في إطار لقاءاته المستمرّة مع المكونات العراقية لتقرير مصيرها في عراق ما بعد صدام حسين، طلب الحاكم المدني بول بريمر عام 2003 اللقاء بالوفد الإيزيدي إلى بغداد برئاسة أمير الإيزيديين في العالم تحسين سعيد بك. سؤال بريمر إلى "الوفد الإيزيدي" في حينه كان بسيطاً جداً، مفاده: "ما هي رؤيتكم في العراق الجديد وكيف تقررون مصيركم فيه؟"، فكان جواب الوفد على لسان أمير الإيزيديين (الذي كان قد ذهب إلى بغداد بأمر مباشر من مسعود بارزاني، كما صرح الأمير بنفسه مرّات عديدة): "نحن الإيزيديون أكراد، ما يحق لهم يحق لنا". ما يعني اختزال القضية الإيزيدية في قضية قومية إسمها "قضية كردية"، أي أن مشكلة الإيزيديين في العراق، ليست قضية بحد ذاتها لها خصوصيتها "الإثنو ـ دينية"، وإنما هي قضية "شعب كردي" محروم من حقوقه القومية والسياسية.

بعد حوالي عقدٍ ونيف من تنازل الأمير ووفده الإيزيدي عن القضية الإيزيدية بإعتبارها قضية مكوّن عراقي وكردستاني أصيل يعيش تحت خطر التهديد بالزوال، ووضعه لبيوض الإيزيديين كلّها في السلّة الكردية وبدون أي مقابل، طفت القضية الإيزيدية بعد جينوسايد "74" الذي نُفذّ على أيدي تنظيم "داعش" على السطح من جديد، بإعتبارها قضية "شعب مضطهّد" دينياً بالدرجة الأولى والأساس، مثله مثل باقي الأقليات الدينية الأخرى كالمسيحية والكاكائيين والشبك والصابئة وغيرها، ما أثبت خطأ "نظرية" الأمير ووفدهالإيزيدي (الذي كان وفداً حزبياً بإمتياز) إلى بغداد، وأعاد القضية الإيزيدية إلى "المربع الصفر".

بعد الجينوسايد الذي حلّ بشعبه خرج أمير الإيزيديين على العالم بموقف"صادم"، كشف فيه إنقلاباً بدرجة 180 درجة على موقفه السابق من نظرية "الكرد الأصلاء"، قائلاً أنّ "الإيزيدية دين وقومية"، الأمر الذي أزعج القيادات الكردستانية وعلى رأسها الرئيس مسعود بارزاني. 

بغض الطرف عن "الأصل الكردي" للإيزيديين من عدمه، وبعيداً عن الدخول في جدل "الهوية القومية" للإيزيديين، وأصالة الإيزيديين في العراق مرّتين، مرّة في كونهم عراقيين أصلاء وأخرى بإعتبارهم كردستانيين أصلاء، إلا أنّ تجربة أكثر من ربع قرن في كردستان أثبتت للإيزيديين أنّ السياسات والحكومات الكردية المتعاقبة فشلت في إعادة كردستان إلى الإيزيديين أو إعادة هؤلاء إليها، والدليل هو ما حدث في شنكال بعد الثالث من أغسطس 2014 تحت مرأى ومسمع الحكومة الكردية وجيشها الذي زاد تعداده إبان الفرمان الأخير عن ال11 ألفاً، والذي انسحب بصفر مقاومة، دون أن ينقذ مدنياً واحداً، ما أدى إلى حدوث أفظع جينوسايد في هذا القرن بحق الإيزيديين، راح ضحيته بحسب إحصائيات أممية أكثر من 5000 قتيل و7000 مختطفة ومختطف جلّهم من النساء والأطفال وتشريد ونزوح أكثر من 420 ألف (أكثر من 90% من مجموع السكان الإيزيديين) يعيشون في ظروف معاشية قاسية جداً.

الحديث عن خصوصية القضية الإيزيدية بإعتبارها "قضية إثنو ـ دينية"، لا يعني "استعداء" القضية الكردية، كما يريد البعض أن يسوّق الأمر، ولا يعني نصب "العداء" للشعب الكردي الذي يعتبر الإيزيدي بدينه ودنياه أصلاً له، كما يروق للبعض تسميته، وإنما يعني إفساح المجال أمام الإيزيديينوإعطائهم الفرصة الديمقراطية لكي يعبّر عن نفسه بنفسه، وأن يقرّر مصيره بنفسه، بعيداً عن "نظام الوصاية الحزبية" الذي فُرض عليه منذ أكثر من ربع قرنٍ من الزمان، بحجة "الولاء للقومية" ولوطنه النهائي كردستان.

