"إيلاف" من القاهرة: لمناسبة ذكرى وفاته، تلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان الراحل عماد حمدي الذي لُقِّبَ بـ"فتى الشاشة الأول" لأكثر من 20 سنة، من خلال عرض مذكراته التي صدرت بتوقيع الناقدة إيريس نظمي قبل أكثر من 3 عقود، علماً أن الراحل سجلها قبل وفاته.
وفي الجزء السادس من سيرته يتحدث عن قصة حبه مع الفنانة شادية ويكف نشأة هذه القصة داخل قطار الرحمة بعد ثورة 23 يوليو.


اللقاء مع شادية
ويتابع "حمدي" سرد مذكراته، ويقول: حدث أن أعلنت ثورة 23 يوليو ورأى الفنانون أن يقوموا بتلك المظاهرة الفنية تعبيراً عن ترحيبهم بإعلان الثورة. وكان المفروض أن نركب هذا القطار، قطار الرحمة لكي ينطلق بنا من أسوان حتى القاهرة متوقفاً في كل محطات السكة الحديدية. وتقرر أن ننزل من القطار في كل محطة لكي نقدم هذه الحفلات الغنائية مساهمةً في جمع التبرعات. وكان قد حدد لهذه الرحلة فترة زمنية قدرها 24 يوماً وكان قدري هو تقديم المطربين والمطربات الذين سيقدمون أغانيهم أمام الجمهور 
وأذكر أنه عندما توقف القطار في محطة سوهاج اندفعت مسرعا إلى داخل المدينة أسأل كل من يقابلني، من فضلك أين مسكن باش مهندس السكة الحديد، وتصور بعض الناس الذين سألتهم أنني أحد أقرباء الباش مهندس وأنني أرغب في زيارته رغم أني لا أعرفه ولا أذكر حتى اسمه. لكني كنت أريد فقط أن أرى البيت الذي يقيم فيه، فهنا في سوهاج رأيت مع أخي التوأم عبد الرحمن نور الحياة لأول مرة، أريد أن أرى ذلك البيت الذي كان يعيش فيه ابن الباش مهندس السابق لسكك حديد الوجة القبلي، وبالطبع لم ادخل بيتنا. أقصد البيت الذي كان يعيش فيه أبي وأمي منذ سنوات بعيدة. لكنني اكتفيت فقط بالتأمل من بعيد لدرجة أن الرجل الذي قادني إلى البيت ظل واقفا يتطلع نحوي بدهشة شديدة ولعله كان يسأل نفسه لماذا يسأل عن البيت إذا كان لاينوي الدخول إليه.
وبدأت أساهم بتقديم المطربين والمطربات للجمهور في كل محطة جديدة يتوقف فيها القطار قطار الرحمة، وكان من بين المطربات المشاركات في حفلات قطار الرحمة الغنائية المطربة شادية التي قدمتها أكثر من مرة في معظم البلاد التي قدمنا فيها هذه الحفلات الغنائية وتبادلنا عبارات المجاملة ثم كلمات الشكر ثم تعبيرات التقدير. ويوماً بعد يوم توطدت علاقتنا وطالت فترات الحديث بيننا سواء في القطار أو داخل دور السينما التي كنا نقيم فيها هذه الحفلات الغنائية كلما توقف القطار في محطةٍ جديدة. وعندما توقف القطار في آخر محطة في القاهرة شعر كل منا برغبة قوية في رؤية الآخر مرة ومرات أخرى كثيرة.

حيرة وقلق
كان موقفي حرجاً وشائكاً. فأنا كنت متزوجاً وحياتي هادئة ومستقرة ولدي طفل أحبه. ورغم ذلك، كله لم أقدر على مقاومة هذه الدعوة الحارة القادمة من أعماق نفسي التي تدفعني دفعاً للذهاب للقاء شادية. عشت صراعاً نشب فجاة في داخلي. صراعٌ بين الزوج الوقور الذي يريد أن يتجنب العواطف التي توشك أن تهب فتقتلع جذور استقرار حياته الزوجية وبين مشاعر الشباب المتأججة التي لا تعترف في معظم الأحيان بالعقل أو المنطق وتندفع هائجة غير عابئة بشيء. وكنت أشعر بأن الشاب الذي في داخلي هو الذي يوشك أن ينتصر علي منطق الزوج الوقور. فرحت أتساءل: "أي قوة مجهولة تلك التي تغيّر مسار سفينة حياتي فتجعلها تتجه نحو مرفأ آخر وشاطئ غير الشاطئ الذي كنت أنوي أن أستقر عليه حتى لحظات الممات. أي قوة تلك التي تحركنا في الإتجاه الآخر المضاد؟.


