذا مجرد التفكير بأن القيادة السوفياتية "نخبة حمراء" منفصلة عن الشعب وخاصة من قبل بطريرك اللغة والمعاني نعوم تشومسكي . وحتى في العام 1959 وقف خروشتشوف في المؤتمر الحادي والعشرون للحزب يقول .. خلف لنا ستالين بعد أن تغلب على سائر الأعداء دولة اشتراكية كبرى نعتز بها ؛ وفي المؤتمر الثاتي والعشرون 1961 قال .. "ينتج الإتحاد السوفياتي أكثر مما تنتجه دول أوروبا الغربية مجتمعة . أما غورباتشوف المرتد على الشيوعية فقد فسر التقدم الاستثنائيي في الاتحاد السوفياتي وقد رأى بأم عينية كيف أن السوفياتيين لا ينامون ليلاً ونهاراً يعيدون إعمار بلادهم بعد الحرب، فسّره على غير ما فسر تشومسكي، فهو لم يجد تفسيراً يعبر عن تلك الظاهرة الأخاذة غير أن البلاشفة كانوا قد خدعوا الشعب وأقنعوه أنهم على طريق بناء الفردوس الظليل للشعب . غورباتشوف لم يجد تفسيراً آخر لأنه ليس اشتراكياً ولا يعرف حرفاً من الاشتراكية . سبق لتشيرتشل أن قال في العام 1929 ما قاله غورباتشوف في العام 1986 إذ قال معقباً على نشر تفاصيل الخطة الخمسية الأولى 1928 – 1932 .. لو تمكن هذا الحالم في الكرملين (يقصد ستالين) من تحقيق هذه الخطة سأتحول أنا نفسي إلى الشيوعية . تحققت الخطة كاملة في أقل من أربع سنوات لكن تشيرتشل لم يتحول إلى الشيوعية كما راهن . وقال غورباتشوف ما قال لأنه لم يقرأ تفاصيل الخطة الخمسية الخامسة 1951 – 1956 التي كانت محفوظة بسرية مطلقة في خزائن حديدية مغلقة مفتاحها بيد رئيس الدولة فقط وهو الدلالة القاطعة على خيانة الطبقة الحاكمة للشعب فما الداعي لحفظ تفاصيل خطة تنمية في سرية مطلقة . لو اطلع عليها غورباتشوف لما قال ما قال . كانت الخطة لو لم يلغها خروشتشوف بطلب من الجيش في سبتمبر ايلول 1953 لأصبح الاتحاد السوفياتي جنة الله على الأرض في العام 1956 ولتعذر حينئذٍ الانقلاب على الاشتراكية .

 ثم كيف لتشومسكي أن يدعي بأن "النخبة الحمراء" كانت منفصلة عن الشعب وهو يعلم دون شك أن خلفاء ستالين وجدوا من الضرورة التخلص مما سموه عبادة الفرد حيث كانت الشعوب السوفياتية تعبد ستالين وشبح ستالين الحاضر على الدوام من شأنه أن يعيق تنفيذ خططهم المعارضة للاشتراكية . وهل كانت الشعوب السوفياتية لتعبد ستالين لو كان منفصلاً عنها أو لو كان بيروقراطياً كما يدعي أعداء الاشتراكية ؟ ولنأخذ من تشيرتشل كلماته يتحدث عن ستالين His influence to the people was magnificent – تأثيره كان عظيماً في الشعب .

وكيف له أن يدعي أن الاشتراكية التي ابتدعها لينين وأدخل عليها ستالين وخلفاؤه عدداً من التعديلات لا علاقة لها بالاشتراكية سوى التناقض . لئن كنا نعذر النبي محمد حيت قال لا إلة إلا الله الذي هو فوق الساء السابعة ولا يراه أحد حتى رسله وأنبياؤه فليس لنا أن نعذر تشومسكي ينفي اشتراكية لينين لأنها نقيض اشتراكيته دون أن يخبرنا شيئاً عن اشتراكيته سوى أن العمال هم أنفسهم الذين يبنون الاشتراكية، العمال الأحرار . يصفهم تشومسكي بالأحرار لكنه يمنع عليهم تشكيل حزب لهم، حزبٍ للعمال فلا يعودون أحراراً حيث يصادر الحزب إرادة العمال . وهو ما كان في الاتحاد السوفياتي كما يرى تشومسكي .

