كيلا يُقرأ على غير ما يقول المقال يلزم التنبيه إلى أن النظرية الماركسية نظرية علمية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي لا تحتاج لمن يقر بشرعيتها طالما أنها كمصفوفة من القوانين العلمية رتبها القانون العام للحركة في الطبيعة (الديالكتيك) وهي لذلك تمنح الشرعية أو تحجبها عن كل ما يتعارض أو يتوافق معها – الشرعية هنا ليست منحة تقررها السلطات العليا لأنظمة وقوانين تخدم أو تعزز سلطانها بل هي مقتضيات تطور المجتمع في حدود معينة .

إتساقاً مع هذه المحاكمة العلمية للقوانين يُستوجب الإعتراف بأن الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم ليس فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 فقط بل فيما بعد خيانة الحزب الشبوعي السوفياتي للمشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية بعد رحيل ستالين في العام 1953 أيضاً، يستوجب الاعتراف بأن هذه الأحزاب فقدت شرعيتها ولم تعد على أدنى مساس بالتطور الاجتماعي في بلادها .

كان أول من أشار إلى شرعية قيام حزب شيوعي يعمل كهيئة أركان طبقة البروليتاريا في المجتمع الرأسمالي المتقدم، في صراعها مع الطبقات الأخرى وأولها الرأسماليون بالطبع، هو ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي 1848 الذي فصّل في مختلف حيثياته في شروط الإنتاج السائدة آنذاك التي تستدعي قيام حزب شيوعي يقود البروليتاريا إلى الثورة التي تحطم النظام الرأسمالي . بعد إنتشار أفكار البيان الشيوعي في أورويا الغربية التي كانت تمثل مركز النظام الرأسمالي العالمي، وكان البيان الشيوعي قد كُتب يحاكي نظام الانتاج الرأسمالي السائد هناك، بعد انتشاره خلال ست عشرة سنة همّ ماركس بتشكيل الأممية الأولى 1864 كي تكون هي الحزب الشيوعيللبروليتاريا في غرب أوروبا الذي يحضّر ويقود الثورة الاشتراكية العالمية .

في العام 1871 قام العمال والجنود في باريس بثورة الكومونة (Commune) فواجهتها الرجعية الفرنسية والبروسية الجرمانية بوحشية بالغة الدموية حيث قتلت من العمال في باريس وحدها أكثر من 20 ألفاً . ملحمة الكومونة أثبتت أن البروليتاريا حتى في صميم المركز الرأسمالي باريس لم تكن على قدر من التطور والكفاءة لتقوم بثورة اشتراكية عالميةناجحة الأمر الذي جعل ماركس يحل الأممية الأولى في العام 1873 . في السنوات العشرة الأخيرة من حياة ماركس الذي كرس كل حياتة لخدمة الثورة الإشتراكية البروليتارية لم يقم بأي عمل تنظيمي نحو تحقيق تلك الثورة أمل حياته ، وقد توفي في 14 آذار 1883، وهو ما يشير إلى عدم "شرعية" أي تنظيم قد يدعي الكفاءة لتحقيق الثورة الاشتراكية آنذاك .