المشكلة الأساسية للإيزيديين في كردستانهم تكمن في غياب مشروع "الدولة المدنية" الديمقراطية القائمة على أساس الثالوث القيّمي "حرية، عدالة، مساواة" والمبدأ العلماني القائم على أساس فصل الدين عن الدولة.أي أن مشكلة الإيزيديين بخاصة والأقليات الأخرى وعلى رأسها المسيحيين والكاكائيين بعامة، تكمن في "إرادة الأغلبية" التي تريد كردستان "دولةً دينية" تستمد دستورها من "دستور الله" وقانونها الوضعي من القانون الإلهي القائم على أساس القرآن بإعتباره أصلاً لقانون العالم. لهذا لا يختلف دستور كردستان من حيث المبدأ عن دستور أي دولة عربية أو إسلامية تتخذ من الدين مصدراً أساسياً من مصادر التشريع، كما جاء في المادة السابعة من "مشروع دستور إقليم كردستان". بمجرّد اتخاذ القرآن أو أي "قانون إلهي" آخر أساساً لدستور دولة، يعني نسفاً للقانون الوضعي من أساسه وانحيازاً إلى الدين في الدولة ضد الدنيا، وإلى "الطابو" في الحياة العامة ضد الحرية.

أحد أهم المؤشرات الخطيرة الدّالة على غياب مشروع "الدولة المدنية" في كردستان هو إزدياد عدد الجوامع في كردستان بشكل قلّ نظيره حتى في بعض الدول العربية والإسلامية المعروفة بتوجهاتها الدينية والتي تتقدمها "هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". بحسب إحصائيات وزارة الأوقاف في إقليم كردستان نفسها، يربو عدد الجوامع في كردستان على 5473 (ما يعادل جامع لكل 820 شخص تقريباً)، علماً أن أكثر من 4600 جامعاً بُنيت خلال 25 عاماً من الحكم الكردي (أي بمعدّل 184 جامعاً لكل سنة)، وهناك العشرات من المساجد والجوامع قيد الإنشاء.

 

انتشار المظاهر الإسلامية في كردستان العراق بشكل ملحوظ ومتزايد خلال العقدين والنصف الماضيين، ونشوء سوق إسلامية قوية ومدعومة بالمال النفطي لدور النشر الخاصة بإصدار وتوزيع كتب التراث الإسلامي، والإقبال الشديد للشباب على المساجد والجوامع وباحات الصلاة، ناهيكم عن تكاثر المدارس والمعاهد والجوامع الدينية المتخصصة لدارسة العلوم الشرعية الإسلامية، كلّ ذلك يشكّل بيئة حاضنة لإنزلاق كردستان في المستقبل نحو "الدولة الدينية" بدلاً من الدولة المدنية.

ولعلّ خيار الرئيس بارزاني في الدخول إلى الصراع الإقليمي الدائر في المنطقة لصالح "الحلف السني" ضد "الحلف الشيعي"، هي "القشة التي قصمت ظهر البعير الكردي"، والتي أدت في المنتهى إلى الإنتصار للشعور الطائفي لدى الأكراد ضد الشعور القومي، ولأجندات الجيران ضد أجندات كردستان.

 

بعد الثالث من أغسطس 2014 فقد الإيزيديون الثقة ب"الإلتزامات القومية" لكردستان تجاههم، ولم يعد ل"الشعور القومي" لديهم أي معنى، خصوصاً بعد الفاتورة الباهظة التي دفعوها من دماء أبنائهم و"سبي" نسائهم ودمار كامل لمناطقهم.

ماذا سيعني لإيزيدي أن يكون كردياً و11 ألفاً من إخوانه الأكراد المسلحين تركوه فريسةً سهلة لداعش بدون أية مقاومة؟

ماذا ستعني له "كردستان الوطن النهائي" وهذه تدير له ظهرها خلال ساعات، ليسقط أكثر من 350 ألفاً من أبناء شعبه في جهنم إرهاب داعش؟

ماذا ستعني له "وعود" الرئيس بارزاني، وهو لم يحاسب حتى اللحظةمسؤول من الدرجة العاشرة ممن تسببوا في حدوث الفرمان ال"74"، جرّاء "الإنسحاب التكتيكي" لكامل المظومة الدفاعية الكردستانية من شنكال؟

 

كتبت في مناسبات كثيرة أنّ كلّ شيء ما بعد "داعش" تغيّر: ف"داعش" لم يغيّر خرائط سايكس بيكو فحسب، وإنما غيّر مسار التاريخ والمزاج العام لشعوب المنطقة والعالم أيضاً.