إنتصار القلب
قد يكون الإنسان ذكياً وواعياً ومدركاً لأمورٍ كثيرة ويعرف ما الذي يريده بالتحديد وفي أي اتجاه يسير. ورغم ذلك تتجه سفينة حياته إلى شاطئٍ آخر غير الذي يريده. فيجد نفسه مستسلماً لرياح المقادير التي تحركت نحو الشاطئ المجهول. فهل هي الرغبة في تحدي النفس أم تحدي المنطق والزمن والمجهول؟ لم تتوقف تساؤلاتي: ما الذي أصاب عقلي وقلبي منذ أن ركبت ذلك القطار الذي اسمه قطار الرحمه؟ وكأنني مسلوب الإرادة أسير كالمنوّم مغناطيسياً لا أقاوم ولا أنوي المقاومة. بل مأخوذاً بما يحدث لي. ولقد حاولت الخروج من معركة القلوب التي ينتصر فيها الحب دائماً. لكن الظروف شاءت أن يتم ترشيحي لبطولة فيلم جديد وأمام شادية. ولقد جمعنا فيلم "أقوى من الحب" الذي يخرجه عز الدين ذو الفقار ويجري تصوير أحداثه في الاسكندرية. وهكذا عدنا من جديد لنركب معا قطار الرحمة الذي لم يكن يتحرك هذه المرة فوق القضبان الحديدية بل كان ينزلق فوق رمال الإسكندرية الناعمة ولا تستطيع قوة أن تمنع اندفاعه نحو المجهول الغامض. كنت أؤدي في ذلك الفيلم دور ضابط مبتور الذراع متزوج من طبيبة مديحة يسري كانت تعاملة بجفاء وفي الوقت الذي اختفى فيه الحب داخل بيت الزوجية وبينما هو متعطش للكلمات الودودة الرقيقة والعواطف الدافئة، تظهر في حياته هذه الإنسانة الأخرى شادية التي تُغدقه بحنانها وحبها بلا حدود. لقد ظهرت فجأة في ليل حياته المظلم لكي تعيد إليه البهجة المفقودة والأمل الضائع. ويبدو أن قصة الفيلم العاطفية قد ألهبت مشاعرنا وأشعلت نار الشوق في أعماقنا.

والعجيب أنني لست من هؤلاء الرجال الذين يغازلون الفتيات والسيدات ويلاحقونهن باصرار. وكنت أستغرب ما يحدث لي. كانت صحتي جيدة فأنا أبدو أصغر من عمري بعشر سنوات لأنني لم أسرف في تبديد طاقتي وشبابي خلال فترة المراهقة كنت مولعاً بالألعاب الرياضية ولم يكن عندي وقت أضيعه في هذه المعاكسات التي تشغل المراهقين عادةً في مثل ذلك العمر. ومضت المراهقة لكني ظللت أبدو دائماً لمن يراني أصغر من عمري الحقيقي بعشر سنوات ورغم صحتي الجيدة ومشاعري الشابة لم أكن أسعى أبداً لمعاكسة ومطاردة الفتيات. ربما كنت أنطلق من موقفي هذا من مبدأ أخلاقي وكنت أسأل نفسي دائماً هل أقبل أن يحدث مع واحدة من أخواتي؟ لكني وجدت نفسي في موقفٍ لا أُحسد عليه. فأصبحت رجلاً متزوجاً وقع في الحب ولا يستطيع أن يهرب منه ولا أن يجد حلاً.

