بعيداً عن البيانات اليومية للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، نرى بأن تناول المجريات في المناطق الكردية في سوريا بطرق إبداعية قليل جداً مقارنة بكل الذي حصل ويحصل فيها منذ بدء إنطلاق شرارة الثورة السورية، والأقل ربما هي النصوص الأدبية التي تمسك بتلابيب الوقائع أو تشتبك مع القائم فيها، أو تلك التي تتحدث علانية عن الحياة اليومية، ظروف الناس والمضايقات الداخلية والخارجية في تلك المناطق، بدءًا بالضغط الذي يفرضه الآخر إضافةً إلى الضغوط المفروضة من قِبل الذات، بحيث تعبّر النصوص بطرائق فنية عن الواقع المرير بجرأة كجسارة ماردٍ يقف في الميدان شاهراً سيفه، بعيداً عن الاختفاء وراء أقنعة وجدران الغموض المغلّق، الأسلوب الذي عادةً ما يلجأ إليه الكثير من الشعراء عندما يتناولون القضايا الحساسة التي تتطلب الحسم في مجتمعاتهم، وبالتالي تَحَمُّل صاحبها تبعات المجاهرة بتلك المواقف على الملأ، إذ تعودنا أنه بدعوى الحفاظ على الجمالية الشعرية والالتزام بالجوانب الفنية للقصيدة لا يتجرأون على مقاربة الأحداث بطرق إبداعية بسيطة تلامس شغاف قلوب العامة، باعتبار أن في الحروب والظروف الاستثنائية عادةً ما تكون الضحية الأكبر هم العامة وليس النخبة، لذا فالمادة التي ترتجي تحسين ظروف الناس والتخلص من أدران الواقع ينبغي أن تكون مفهومة من قبل العامة، خاصة أولئك الذين لا يزالون يتجرعون مرارتها، وأصلاً ما فائدة نصٍ يخص العامة بينما هم في الحقيقة لا يفهمون شيئاً منها؟ ثم متى كانت النخبة تتألم لمعاناة العامة كما لو أنها هي التي تعيش تلك الظروف؟ إذ قد ترى نصوصاً مكتوبة للناس ولكنها أبعد ما تكون عن لغتهم، بل وكأنها كُتبت لأناسٍ غير المعنيين بها، لذا وكأنهم من خلال ذلك القول يُغلفون الجانب المفتقد للجسارة في بنيانهم ولكن بُحلة فنية جميلة.

عموماً هذا لا يعني البتةً بأن الساحة خالية ممن نتحدث عنهم من أهل الكتابة، والدليل أني ومنذ أيامٍ صادفت نصاً لشاعرٍ كردي وهو يشهر قصيدته بوجه القائم بعلانية، وكانت بعنوان(وطنٌ مُعتّر) وهي للشاعر أدريس سالم فيقول فيها: "نحن مَن نتطرّفُ ضدّ أكبادنا، نعتقلُ الطفلَ بزناجير التجنيد، نحن مَن نتطرّفُ ضدّ شعبنا، نقطعُ عنه الغذاءَ والدواءَ المفيد، نحن مَن نتطرّفُ ضدّ قضيتنا، نبيعُها للجلادِ مقابلَ المال والعتاد، نحن مَن نتطرّفُ ضدّ الأطفال، نقطعُ عنهم الحبّ، ونمنحُهم رعباً من البرد والبارود، نحن مَن نتطرّفُ ضدّ العلم، نؤدلجُه، ليخدمَ مَن لنا بقبضة الحديد، لنكون به ولهم كالعبيد" فالشاعر يُعري كل ما يجري في ظل الإدارة الذاتية المعلنة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي، بدءًا من التجنيد القسري للبراعم إلى احتكار المواد الغذائية وموارد المال والسير على منوال حزب البعث في الوساطة والمحاباة والتزلف والمحسوبية والإرتشاء، إلى اعتقال النشطاء الكرد في الكانتونات الثلاث، إما بدافع التسلط أو إرضاءً للمناخات التي يستسيغها طاغية دمشق، ومن ثم أدلجة المناهج على غرار منهاج حزب العفالقة، وتغذيتهم البراعمَ بآيات التعظيم للقائد بدلاً من إروائهم من منابع الفكر العالمي السمح، ومبادلة مطالب وشكاوي المواطنين بالاعتقال التعسفي والزج بهم في خندق الكراهية لكل ما له علاقة بالوطن، والخناق على العمل السياسي للأحزاب ومن ثم تطويق الأنشطة والتحركات الفكرية والسياسية والثقافية التي تتعارض مع ثقافة الحزب الجديد وأيديولوجيته.