 

ما قاله بارزاني خلال لقائه بالسفير الأميركي لدى بغداد، الأحد الماضي، ب"أنه بمنتهى الجدية لكي يقرر الإيزيديون مصيرهم وسيكون الإقليم وقوات البيشمركة مصدر حماية لهم"، هو تغيّر كبير في موقفه تجاه القضية الإيزيدية، في سياق التغيّرات الحاصلة في المنطقة ذاتها.

ولكن هل بارزاني جادٌ بالفعل "لكي يقرر الإيزيديون مصيرهم"؟

ماذا يعني بارزاني ب"تقرير الإيزيديين لمصيرهم"؟

متى وتحت أية شروط "سيدعم إقليم كردستان الإيزيديين ليقرّروا مصيرهم بأنفسهم؟

لماذا جاء إعلان بارزاني في هذا التوقيت بالذات ومع مسؤول رفيع المستوى كالسفير الأميركي لدى العراق؟

 

على الرغم من تصريحه "الخارج على الإطار" والمستند إلى قراءة واقعية، دون أدنى شك، لمتغيرات المنطقة والمزاج العام للإيزيديين وللعالم تجاه قضيتهم، إلا أنّ من السابق لأوانه الوثوق ب"جدية" بارزاني في التنازل عن "الورقة الإيزيدية" عبر منح الإيزيديين الحق في تقريرهم لمصيرهم طبقاً للشرعة الدولية لحقوق الإنسان، خصوصاً وأن شنكال تعيش منذ أشهر حتى لحظة إطلاق التصريح تحت حالة حصار شديدة من قبل سلطات الإقليم التي تمنع حتى دخول المواد الغذائية والأدوية إليها بفرض إجراءات مشددة.

 

في لقاءات الوفد الأميركي برئاسة ممثل الرئيس باراك أوباما إلى بغداد وهولير بريت ماكجورك مع الإيزيديين، أواخر أوكتوبر الماضي أكدّ الأميركيون على دعمهم لمشروع "إنشاء مناطق إدارة ذاتية للإيزيديين والمسيحيين والأقليات الأخرى"، علماً أن المشروع قد تمّ إقتراحه في الكونغرس الأميركي، أواسط سبتمبر الماضي، ل"تتمتع منطقة سهل نينوى بحق تقرير المصير في إطار النظام العام للدولة العراقية"، بحسب نص المشروع. 

قريباً من المشروع ذاته، قررّ البرلمان الأوروبي أواخر أوكتوبر الماضي دعم إنشاء مناطق حكم ذاتي للإيزيديين والمسيحيين والأقليات الأخرى في سهل نينوى. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد اقنرحت قبل هذا القرارالأوروبي ب"ضرورة إنشاء مناطق حماية دولية للإيزيديين في سهل نينوى".

 

على الرغم من عدم وضوح ملامح المشروع وحدود تطبيقه خصوصاً في ما يتعلق بشكل العلاقة بين الإقليات وبغداد من جهة وبينها وبين هولير من جهة أخرى، إلا أنّ كلّ المؤشرات تقول بوجود توجه دولي لإنشاء مناطق حكم ذاتي للأقليات لتقرير مصيرها بنفسها ضمن إطار النظام العام للدولة العراقية.

 

تصريح بارزاني حول "تقرير الإيزيديين لمصيرهم" هو على ما يبدو "تحصيل حاصل"، ولهذا تزامن التصريح مع تصريحات السفير الأميركي في بغداد دوغلاس سليمن وتأكيداته على "انسحاب قوات البيشمركة إلى المواقع التي كانت متمركزة فيها قبل معركة تحرير الموصل"، مضيفاً أنّ "المجتمع الدولي سيركّز في الأشهر المقبلة على جرائم داعش الإرهابي خصوصاً في ما يتعلق بملف الإيزيديين".

 

بارزاني لن يتنازل عن "الورقة الإيزيدية" بسهولة، بإعتبارها "ورقة تحت الطلب"، خصوصاً وأنّ الرجل نجح في اللعب بها طيلة عقد ونيف من الزمان، سواء في بغداد مع الحكومة المركزية، أو في هولير مع شركائه في الحكومة الإقليمية.

 

سيدعم بارزاني "حق تقرير الإيزيديين لمصيرهم" في حالة وحيدة، وهي ربط الإيزيديين لمصيرهم بمصير حزبه "الديمقراطي الكردستاني" لمواجهةالأحزاب الكردية الأخرى من جهة، ومصيرهيم بمصير هولير لمواجهة بغدادمن جهة ثانية.

