بينما ينهمك "شاغل الدنيا" الآن.. "متنبي" فوزه بالأمس الذي أصبح اليوم "سيف الدولة" الأمريكاني! "حجّاج" الانتخابات الذي قطعاً "رأى رؤوساً يانعة" وقام بقطافها! بينما ينهمك اليوم الرئيس الأمريكي المنتخب الجديد دونالد ترمب، بتشكيل فريق ادارته، والاستعداد للسير واثقاً نحو تنصيبه "ملكا" في بداية العام القادم، فإنه لا ضير من أن نعرِّج بعجالة على أطلال الانتخابات، ونقف قليلاً، لا كوقوف "هيلاري" اليوم من ذكرى حبيبٍ ومنزل "أبيض"! ولكن وقوف متسائل.. لماذا فاز ترمب؟ ولماذا خسرت هيلاري؟ 

 

ببساطة يكمن أهم سبب في أن الناخب الأمريكي ملّ حد ال "drunk" – أي الثمالة! - من تكرار نوعية مرشحي الحزب الديموقراطي، ولم يُرد في أن تتكرر نسخة عن أوباما – بالألوان هذه المرة! – في شخص هيلاري كلينتون. 

هيلاري التي بدت أثناء حملتها الانتخابية مرتدية في أغلب جولاتها "بدلة" جعلتها تبدو وكأنها "مسوّق عقاري" تكرر طرقه لأبواب الأمريكيين بنفس البدلة وبنفس البضاعة "المزجاة" وبنفس الأسلوب ليس فقط الضعيف بل والمكرر الآن لمدة 8 سنوات من قبل أوباما، قد فشلت قبل حتى أن تبدأ! ناهيك بأنها دخلت الانتخابات أساساً كمرشح يفتقد للنزاهة والثقة عند شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين باعتبار تاريخها السياسي المليء بالفضائحوالهفوات والمشاكل، كان آخرها فضيحة التبرعات التي تلقتها "مؤسسة كلينتون للأعمال الخيرية"، والتي جاء في مقال في شهر أغسطس 2016، في "الواشنطون بوست"، بأنه وبحسب القانون الأمريكي فإن ما نسبته 50% من هذه التبرعات لم تكن شرعية،وبأن هيلاري استغلت منصبها الرسمي حينذاك كوزبرة للخارجية لتقديم خدمات لبعض المتبرعين نظير تبرعاتهم لمؤسسة كلينتون. أضف إلى ذلك فضيحة رسائل البريد الالكتروني لهيلاري التي شكلت هزة أخرى قوية في ثقة الناخب الأمريكي بها. علاوة على ذلك، هناك "فضائح" والتي وإن كانت تدخل في دائرة "الشكوك" أو ضمن "نظرية المؤامرة"، إلا أنه كان لتوقيت بعضها قطعاً تأثير على قرار الكثير من الناخبين، وكمثال هنا، مقال الكاتبة الأمريكية المستقلة المعروفة، "جانيت تافاكولي"، المنشور في أغسطس 2016، والذي ذاع صيته بشكل كبير في أمريكا، وجاء بعنوان "حصيلة جثث كلينتون في هذه الانتخابات حتى الآن"!، فيه ربطت الكاتبة بين حوادث مقتل ووفاة 4 اشخاص وانتحار آخر من الشخصيات العامة – أي في المجمل 5 – بين شهري يونيو وأغسطس 2016، وبضلوع هيلاري وزوجها – بحسب زعم المقال - في هذه الحوادث بشكل أو آخر، وأن ما يجمع هؤلاء الخمسة بأنهم إما كانوا بصدد الشهادة لدى الجهات المختصة ضد قضايا فساد تطال هيلاري كلينتون وزوجها والحزب الديموقراطي أو ممن نشروا مقالات تدين فساد هيلاري وزوجها، كالكاتب "مايك فلين"، والذي نُشر له مقالاً في يوم وفاته تطرق فيه إلى فساد هيلاري كلينتون وزوجها، وعن الأموال المشبوهة التي تلقياها من جهات صينية في عام 2014.