لأن الغريب في سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي المتبعة مع المواطنين الكرد عامة ومع النشطاء وأحزاب المجلس الوطني الكردي بشكلٍ خاص، أنها تتجاوز في صلافة التعامل السلمي حتى بالتي قام بها النظام البعثي الجاثم على صدور السوريين، إذ أغلبنا ربما لمس في بدء الثورة كيف أن أجهزة أمن النظام راحت تغير من اسلوب تعاملها الشرس والأخرق مع الناس، وبدأت في استيعابهم وتقبل من الناس ما لم يكن لتتقبله السلطة من النشطاء والساسة قبل انطلاق الثورة، وطبعاً كل ذلك التغيير الفجائي لسلوك أزلام الدولة كان قبل أن تتسلح الثورة وتنتقل حرارتها إلى عموم سوريا، بينما حزب الاتحاد الديمقراطي فهو بيّن للمراقبين بأن عنجهيته السياسية تكاد تقتفي عنجهية وسطوة حزب البعث الفاشي، إذ أنه لم يقبل حتى بالتظاهر السلمي ضد إدارته، وتعامل بقبضة أمنية منذ بدء تبوئه السلطة في المناطق الكردية، مع أن المواطن الكردي لم يرفع سلاحاً بوجه الإدارة كما فعلها السوريون عامة مع النظام السوري. 

أما ما الذي يربط ثورة الكوفة بروج آفا فهو لتوفر وجوه الشبه بين الحالتين ومماثلة الممارسات هنا وهناك، إذ أن السياسة المتبعة من قبل الإدارة الذاتية فيما يخص ملاحقة الكبار والصغار بهدف التجنيد الإجباري، وإرسال الناس للمحاربة في مناطق لا يشعرون بأية واجبات وطنية أو قومية تجاهها بعد أن تمزق الوطن واندحرت معها المشاعر الوطنية، هي التي ذكرتنا بما كان يحدث ابان الفتوحات الاسلامية التي أوصلها حسب المؤرخين بنو حرب وبنو مروان إلى غاية السور الصيني العظيم، واتباعهم آنذاك سياسية التجنيد القسري وإرسال الناس إلى أماكن تبعد عن آهاليهم مئات الكيلومترات ليلقى كل واحدٍ مصيره المحتوم في بقعة ما من العالم، وهو كان أحد الأسباب المهمة لتفجير انتفاضة الكوفة بقيادة زيد بن علي بن ابي طالب عام 122 هجرية ضد الأمويين وحكم هشام بن عبد الملك، والتي انتهت وقتها بالقضاء على ثورة زيد بن علي ومقتله. 

وفي هذا الصدد يذكر المفكر العراقي هادي العلوي بأن السياسية الظالمة التي اتبعها المروانيون أثناء الفتوحات الاسلامية كانت السبب في تفجير انتفاضة الكوفة بقيلدة زيد بن علي بوجه سياسة التجمير في الجبهات أي إرسال المجند الى الجبهات وتركه لمصيره حتى يموت وإن لم يمت ففي الحالتين لا يعود، كما حصل بالضبط للكثير من الشباب الكرد الذين راحوا ضحية تفاهمات الحزب مع بعض القوى الدولية في معاركه خارج المناطق الكردية، ومخاوف الناس في أن يلقى من تبقى من أبنائهم نفس المصير في معركة الرقة التي سيزج الحزب المذكور الشباب الكرد بها وفق اتفاقياتٍ وتفاهماتٍ بين الحزب وبين قوىً محلية وأخرى دولية، والتي ينظر إليها أغلب السوريين بالريبة، كما أن تلك المعارك بالنسبة للكردي لم تعد تحمل أي طابعٍ وطني ولا حتى تحمل طابعاً قومياً، إنما بنظر غالبية السوريين أنها أشبه ما تكون بمعارك ميليشيات الحشد الشعبي في مناطق السنة.

ولا شك بأننا لا نقوم بدورٍ تأجيجي هنا إنما نقرأ الواقع ووقائعه مع قراءة أحداث تاريخية مماثلة جرت في الماضي، ثم نقارنها بما يجري في مناطقنا في الوقت الراهن، نعيد ونؤكد لسنا بصدد تحريض الناس على محاكاة انتفاضة الكوفيين أو أية انتفاضة أخرى في العالم، بما أن لكل انتفاضةٍ ظروفها الخاصة، ولكل إنتفاضةٍ عشرات الأسباب لانطلاق شرارتها، ولكن بالنسبة لمناطقنا فمَن ذا الذي يضمن بأن تبعات الضغط المتواصل على الناس لن يدفعهم إلى الإيمان الجزئي أو المطلق بفكرة جواز الخروج على الحاكم الظالم، أو الاستعانة بفحوى منهج الكواكبي بخصوص الاستبداد والمستبدين وطرق التعامل معهم، وذلك بقوله: "لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم". 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ الموسوعة الحرة، ثورة زيد بن علي في الكوفة.
ـ ديوان الوجد، هادي العلوي، دار المدى، الطبعة الثانية، 1998.