قرار الإنفصال
لم أجد أمامي غير هذا الحل الوحيد "الإنفصال عن زوجتي فتحية" التي كنت دائماً صادقاً في مشاعري معها ولم أمارس معها الكذب ولا أستطيع أن أخدعها. فقلت بنفسي: لماذا لا اعترف بالأمر الواقع بأن مشاعري نحوها قد تغيّرت أو علي الأقل لم تعد قوية. وكان لابد أن أفترق عنها لأنني لا أجيد لعبة المراوغة والخداع، ولا أستطيع أن أتحمل كل هذا العذاب النفسي. النهايات تكون دائماً مؤلمة ومدمعة. فالبدايات تكون في العادة سهلة، أما لحظات النهاية فتكون دائماً مختلطة بالآلام والدموع. لكن، أهم شيء بيننا كان اتفاقنا على المحافظة على إبننا نادر وحمايته من الآثار السلبية لتلك التجربة.
وبعد ثماني سنوات من الحياة الزوجية انفصلت عن زوجتي فتحية شريف وفي عام 1953 وفي الإسكندرية بالتحديد، وبعد انتهائنا من تمثيل فيلم "أقوى من الحب" تزوجت شادية وحكايتي مع شادية طويلة وعجيبة. فبعد زواجي منها فكرت للمرةِ الأولى بخوض تجربة الإنتاج. صحيح إني عملت من قبل مديراً للإنتاج في استديو مصر لكني في تلك المرة أردت أن أنتج لحسابي الخاص بأموالي وبجهودي الكاملة. وشجعتني على تنفيذ تلك الفكرة خبرتي الإنتاجية التي كنت قد اكتسبتها خلال فترة عملي بـ"استديو مصر".

نقلةٌ نوعية بأعمال شادية
كانت شادية حتي ذلك الوقت متخصصة في تقديم الأدوار الخفيفة في الأفلام ذات الطابع الكوميدي الغنائي وكانت عادة ما تقدم بعض الأغاني ضمن أحداث تلك الأفلام التي شاركها في بطولتها كمال الشناوي واسماعيل ياسين. ولكن تلك الأدوار الخفيفة التي أظهرتها فتاة مرحة خفيفة الظل قد حققت لشادية قدراً من النجاح لكن لم تعبِّر عن كل طاقاتها الفنية. وكنت أشعر أن في أعماقها كنوزاً فنية خافية تحتاح فقط لمن يكتشفها. إنها أكبر بكثير من تلك الأدوار الخفيفة التي اعتادت تقديمها. ليس ذلك دفاعاً عن زوجتي أو تعصباً لها. فكل زوج يدافع عن زوجته التي اختارها شريكةً لحياته. ويرى فيها كل المزايا وكل المعاني الجميلة. وأنا مثل أي زوج محب لزوجته. كنت أجد في شادية دائماً الإنسانية الرقيقة المهذبة إبنة الأصول التي جاءت من بيتٍ طيب ولم تأتِ من الشارع.
لكن رأيي فيها كفنانة لم يكن عاطفياً أبداً. بل كان إحساس فنان قبل أن يكون إحساس الزوج. فأصبح من بين أهداف حياتي الجديدة أن أرى شادية في المكان المناسب اللائق بها وأن يعرفها الناس كما لم يعرفوها من قبل ممثلة تقدم الأدوار الكبيرة التي تحتاج لممثلة كبيرة. لمطربة تمثل وتغنّي. لذلك عقدت العزم علي ان اخوض تجربة الانتاج السينمائي مهما كانت نتائجها وعواقبها، وأول اسس النجاح اختيار القصة المناسبة التي بدونها لا يكون للعمل السينمائي الناجح معنى.

