إيلاف من القاهرة: تسلط إيلاف الضوء على مسيرة الفنان العالمي الراحل عمر الشريف من خلال استعراض مقتطفات من سيرته الذاتية التي كتبتها الصحفية الفرنسية ماري تيريز جينتشار ونشرت تحت عنوان "الرجل الخالد في منتصف عام 1975 حيث تحدث بصراحة عن أمور كثيرة في حياته.

الولادة والنشأة
ولدت في العاشرة من أبريل 1932، فأنا من مواليد برج الحمل وتحت تأثير برج الميزان، وقد رأيت النور في مدينة الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة التي خلفت المزيد من الذكريات الحلوة للذين عبروا أرضها طوال الأجيال، الإسكندرية بمنارتها التي تشع بالضوء، فتهدي السفن البعيدة، الإسكندرية التي طالما غمرت العالم بضوء المعرفة بواسطة مكتبتها القديمة التي كانت تضم أكثر من ستة الاف مليون من المخطوطات القيمة علي لفات ورق البردي قبل أن تلتهمها نيران غادرة، المدينة التي حفرت في بطن رمالها قبل مئات السنين القنوات التحتية لتنقل ماء النيل العذب الي قصورها التاريخية، فوق تلك الارض التي ورثت عن الإغريق أرقى ما في حضارتهم، عاش والدي رجل الاعمال الناجح الذي ينحدر من أصل لبناني سوري، وهي حياة رغدة في الغالب بعيدة عن التعقيد.
كان مركز والدي ورصيده يسمحان له بأن يؤم تلك النوادي الكبري التي تتردد عليها علية القوم، وهي نواد ذات طابع انجليزي وتقاليد انجليزية، لأن اغلبها اقيم أصلا بمعرفة الانجليز من بينها نادي سبورتنج الذي يشتهر بأراضي الجولف وملاعب الكريكت، وهناك نادي السيارات الملكي حيث اعتادت النخبة تناول الطعام على أنغام الموسيقي، أما نادي محمد علي فكان اقرب الي النوادي الخاصة المغلقة، ولعل من أسباب تضييق دائرة أعضائه أن الملك السابق فاروق كان يلعب الورق علي موائده كل ليلة، وبمبالغ طائلة حتى لو كانت اللعبة الكونكان، مائدة اللعب الواحدة كانت تضم ليلاً من تتشعب بهم الدروب صباحاً، الملك وكبار الانجليز العائلات الكبيرة ورجال الأعمال اللبنانيين والسوريين المسلمين والمسيحيين.
وسط هذه المجموعة كانت أمي نجمة متالقة، أحوال ابي كان يرعاها نجم سعد وبالتالي كانت مسيرته الى فلك وازدهار وكان مستوى معيشتنا يرتفع مع كل صفقة جديدة رابحة، أمي تسعد اكثر من غيرها بما يحققه ابي من مكاسب لانها كانت تحصل على نصيب منه فتلعب اكثر واكثر.
وبدات ظروفنا الجديدة التي تتحسن يوماً بعد يوم، تدفع بأمي الي مخالطة النخبة ومعاشرة الطبقة الارقى، وساعدها في هذا أن تلك الفئة تقامر أكثر من غيرها، وأنا أرى أمي اليوم بنفس الصورة التي كانت عليها من قبل وهي صورة قريبة جدا مما كانت عليه ممثلات السينما في الثلاثينيات، الطول المتوسط والجسد الملئ في غير ترهل، أما سحرها ومكمن جاذبيتها فكان شعرها الطويل الضارب الى الحمرة.
