د. سفيان الماجدي: صَدرَ، أخِيراً، الألبومُ الجديدُ للفنانِ كاظم السّاهر بعُنوانِ كتاب الحب، بعد أزيدَ من خمسِ سنواتٍ عن آخرِ مجموعة غنائية لهُ وُسِمتْ بـ لا تزيديه لوعة. وبينَ العملين مسافةٌ زمنيةٌ من الإبداعِ المُتقطّعُ تكشفُ عنْ أزمةٍ وصلَتْ إليها التجربة الغنائيةُ للسَّاهر في مُستوى اختياراتِهِ الشِّعريةِ والألحانِ المُقدّمةِ إلى جُمهُورهِ، وذلكَ في ضوءِ إصرارهِ "القديم" على الغناءِ من ألحانهِ، وتَشَبُّتِ الجُمهورِ بِهذا الخِيارَ أيْضاً. إنّهُ، إذنْ، تحدٍّ مزدوجٌ بين كاظم والجمهور، ورغبةٌ في افْتراعِ آفاقٍ شِعريّة ومُوسيقيّة جَدِيدةٍ، بعْدما شكَّكَ البعضُ في إمْكاناتِ الفَنانِ، وقال البعضُ الآخرُ بانْحِسارِ أفُقِ ألْحَانهِ، وضَعْفِ الأغانِي الصّادرةِ بِشكْلٍ مُنفردٍ.

الألبوم المفاجأة
دَعْنَا مِنْ حَكايَا النّاسِ، ولِنَنْتَقِلْ إلى ثَنَايَا الألبُومِ-المُفاجَأةِ. تَتَمَثَّلُ أبرَزُ تجلياتِ هذه المفاجأةِ في إصدارِ الساهر لإحْدى عشرةَ أغنيةً، ضِمْنَ ألبومٍ غنائِيٍّ واحِدٍ، هيَ كلُّها منْ كلماتِ شاعِرٍ واحِدٍ هُوَ نزار قباني، وألحانِ مُلحِّن واحدٍ هو كاظم نفسُه، وتوزيعِ موَزِّعٍ مُوسيقيٍّ واحدٍ هو ميشال فاضل. ثالوثٌ جديدٌ، وتجربةٌ غنائية جديدة، تبحثُ لنفْسِها عنْ موطِئِ قدمٍ ضمْنَ المساراتِ الغنائيةِ العالَمية، والتي اختارَتْ، لنفسِها، مع بداية الألفية الثالثة أشكالاً جديدةً، أكثرَ حداثةً ومزجاً للألوان الموسيقية، تتوجهُ إلى فئات أوسعَ من المُستمِعين، وترْبِطُ قديمَ الموسيقى العربيةِ بحَدِيثِها، في زمنَ هيمنَت عليه التجاريةُ واللهاثُ وراءَ الشهرة، وتحقيقُ أعلى نِسَبِ المشاهدة والمتابعة عبر وسائلِ التواصُل الاجتماعي.

في التفاصيل
شؤونٌ صَغيرةٌ، هِيَ تلكَ التي سَنَقِفُ عليهَا في تناوُلِنا لهذهِ الأعمالِ الغِنائية الجَديدةِ. بدءاً بالتِّيمة العامّة للألبُوم، والذي يعرِضُ تَجربةَ "الغربة في الحب"، كما تمثّلَها نِزار قبّاني ضِمْنَ تجرِبَّةِ الشِّعر المُعاصِرِ. وكاظم، لم يَحِدْ، هُنا، عن خطِّ اختياراته الشعرية. وهي اختياراتٌ مُرَكّبَةٌ؛ فقدْ انْتَقَى منْ قصائِدِ الشَّاعرِ الدُّررَ، والكَلماتِ المُرهَفَة، والأصوات المهموسةَ، والأخيلة المُتأسِّسَة على الانزياح الشعري. ثمَّ انْتَقى داخلَ القصائدِ أبْياتاً تناسِبُ ألحانَهُ، وانتقلَ، أيضاً، إلى إحْداثِ تغْييراتٍ وصلَتْ إلى حَدّ "تبديل" أبياتٍ ضِمنَ قصيدة "فاطمة في الريف البريطاني"، والتي شكلتْ النَّصَ الأثرَ لأغنيةِ "عيد العشاق". عَلى أنَّ المُستمِع لهذه الأغنيةِ تَتَبَدَّى لهُ كفاءَةُ السَّاهرِ، ومَعرِفَتُهُ بإيقاعِ الشِّعر العرَبي وزحافاتِ تفعيلاتهِ وعِلَلِها، حيثُ تبدُو التَّعديلاتُ مناسِبةً، وغيْر مُستَثْقَلةً. 