بعد ست سنوات من رحيل ماركس لاحظ رفيق حياته فردريك إنجلز أن الأفكار الماركسية قد انتشرت بصورة واسعة وتجلي ذلك بقيام أحزاب اشتراكية ديموقراطية ومنظمات عمالية ذات شأن في جميع البلدان الأوروبية وهو ما حفزه للقيام بجهد استثنائي لتأسيس أممية ثانية تبدو أمامها فرص النجاح بالقيام بالثورة الاشتراكية العالمية التي كانت حلم العمر له ولرفيق عمره ماركسماثلة في الأفق . في الذكرى المئوية الأولى للثورة الفرنسية 14 يوليو تموز 1889 اجتمع في باريس 393 مندوباً يمثلون الاحزاب الإشتراكية والمنظمات العمالية في جميع البلدان الأوروبية بالإضافة إلى الولايات التحدة وكندا واليابان وكان ذلك المؤتمر التأسيسي للأممية الثانية . في المؤتمر السابع للأممية الثانية في شتوتغارت/ألمانيا في 18 أوغست آب 1907 حضر أكثر من 900 مندوباً من جميع أطراف العالم، وهناك وافق المؤتمرون على اقتراح قدمه ثلاثة من كبار الإشتراكيين وهم فلاديمير لينين من حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا وكارل ليبكنخت وروزا لكسمبورغ من حزب سبارتاكوس في ألمانيا على اقتراح يقول أن البروليتاريا في البلدان الأوروبية التي تدخل الحروب الاستعمارية ستقوم بالاستيلاء على السلطة والانسحاب من الحرب . كان ذلك قراراً تاريخياً وضع الثورة الاشتراكية العالمية لأول مرة على أجندة البروليتاريا في العالم . وفي المؤتمر التاسع الاستثنائي للأممية الاشتراكية في بازل/سوبسرا 1912 تحول القرار الثوري في مؤتمر شتوتغارت إلى صلاة في كاتدرائية المدينة لأجل أن تساعد الآلهة البروليتاريا في الحفاظ على السلام . يعلم هؤلاء القادة الإنتهازيون أن الآلهة لا تساعد البروليتاريا ولذلك بعد أن عادوا إلى بلدانهم تبنوا سياسة الاشتراك في الحرب الرأسمالية بحجة الدفاع عن الوطن ضد العدو الخارجي . هذا ما قال به زعماء الأممية الاشتراكية لدى بداية الحرب العظمى الأولى 1914 من مثل كاوتسكي وبليخانوف . طبعاً ما كان للبلاشفة بقيادة لينين أن يأتلفوا مع هؤلاء الانتهازيين كما رآهم لينين من عسكر البورجوازية الوضيعة . لو ظلت أحزاب الأممية الثانية مخلصة لقرارها الثوري في مؤتمر شتوتغارت لكان عالم اليوم عالماً ختلفاً وقد عبر الاشتراكية ويعيش في بلهنية بعيداً عن كل الموبقات التي يعاني منها . فالحرب العالمية الأولى امتدت خمس سنوات دُمّرت خلالها كل الحضارة التي بناها النظام الرأسمالي خلال القرن الثامن عشر وتهالكت جراء ذلك كل الدول الكبرى المتورطة في الحرب حتى وصل الأمر إلى أن البورجوازية الروسية الفقيرة الهشة تقوم بتحطيم قلعة الرجعية القيصرية في ثورة شباط فبراير 1917 . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كل التخلف والإنكسارات التي لحقت بالبشرية خلال القرنين الأخيرين إنما كان بسبب موئل الخيانة وهو الحزب الإشتراكي الديموقراطي الألماني . الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في العالم وقد اقتدت جميعها بالحزب الاشتراكي الألماني فقدت شرعيتها وباتت لا تختلف عن الأحزاب البورجوازية اليمينية بشيء 

لئن كانت أحزاب الأممية الثانية قد فقدت شرعيتها جراء مشاركتها في الحرب الإستعمارية وانحلت في العام 1916 إعترافاً بذلك، فإن حزب الإشتراكيين الثوريين الروسي تشبث بالشرعية وقام لذلك بثورة بورجوازية في شباط فبراير 1917 أطاحت بالقيصرية أهم قلاع الرجعية في أوروبا . غير أن هذا الحزب لم يصل بشرعيته البورجوازية أبعد من ذلك فكان أن تنكر لأهداف ثورته البورجوازية الرئيسة وهي الإنسحاب من الحرب والإصلاح الزراعي وانتخاب الجمعية التأسيسيه . فقدان حكومة الاشتراكيين الثوريين المؤقتة برئاسة كيرانسكي للشرعية هو ما جعل لينين يطرح موضوعات نيسان الشهيرة القاضية باستلام البلاشفة السلطة وتطوير الثورة البورجوازية حتى الإنتقال إلى الثورة الإشتراكية . 