وككل حمراء الشعر كان على أمي أن تدفع ضريبة، والضريبة هي حبات النمش التي تملا بشرة الوجه، وهي قلما تنال من وجه جميل إلا ان البعض يتضايقن منها وأمي كانت من هذا البغض، فقد حاولت ذات مرة أن تزيل النقاط الميالة الى الأسود والمتناهية في الصغر فلجأت الي خبيرة تجميل قامت بكي كل واحدة من النمش على حدة ولكنها تعذبت كثيرا، بعدها خلفت كل نمشة ندبة صغيرة وراءها من اثار الحروق وتطلب الامر وقتاً طويلاً حتى عاد الوجه الى صفائه. وهي أيضاً كانت أنيقة ... جذابة ... حلوة الكلمة تعرف متى تتكلم ومتى تلوذ بالصمت، وتعرف ايضاً ماذا تقول ومتى تقوله، ومتي تصفع الجميلة أو تدعمها بنظرة عين أو رفة جفن.
أما أبي فكان طويلاً رشيقاً وبالرغم من أنه لا يزيد عني في الطول إلا بمقدار نصف بوصة، إلا اني لم اعتبر أبداً من طوال القامة، في حين كانت النظرة إليه دائما على أنه كذلك. وانا أعتقد ان المسالة تقديرية تختلف من نظرة الى اخرى ومن شخص الى اخر، وشعر أبي كان اسود قبل ان يزحف البياض إليه مع السنين، وقبل ان تزيد نفس تلك السنين من وزنه بطريقة كانت تفقده رشاقته المعهودة، ولكنه كان رجلا طيبا للغاية.
تعلم أبي في مدارس الفرير ودرست أمي عند الراهبات ومن هنا ترسبت في نفسيهما تقاليد موحدة وقوية وظلا مرتبطين دائما بذلك الوشاح القوي الذي يتولد عن التربية الدينية ويجعل المثالية هي القبلة والمسلك القويم هو الطريق المختار ولم يحدث أبدا أن سمعت أبي يتلفظ مرة واحد بلفظة نابية، كما لم يحدث ان اغتاب والدي أحداً، فقد كان كل منهما ملتزما بالمبادئ القويمة في قوله وتصرفاته.
وبالرغم من أن حرفة أبي هي التجارة وهو ميدان قد يتطلب أحيانا المداهمة أو المراوغة وربما الكذب، إلا أنه نأي بنفسه عن كل هذا حتى أدى به الأمر إلى الخسارة في واحدة من الصفقات، أما أمي فكانت أكثر لينا من أبي وتفهما، في حين أن ذكاءها يتجاوز كل حد، ولم يكن من السهل علي وأنا صغير وحتى بعد أن كبرت أن أحاورها أو أكذب عليها أو أضللها على عادة الأبناء، فقد كانت نظرة واحدة من عينيها في أعماق عيني، تكفي للكشف عن كل ما يدور بخاطري، وكان علي والحالة هذه أن أحالفها وأهادنها بدلاً من أن أحاول التغلب عليها لأن الأمر الأخير صعب جداً.
كنا في الإسكندرية نعيش في منزل صغير من طابقين بضاحية كيلوباترا الحمامات وقد طاب لي ان أزوره مؤخراً، فوجدته على حاله وأن بدت على جدرانه بعض التجاعيد. كانت حياتي في ذلك البيت بل في الاسكندرية كلها وادعة سعيدة هنية، أبداً لم يحرمني أبي من شئ، ولم تكن أمي تضن علي بطلب مهما غلا، ومن هنا شببت بلا حرمان وربما بلا عقد، فقد شعرت دائما إني اسبح في بحرين، بحر الاسكندرية الأزرق الصافي المياه وبحر الحب الاعمق والاقل تعرضا للأنواء.

وانتقلنا إلى القاهرة 
كنت في الرابعة من عمري عندما قرر أبي أن ينقل مركز عمله الرئيسي إلى القاهرة ، وانتقال تجارة أبي إلى العاصمة وانتقالنا معها بالتالي يضع أكثر من علامة هامة في دفتر حياتي، ففيها بدأنا نصعد السلم الاجتماعي درجات ودرجات، وكانت العلامات المحسوسة لهذا الصعود هو انتقالنا من بيت إلى آخر أكبر وأفخم، سكنا في البداية في عمارة من اثني عشر طابقا ثم انتقلنا الى أخري أكبر وأحدث وأغلى. 