مغامرة الإنتاج
لم أكن اشعر بأنها مغامرة بل كنت أحاول بهدوء أن أضمن لإنتاجي السينمائي الأول أفضل الظروف وأن أستفيد بقدر الإمكان من تجاربي السابقة في "استوديو مصر" ويكفيني ويرضيني جداً أن أغطي تكاليف الإنتاج وأن أقدم أفلاماً أفخر بها عندما أقول أنها من إنتاجي. أفلام لا أخجل منها ولا أخفض رأسي أسفاً عندما يسألون عن منتجها.
ووفقني الله في العثور على قصتين جيدتين، "شاطئ الذكريات" و"ليلة من عمري" وشرعت عملياً في الخطوات العملية للإنتاج. كنت أشعر أن شادية قلقة. فدورها في شاطئ الذكريات يختلف عن أدوارها السابقة وأيضا في "ليلة من عمري". ولأنني ممثل كنت أحترم ذلك القلق الذي يلازم الممثلين والممثلات خاصةً عندما يخوضون تجربة فنية جديدة.
كانت شادية تتصور أن أدوارها الخفيفة الغنائية هي أنسب الأدوار لها ولا تتصور نفسها أبداً إلا وهي تؤدي دوراً خالياً من المرح. ولا تتخيل نفسها بطلة لفيلم خالٍ من الأغاني الناجحة التي تقدمها. لكن مع مرور أيام التصوير، بدأ قلقها يزول بالتدريج. ثم كانت الشهادة التقديرية التي حصلت عليها من الجمهور الواعي الذي أُعجِبَ بدوريها الجديدين. فقد كان الفيلمان بداية لمرحلة جديدة في حياة شادية، انتقلت فيها من الأدوار الخفيفة إلى الادوار الجادة الكبيرة في التراجيدية المؤثرة. من هنا كان اتجاهها لأدوارها الأخرى ذات القيمة الفنية الكبيرة مثل دورها في فيلم "موعد مع الحياة" إلى جانب فاتن حمامة ودورها فيما بعد بفيلم "المرأة المجهولة"، وكان هذا التحول أحد الجوانب الإيجابية في حياتنا الزوجية.


لقد عشنا معاً النجاح المشترك. وكان شيئاً رائعاً، أن أنجح أنا وأن تنجح زوجتي ليصبح نجاحنا المشترك قوة لنا نحن الإثنين معاً.لكن الحب الزائد عن الحد سلاح ذو حدين. وفجأة، توقف قطار الرحمة، قطار السعادة. توقف في منتصف الطريق قبل الأوان، قبل أن يصل إلى محطتة الأخيرة. فأقسي شيء هو أن يضطر المسافر للتوقف في منتصف الرحلة ان ينزل في محطة لا يرغبها، أن ترسو سفينته في ميناء لا يتوقعه وعلى شاطئٍ موحش لا يميل للنزول الاضطراري فيه. ولقد كان الأمر مؤلماً ومحزناً. لكن هذه القرارات تكون أحياناً ضرورية لاستمرار الحياة.
فأنا ما زالت أذكر لقائي الأول مع شادية داخل قطار الرحمة المتجه إلى أبعد بلاد الوجه القبلي في المحطة الأولى. وتعارفنا في المحطة الثانية، وإعجابنا في المحطة الثالثة. وعندما شعرت بحاجتي قلت أنه موعدي مع السعادة وتركت زوجتي الأولى أم نادر ليس لأن الزوج الذي له أولاد يتخذ قرار الإنفصال عن زوجته بسهولة ودون ألم، بل بالعكس، لقد كان أصعب قرار اتخذته. لقد اعتبرته تضحيةً كبرى. فقرار الإنفصال إذا لم يكن صحيحاً يدمر صاحبه. فلقد كانت حياتي مستقرة مع زوجتي الأولى فتحية شريف. وكان كل شيء هادئاً حتى ظهر ذلك القطار العجيب قطار الرحمة الذي هزني حتي الأعماق وزلزل روحي.

إنفصالٌ جديد
لكني لم أكن أنتظر النهاية بمثل تلك السرعة الخاطفة. فبعد ثلاث سنوات فقط، كنت أتصور أني سأقضي بقية سنين العمر إلى جانبها في عامى1956 أثناء الإعتداء الثلاثي على مصر، حدث الإنفصال بيننا. وكتبت الصحف وقتها كلاماً كثيراً. قالوا أن الغيرة هي السبب، قالوا وقالوا...، لكن هل تُعتَبَرغيرة الزوج على زوجته جريمة؟ التفاصيل في الحلقة القادمة.

ملاحظة: تتابع إيلاف نشر سلسلة المذكرات الشخصية للفنان الراحل "عماد حمدي" تباعاً ويومياً حتى الحلقة الحادية عشر. علماً أنها عملت جاهدة على الإختصار لمدوناته الطويلة. 
(يمكنكم قراءة الحلقات السابقة عبر النقر على عناوينها إلى الشمال أعلاه تحت عنوان "مواضيع ذات صلة")