كل هذه المشاكل والفضائح عند هيلاري أضف إليها احساس شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين بأنها دائماً ما تخفي أمراً مريباً بما افقدها بالتالي ثقتهم، جعلت من مسألة أن يحسم مرشح ديموقراطي بسهولة ومبكراً معركة الرئاسة أمام مرشح مثل ترمب، أن تُعد سابقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد استغل ترمب كل هذه العوامل استغلالاً جيداً ومدروساً، هذا بالاضافة إلى ضعف شخصية هيلاري وخطابها الديبلوماسي المكرر والمملول أثناء الانتخابات بمقابل قوة شخصية ترمب وحدة خطابه وكيف أنه كان يفرض سلطته بسلاطته، واختياره لمفردات ومواضيع الهبت حماس داعميه ولقت رواجاً بينهم كمثل "سوره المرتقب" أو خطابه العنصري ضد الاسلام والمسلمين والأقليات الأخرى، علاوة علىشعار حملته الموفق جداً "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً". وقد أحسن ترمب أيضاً في استغلال البروز القوي لصوت "اليمين المتطرف" في أمريكا، وليس بالضرورة بأنه كان – ما زال - مؤمناً بأفكار هذا اليمين، ولكن انطلاقاً من "الغاية تبرر الوسيلة"، "وإلي تكسب فيه العب فيه"، والدليل تجده في حجم تراجع حدة خطاب ترمب خاصة بعد فوزه. ومن هنا فإن ترمب لم يكن عنصرياً، بل العنصري – في الغالب - هو من قام بالتصويت له! ولا اتجاوز هنا أيضاً استغلال ترمب لأحد أهم اسباب فوزه في الانتخابات وهو، تردي الأوضاع الاقتصادية وتداعياتها على المواطن الأمريكي وخاصة فيما يتعلق بالضرائب والبطالة، ووعوده بتقليل هذه الضرائب وتوفير آلاف الوظائف للأمريكيين. 

هذا ما جعل من شخص كترمب لم يمارس السياسة ولو يوماً واحداً في حياته قبل ترشحه في الانتخابات من أن يفوز بها، بمقابل هيلاري التي تمتلك تاريخاً طويلاً في العمل السياسي.. وأكاد أكونعلى يقين بأن المرشح الديموقراطي الذي خسر ترشيح الحزب أمام هيلاري، "بيرني ساندرز"، صاح عند فوز ترمب بما هو قريب من "أضاعوني وأي فتى أضاعوا"!

هناك سابقة أخرى تسجل في هذه الانتخابات وهي أنه وبالرغم من تجييش أهم وسائل الاعلام الأمريكية المرئية أو المقرؤوة أضف إليها اصطفاف غالبية نجوم الفن والرياضة مع هيلاري ضد ترمب، إلا أن هذا الأخير استطاع الفوز، وهذه انعطافة تاريخية تحسب لوعي الناخب الأمريكي المأسور والمغسول دماغه غالباً من تلقين وسائل الاعلام والميل للاصطفافات السياسية لنجوم هوليوود والرياضة هناك!

ثلاثة سيناريوهات تنتظر ترمب كرئيس لأمريكا، إما أن تكون فترة رئاسته مجرد "رقم" يُضاف لأعداد الرؤساء الأمريكيين دون أي مجد يُخلِّد اسمه. وإما أن يكون فعلاً رئيساً جيداً (آخر رئيس جيد لأمريكا كان "فرانكلين روزفلت"، وكان مشلولاً!)، ولن يكلفه ذلك سوى أن يتخذ مواقف قوية وجريئة في السياسة الخارجية (وذلك متوقع)، وأن يتحسن الاقتصاد في عهده، وبأن يعزل نفسه وادارته عن تأثير اليمين المتطرف. أما السيناريو الثالث، وهو مستبعد، فهو في أن لا يُكمل فترة رئاسته لسبب/ فضيحة ما، كالرئيس نيكسون مثلاً، ويتولى نائبه الرئاسة باقي فترته، أو عن طريق سابقة دستورية أولى في تاريخ أمريكا، وذلك عبر عزله من قبل الكونغرس الأمريكي. أما غيرها من جعجعة، كمظاهرات مؤيدي هيلاري ضد فوز ترمب أو محاولة "حزب الخضر" – وعبر حشد دعم الحزب الديموقراطي كذلك - في إعادة فرز الأصوات في بعض الولايات فلن يقدم أو يأخر شيء في واقع ترمب كرئيس شرعي منتخب.

فاصل كوميدي هنا قبل الختام.. تسابقت بعض "النخب" العربية بعد فوز ترمب في النشر عبر مقالات لها أو في وسائل التواصل الاجتماعي ل "توقعات" سابقة لها حول فوزه بالرئاسة! ولا أدري حقيقة مصدر مثل هذه "الالهامات"؟! وهم داخل مجتمعات فيها "الديموقراطية" كانت ولم تزل تخضع واقعاً لتعريف القذافي، حول أنها لفظة مصحّفة عن "ديموكراسي" أي ديمومية كراسي الحكام! هنا فعلاً شر البلية ما يُضحك، وكذبت هذه "النخب" ولو صدقت!

اختم هنا، ومع حلول ذكرى عيد ميلاده بعد أيام، بأمنية أديبنا الراحل الكبير/ نجيب محفوظ، عندما سئل في آخر مقابلة له وكانت بمناسبة عيد ميلاده ال93، ما هي أمنيتك/ رسالتك اليوم، فأجاب:أوجهها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأن القيادة الحقيقية للعالم تجيء عن طريق العدل لا الغزو، وبذلك تفتح عصر جديد للعالم يسوده السلام والتعاون، وتكفي الحروب التي ملأت الدنيا.. وربنا يساعدهم ويساعدنا.

من "بقك" يا عم نجيب لباب السماء.. الذي دخلت منه خالداً كما أنت في الأرض.