 

ربما بارزاني لا يزال يعتقد بأنّ "الورقة الإيزيدية" لا تزال ورقة "تحت السيطرة"، خصوصاً بوجود قوات البيشمركة (فرماندا شنكال) التي تسيطر على الجزء الأكبر من المناطق المحررّة من مدينة شنكال وشمال الجبل. لكنّ وجود قوات إيزيدية أخرى متمركزة هناك مثل "قوة حماية إيزيدخان" و"وحدات حماية شنكال" وقوات أخرى تابعة لحزب العمال الكردستاني تجعل الأمور مفتوحة على كلّ السيناريوهات، ما يعني احتمالات خسارة بارزاني للورقة الإيزيدية في أي لحظة تبقى قائمة.

"الجوكر الإيزيدي" الوحيد الذي سيلعب به بارزاني، على الأرجح، حال خروج الإيزيديين من تحت السيطرة، هو "المجلس الروحاني الإيزيدي الأعلى"، بإعتباره الممثل الشرعي الوحيد للإيزيديين في العالم. ذات السيناريو حصل بُعيد سقوط نظام صدام حسين، عندما تمّ تكليف وفد إيزيدي برئاسة أمير الإيزيديين، لإقناع الأميركيين بأنّ "الإيزيديين أكراد لهم ما لهؤلاء وعليهم ما عليهم".

 

على الإيزيديين إن أرادو البقاء في العراق ألاّ يدعوا للسيناريو الأخير أن يتكرر مرّة أخرى، فهو لو حصل سيعيد القضية الإيزيدية إلى المربع الأول. الأمر الذي سيكلّف الشعب الإيزيدي الكثير من وجوده وهويته وحياة أبنائه،لمواجهة ذات المصير الذي لقيه يهود العراق في خمسينيات القرن الماضي. 

عليهم ترك خلافاتهم جانباً والتركيز على قضيتهم الأساسية، أي مستقبل الوجود الإيزيدي في المنطقة، وأن يستغلوا جينوسايدهم الأخير الذي ساعدهم كثيراً لتدويل قضيتهم في المحافل الأممية وإدراجها بإعتبارها قضية "شعب يعيش تحت خطر التهديد بالزوال" على جدول إجتماعات مراكز القرار في العالم وعلى رأسها الأمم المتحدة، بإنتهاز فرصتهمالتاريخية (ربما تكون الأخيرة) لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والعمل على ترجمة القرارات الأممية على الأرض ودفعها لصالح قضيتهم، عبر توحيد كلمتهم،وتقديم رؤية استراتيجية واضحة لمستقبلهم، وتحديد شكل العلاقة مع الحكومتين الإقليمية والمركزية، والتنسيق الكامل مع الأقليات الأخرى، ضمن الأطر القانونية والدستورية للعراق الفيدرالي.

 

على الإيزيديين أن يجيبوا بكلّ وضوح، بعيداً عن الشعارات القومية والطائفية والعشائرية، على سؤال بريمر الذي طُرح عليهم قبل عقدٍ ونيف: "ماذا تريدون من العراق؟"

 

بعد تصريح بارزاني بخصوص "تقرير الإيزيديين لمصيرهم"، بات من الواجب على النخب الإيزيدية السياسية والعسكرية والثقافية والإجتماعية والدينية، أن تستعد لمرحلة ما بعد تحرير الموصل، لصياغة مشروع إيزيدي متكامل يستند على مواد الدستور العراقي وشرعية الصكوك والقرارات الدولية التي صدرت بخصوص قضيتهم، سواء في الأمم المتحدة أو الكونغرس الأميركي أو الخارجية الأميركية أو دول الإتحاد الأوروبي، توضح فيه رؤية الإيزيديين لمستقبلهم في المنطقة، لتقديمه ك"ورقة عمل" إلى مراكز القرار في العالم، وإلى النخب والقيادات السياسية في هولير وبغداد، وعلى رأسها الرئيسان حيدر العبادي ومسعود بارزاني.

 

سؤال الإيزيدي والمسيحي وسائر أبناء الأقليات الأخرى بعد صناعة "داعش" في المنطقة، يمكن اختزاله في سؤال "هاملت" بطل مسرحية الشاعر الإنكليزي الأكبر وليام شكسبير التي حملت إسمه، هو: "أكون أو لا أكون.. تلك هي المسألة".

 

 

 

 

[email protected]