يبدو أن تشومسكي لا يعلم شيئاً عن الاشتراكية السوفياتية وكيف تم بناؤها . قامت الاشتراكية اللينينية على قاعدة "كل السلطة للسوفيتات" . ستالين الحازم الصارم لم يكن كذلك إلا في تطبيق مقررات السوفيتات . كل نشاطات الدولة بقيادة ستالين كانت تنحصر في نطبيق الخطة الخماسية التي بقرر كل تفصيلاتها العمال في مجالس السوفيتات . لم يكن ستالين ليحذف أو يضيف شيئاً إلى مقررات مجالس العمال بعد مناقشتها في المؤتمر العام للحزب الشيوعي، حزب العمال .

ثم لئن كان النظام السوفياتي ليس الاشتراكية ولا علاقة له بالشعب ومناحي تقدمه فمن أين تفجرت كل هذه الطاقات الهائلة في الحرب مما دفع بتشيرتشل ليكتب إلى ستالين في 6 ابريل 1943 يقول .. "أنا أعي بكل جوارحي أنكم العمالقة ونحن لسنا مثلكم" . وسؤالنا هنا للأناركي نعو تشومسكي .. من أين جاءت كل هذه العملقة إن لم تكن من الاشتراكية !؟ أحد التروتسكيين قال لتشومسكي أن النظام في الاتحاد السوفياتي كان رأسمالية الدولة لكن هذا التروتسكي ليس على دين معلمه فقد أعلن تروتسكي في محاكمته الصورية 1937 أن كل خطط التنمية التي يطبقها ستالين هي بالأصل خططه سرقها ستالين من صندوقه فهل كان تروتسكي يخطط للنظام الرأسمالي !!؟ ثم كيف يمكن أن يكون النظام في الاتحاد السوفياتي رأسمالياً بينما كل الخدمات كانت مجانية كالخدمات الصحية والخدمات التعليمية ودور الحضانة، بل كانت تصرف جرايات للطلاب الذين كان عددهم في مختلف المعاهد أكثر من ثلاثة أمثالهم في أميركا . كما أن أجور السكن والمواصلات كانت رمزية وشبه مجانية . كيف يكون النظام رأسمالياً ولم يكن هناك سوق ومعظم المنتوجات لا يتم تبادلها بل إن النقود التي يقبضها العامل لم تكن أجراً بل معاشا غير منسوب لقيمة الإنتاج وعليه كان راتب ستالين وهو رئيس الدولة أقل من راتب الفحّام . كيف يمكن أن يكون النظام رأسمالياً بينما لم يكن هناك عاطلون عن العمل وهنا لا بد من الإفتراض أن الألوف من العمال كانوا يعملون ولا ينتجون ما يساوي قيمة معاشاتهم وهذا بحد ذاته ينفي نفياً قاطعا المبدأ الأساسي للنظام الرأسمالي

 اشتراكية تشومسكي وهي الاشتراكية التحررية (Libertarian Sociaism) يبنيها العمال بدون سلطة مركزية . الحق أن هذه أغرب نظرية اجتماعية يمكن أن يسمع بها المرء . كيف يمكن لفروع الإنتاج المختلفة أن تتفاعل مع بعضها البعض لتشكل اقتصاداً وطنياً قادراً على حمل المجتمع . الإقتصاد الوطني لا يتطور إلا بوحدته الكلية التي سداتها الدولة . لنفرض أن عمال بريطانيا مثلاً قاموا بثورة على الطريقة الأناركية كما يسميها الفوضويون العرب أو التحررية كما يسميها نعوم تشومسكي، فمن المعروف أن العمال في بريطانيا ينتجون حوالي ثلث مجمل الإنتاج الوطني تقريباً ويبقى الثلثان يتحققان على الطريقة البورجوازية الفردية بصورة عامة ؛ فكيف للعمال أن يتخلصوا من هذا الكم الكبير من الإنتاج البورجوازي كيما يقيموا اشتراكية فوضوية أو تحريرية ؟ هل سيلجأ العمال إلى إقناع البورجوازية بالتخلي طوعاً عن تقسيم العمل والتحول إلى بروليتاريا !؟ وهل سيلجؤون إلى العنف لتحويل البورجوازية إلى عمال ؟ وإذا كان العنف هو الاسلوب فهل سيكون العنف منظماً أم غير منظم ؟

الإجابة العقلانية على جموع هذه الأسئلة هي التي ستحمي الأناركية من الدحض قبل أن نكتب أكثر .