وتحول أبي من تاجر ناجح إلى تاجر ثري جداً، والثروة التي هبطت عليه أغلبها إبان الحرب العالمية الثانية، فإذا كانت ظروف الحرب قد جعلت ميدان تجارة الأخشاب شبه راكدة لفترة غير قصيرة، فإن ابي بذكائه وخبرته عرف كيف يحول نشاطه بصورة مؤقتة إلى ميدان آخر وفير الكسب، اتجه أبي إلي المخلفات التي تبيعها القوات المتحالفة وخاصة الانجليز وأمكنه أن يشتري كمية هائلة من الأسلاك الشائكة المستغنى عنها وبسعر متهاود وقد حول أبي السلك إلى مسامير صغيرة للأحذية، ومتوسطة للخشب، وطويلة لأغراض آخرى، وامكنه بالتالي أن يسد نقصاً كبيراً في السوق وأن يجني أرباحاً طائلة مرة آخرى.
غيرنا السكن إنتقلنا في هذه المرة إلى فيلا مستقلة تحيط بها حديقة كبيرة تطل على النيل، وكانت الفيلا في أرقى احياء القاهرة جاردن سيتي، وفي أجمل بقعة منها بين سفارتي إنجلترا وأميركا.
أبي كان يكسب كثيراً وأمي كانت تخسر كثيراً، كانت تنفق المبالغ الطائلة، بعضها صرفته على إعادة تأثيث الفيلا بصورة أقرب إلى الكازينو منها إلى المسكن العائلي، والبعض الأكبر كانت تلتهمه موائد القمار وكان رفاق اللعب كثيراً ما ينقلون النشاط إلى بيتنا في الفترات التي تغلق فيها النوادي بسبب الأجازات، وكان في مقدمة هولاء الرفاق الملك فاروق.
ورغم مرور عشرات السنين فلازالت صورته أمام عيني، أتذكره، تصرفاته بعيدة عن الكياسة، مفلوت اللسان، وربما كانت الظروف هي التي صبته داخل ذلك القالب الذي لم يكن ليرضي الكثيرين فقد تولى العرش وهو أقرب إلى الحدث منه إلى الرجل الناضج، حل محل أبيه فؤاد الأول في حكم مصر بعد وفاة الأب وهو لايزال في السادسة عشرة من العمر، وبالرغم من أنه تلقى تربية قوية في إنجلترا إلا أن صغر سنه سرعان ما حوله إلى عجينة طيعة في يد بعض المنحرفين من رجال الحاشية والبطانة. فقد رأوا في إشباع رغباته والخضوع لنزواته أقصر الطرق إلى النفوذ والإستغلال.
صبي في السادس عشرة لا يمكن أن يصمد طويلاً أمام دوامة الإغراء خاصة إذا كان هذا الصبي يملك الكثير مما لا يملكه غيره، الدوامة اجتذبته الى حافتها، ثم إلى اعماقها، وانتهت به الى قاعها.
واذكر أنه في أول مرة حضر فيها الي منزلنا وكان ذلك بناء على دعوة وجهتها إليه أمي، أذكر انه كان يقضي بعض الوقت على مائدة الطعام يأكل بشراهة، ينتقل بعدها إلي طاولة اللعب فيقامر بجنون، ثم يعود ثانية إلى مائدة الطعام، وهكذا طوال السهرة التي لم تكن تنتهي إلا مع شروق الشمس. 
وكان يحلو لفاروق أن يقدم السيجار الطويل الفاخر إلى والدتي، ولم يكن في وسعها أن ترد هدية ملكية، فكانت تضطر مرغمة أن تشعله وتجذب منه النفس بعد الآخر وفي كل مرة تسعل بشدة ويبدو أن فاروق كان يعرف جيداً اثر السيجار على والدتي، فكان يصر على أن يقدمه لها لأنه كان يلذ له أن يراها تسعل.