قبل اسابيع، كنت حاضرا بالصدفة في إحدى جلسات حضرها ايضا عدد من الساسة او كما نحن نسميهم بالمسؤولين لم تتجاوز عددهم عدد اصابع اليد الواحدة، فاذا بمسئول وهو ايضا معروف بنشاطاته التجارية المشبوهة الفاسدة في كردستان العراق، يقوم ويشتم المسؤولين الاكبر درجة منه ويتهم حزبه بالفساد ونهب النفط وايردات النقاط الجمركية الحدودية امامنا جميعا!. في الحقيقة تعجبت من الموقف كون المسؤول الغير الراضي عن الوضع هو نفسه وأحد ابنائه متورطون بادارة شركات أمنية واخرى استثمارية. فقلت في قرارة نفسي اذا كان هذا الاخ المسئول المليونير على حساب الشعب غير راض، فماذا يقول الموظف و المعلم والطبيب واساتذة الجامعات الذي لا حول لهم ولا قوة ولايدخل جيوبهم سوى ربع رواتبهم ومستحقاتهم كل شهر و نصف!

تشهد كردستان العراق الغنية بالنفط وموارد اخرى منذ سنتين مظاهرات و مسيرات حاشدة نتجت عنها مرات عدة صدامات واشتباكات بين المتظاهرين والقوات الأمنية ادت الى وقوع ضحايا وخسائر في الارواح. مطالب المتظاهرين الاساسية تتركز حول الاصلاحات ووضع حد للفساد المتفشي في كافة مفاصل ومؤسسات الاقليم وارساء العدالة الاجتماعية في مجتمع قلما شهد عدالة في اي مجال خصوصا في توزيع الثروات! لذا أن ما يقال و ينشر من أخبار وتقارير عن كون المظاهرات تتركز فقط لدفع الرواتب المتأخرة والغاء استقطاعات الرواتب، ليس دقيقا وباعتقادي يهدف الى التقليل من أهمية هذه المظاهرات الجماهيرية الواسعة وأهدافها.

المواطن الكوردي لا يلجأ الى التظاهر في وضع تحارب فيه قوات البيشمركة الكوردستانية في ظل ظروف معيشية صعبة قوات تنظيم ما يسمى بالدولة الاسلامية، لكن كون الشعب يدرك جيدا حجم الفساد الذي تمارسه بعض الجهات والشخصيات النافذة المعروفة اصحاب الميليشيات من خلال نهبهم الحصة الاكبر من واردات النفط و واردات النقاط الحدودية في جميع انحاء الاقليم، في حين يتضور الموظف والمعلم والطبيب واستاذ الجامعة جوعا، فلا يستطيعون السكوت، فينزلون الى الشوارع مطالبين بالاصلاح وتأمين حقوق الشعب والعدالة الاجتماعية.

ان درجة الفساد السياسي، المالي و الاداري في كوردستان العراق الذي كان في سنوات مضت رمزا للنضال ضد الدكتاتورية والحرية لشعب لم يعرف طعم الحرية منذ مئات السنين، وصلت لدرجة خطيرة وضعتها في مقدمة الدول والاقاليم العالمية من حيث تفشي وممارسة الفساد، ففي بعض مناطق الاقليم تسيطر ميليشيات تابعة لشخصيات عسكرية وأمنية نافذة على حقول و آبار نفطية وتقوم ببيع نفطها بشكل مستقل! على اثرها قام سكان هذه المناطق بتسمية هذه الآبار النفطية باسم الشخصية النافذة الناهبة لها، مثلا يقولون البئر النفظي لكاك فلان وللأخ فلان! أما بالنسبة لواردات النقاط الجمركية الحدودية فحالها ليس احسن من حال واردات النفط. فلدى كوردستان حوالي 10 نقطة حدودية دولية رسمية مع كل من ايران، تركيا وسوريا، وارداتها تقدر بأكثر من مليار دولار بالشهر، لكن لا أحد يعرف مصيرها حتى اليوم! فكل ما يدفع للرواتب (حوالي 400 مليون دولار) تأتي من النفط المصدر من خلال انبوب نفط كوردستان-جيهان المعلن عنها شهريا من قبل وزارة الثروات الطبيعية لكردستان! 

الشركات و الكتل الاقتصادية الكبيرة في كوردستان بدون استثناء جميعها مملوكة ايضا من قبل شخصيات سياسية، أمنية وعسكرية الذين باتوا من اغنى اغنياء العالم أصحاب عشرات المليارات من الدولارات! بعضهم اغنى من بيل غيتس، كارلوس سليم، وارين بوفيت، أمانكيو ئورتيغا و أيضا دونالد ترمب! أغلبهم قاموا بتعيين اشخاص غير معروفين كواجهات لهم في هذه الشركات لتضليل الشعب بأن لا يد لهم في المجال الاقتصادي. اضافة الى كل هذا، قاموا باستقطاع أراض زراعية وتجارية شاسعة في المدن تحت حجج ومسميات عدة، فذاك يدعي انجاز مشاريع اقتصادية عليها وآخرون يدعون ملكية أجدادهم لها!

عجيب أمر هذا البلد، ثروات الوطن الوفيرة يسيطر عليها ويتحكم بها عدد صغير من اصحاب المليشيات حاملي جوازات اوروبية وأمريكية، بينما الشعب الذي قدم مئات الآلاف من الشهداء والتضحيات للخلاص من الانظمة الدكتاتورية في القرن الماضي، يتضور جوعا: المدارس، الجامعات، الدوائر الخدمية كلها توقفت وأغلقت أبوابها، والمواطن في حيرة من أمره وقدره في ظل سكوت تام وعجيب من قبل السلطات.


كاتب صحفي وأكاديمي
دكتوراه في الاعلام الجديد والديمقراطية ببريطانيا