في 25 أكتوبر (7 نوفمبر) 1917 استولى البلاشفة على السلطة ودعوا مختلف الأحزاب البورجوازية للإشتراك في أول حكومة يشكلها البلاشفة لتساهم في تطوير الثورة البورجوازية غير أن جميع هذه الأحزاب لم ترفض المشاركة في السلطة وحسب بل رفعت السلاح في وجه البلاشفة لاستعادة السلطة رغم أن أول أعمال حكومة البلاشفة كان تبني أهداف الثورة البورجوازية . دولة البورجوازية التي لم تتقدم خطوة صغيرة واحدة في تطوير ثورتها طيلة سلطتها لعشرة شهور فقدت بالنتيجة شرعيتها، والشرعية تُفقد لمرة واحدة فقط، ولذلك يمكن القول أن البورجوازية أعلنت الحرب على البلاشفة في مارس آذار 1918 ليس من أجل تطوير الثورة البورجوازية بل لتسليم كل السلطة للرجعية القيصرية وفلول الإقطاع . طبعاً الشرعيون البلاشفة لن يسلموا السلطة لغير الشرعيين من البورجوازية وحلفائها ؛ التف العمال وصغار الفلاحين والجنود حول البلاشفة وألحقوا هزيمة ساحقة بكتائب البورجوازية والرجعية التي أكدت فقدان كل شرعية لها حين استدعت 19 جيشاً أجنبيا لدخول روسيا لأجل خنق البلشفية في مهدها . البلاشفة الشرعيون ألحقوا هزيمة مذلة بجيوش جميع الدول الرأسمالية الأربعة عشر .

البلاشفة بجيوش ليس فيها إلا المتطوعون، بلا تسليح وبلا تموين، يهزمون 19 جيشاً للدول الرأسمالية المتقدمة وبعد ذلك يبرز أحدهم متسائلاً عن شرعية البلاشفة !! بمثل هذا "الأحد"لا يمكن القول سوى أنه وقح وقاحة فجّة وممجوجة ؛ هل لهذا الوقح أن يدلّ على أي جهة أخرى غير البلاشفة مؤهلة لاستلام السلطة !؟

في العام 1922 كانت شعوب الاتحاد السوفياتي تبيت على الطوى وفي العام 1928 كان مجمل الانتاج بالكاد يتجاوز مستواه في روسيا القيصرية في العام 1913 . إذاك أعلن ستالين أن شرعية النظام الاشتراكي تتوفر فقط بتحقيق تقدم اقتصادي ملموس وأملى على الشعوب السوفياتية حكماً قاطعاً يقول إما التقدم نحو الإشتراكية وإما الرجوع إلى النظام الرأسمالي،هكذا طرح ستالين المشروع الخماسي الأول 1928 – 32 علىالشيوعيين وكافة قوى التقدم والاشتراكية السوفياتية، وهو المشروع الذي قال به ونستون تشيرتشل .. هذا الحالم في الكرملن لو استطاع تحيق هذا الشروع بخمس سنوات لتحولت أنا إلى الشيوعية !! تم تحقيق المشروع في أقل من أربع سنوات دون أن يتحول تشيرتشل إلى الشيوعية، لكن ترتب عليه وعلى أمثاله أن يقروا بأن الشيوعيين في روسيا وفي العالم كله ليسوا طارئين فقط . بعد إنتهاء الخطة الخمسية الثانية في العام 1936 راحت الصحافة الأميركية تعير الإدارة بنظامها الرأسمالي وانعكاس مظاهر الفقر في طوابير الشوربة بينما الشعوب السوفياتية تعيش في بلهنية عزّ نظيرها في ثلاثينيات القون الماضي .

 

(يتبع)