هنالِكَ خمْسُ دقائِقَ لنَتوَقَّفَ عندَ شعريةِ الكلمة في هذه القصائِد المُغَنّاةِ. فهيَ تقتربُ من لغةِ الحياةِ الحيّة، فيمَا هيَ تبتَعِدُ عنْها في آنٍ، مُتخِذةً مَوْقعاً بَرزخياً تُراوحُ فيهِ العبارةُ بينَ بَساطةِ الكلمةِ، وقُوّة تعبيرِها، ثمَّ حُضور النَّفَسِ السّردي داخِلها، حيثُ تحتَضِنُ أبياتُ نزارٍ مشاهدَ سرديةً تَتَّسِمُ بالانسيابيةِ، لا تكادُ تنتهي حتى تبدأَ في مخيلة القارئ/ المستمع. كَمَا كشَفَتِ النِّداءاتُ والتَّمَنِّياتُ والاستِفْهامَاتُ العديدةُ في أبياتِ القصائد عنْ تِلْكَ الحوارية، وذلك الاضطرابِ الذي تعيشُه شَخصيةُ المُحِبِّ، وهو ما تجَسْدنَ، بشكلٍ جليٍّ في قصيدة "تناقضات"، والتي ضمّت هذا التراوحَ، أو ما أسْماهُ نزارٌ فصَاماً.

هفوات لغوية
وتَقْتَضِي مِنَّا النِّصفةُ أنْ نقِفَ علَى الأخطاءِ اللغوية، النحويةِ منها على الخُصوصِ، والتي وقعَ فيهَا كاظم الساهر، والتِي لمْ يكُنْ مُبَرِّرٌ موسِيقيٌّ أو إيقاعِيٌّ لارتكابِها. وإذا كانت تخْدِشُ الأذنَ الفصيحةَ، فهي، على قِلَّتِها، لم تؤثرْ سلباً على جمالية الأغاني. ونذكر، هنا على سبيل التمثيلِ، جرَّ كاظم لكلمةِ "عبارة" بما هي بدلٌ مطابقٌ مُضافٌ، والتي يجب أن تكون منصوبةً في أغنيةِ "فاكهة الحب"، والأصَحُّ: أيَّ عبارةَ حُبٍّ... كما أنّ "عيد العُشاقِ" تتضَمَّنُ خَطأً آخرَ في مستوى تصريفِ الفعل قَدَرَ في المضارع، فكاظم يقولُ "ليتني أقدَرُ" بمعنى أستطيعُ، والأصَحُّ "أقدِر"؛ أي بكسْرِ الدال. على أنَّ جُمهُوراً من اللُّغوييّن يَسْتعمل اللفظَ الأوَّلَ. لا بأسَ. فذلك لنْ يُشكِّلَ قِصّةَ خلافاتِنا مَعَهُ. من جهة أخرى، فقد تداركَ كاظم رفعَ الفعل "أطمئنُّ" في أغنية "تناقضات" التي صدَرت، بدايةً، في تطبيق أنغامي، ونصبَهُ في النسخة الأصلية (لكي أطمئنَّ) وهو أمرٌ يُحسَب لهُ بطبيعة الحال. 

تناغم موسيقي
وما بَينَ أغنية وأخرى، تبرُزُ موسِيقى ميشال فاضل، والذي أكدَّ قُدرَتَهُ على تركيبِ موسيقى تتواشجُ مع الألحانِ الموضوعةِ للأشعار، حتى بَدا الانْسِجامُ مَلْمَحاً يشِمُ جميعَ الأغانِي. وقد كانَ المُوزّعُ الموسيقيُّ، بدورِه، أمامَ تحدٍّ كَبير؛ فالذاكِرةُ الموسيقيَةُ التي راكَمَها الساهِرُ، عبْرَ مسِيرِهِ الغنائِيِّ، يُمكِنُ أنْ تُسيّجَ حريةَ أيِّ مُوزِّعٍ لمْ يَسْبِقْ لهُ التَّعامُل مع كاظم، فكانَ لزاماً على ميشال فاضل الاستماعُ إلى هذه الموسيقى ثمَّ نسيانُها من أجلِ خلقِ موسيقى تتناغَمُ فيها الآلاتُ الموسيقيةُ بينَ الكمانِ والبيانِ والإيقاعِ... كما أنّ توظيفَ الكورسِ لم يكُن تقليدياً، ولمْ يتمَّ الاكتفاءُ فيهِ بالترديدِ بلْ تجاوزَ ذلكَ إلى التناوُبِ والتحاوُرِ، فكانَ عنْصُراً بنائِياً آخرَ انضافَ إلى باقِي العناصرِ البانيةِ للأغانِي. 

رسالة حب
رسالةُ حبٍّ كبيرة موجّهَةٌ إلى كاظم الساهر من جمهوره الذي قابَلَ الحُبَّ بالوفاءِ. وانتظرَ، وأطال الانتظارَ، ولم يشُكَّ يوماً في قدُراتِ الساهر، واختياراتِه وألحانه، وظلَّ متشبثاً بذلك العَهْدِ الذي قَطعَهُ الطَّرفانِ على نَفْسَيْهِما مُنذُ البداياتِ الأولى، لِيَرْسُما، مَعاً، عيداً للعُشاقِ، لهُ فاكِهتُهُ، وعِطرهُ، مثْلَما لهُ خِلافاتُه، وتناقُضَاتُهُ. هَكذا إذنْ، نكونُ أمامَ فنّانٍ كبيرٍ بحبِّ جُمهورهِ الكبيرِ.