"إيلاف" من القاهرة: لمناسبة ذكرى وفاته، تلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان الراحل عماد حمدي الذي لُقِّبَ بـ"فتى الشاشة الأول" لأكثر من 20 سنة، من خلال عرض مذكراته التي صدرت بتوقيع الناقدة إيريس نظمي قبل أكثر من 3 عقود، علماً أن الراحل سجلها قبل وفاته.
وفي الجزء السابع يتحدث عن سبب الطلاق بينه وبين الفنانة شادية وكيف تسبب "أولاد الحلال" في الإيقاع بينهما، بالإضافة إلى المشاكل النفسية التي تعرض لها بعد انفصاله عنها بسبب حبه الشديد لها رغم أن زيجتهما استمرت فقط ثلاث سنوات.

الغيرة القاتلة
إن غيرة الزوجة علي زوجها أوغيرة الزوج علي زوجته شئ طبيعي وعادي لا يستحق كل تلك الدهشة. ولا أريد أن أخوض كثيراً في الأسباب التي دفعتنا إلى الطلاق بعد زواج ثلاث سنوات فهذه أمور تخص الزوجين وحدهما ومن حق كل انسان أن يحتفظ بتفاصيل حياتة الخاصة المهم أن الطلاق قد حدث.
وظلت الصحف تكتب كثيراً عن حكاية طلاقنا وكأنها لا تجد أي حكايات أخرى تتحدث عنها دون مراعاة لمشاعري الخاصة وحالتي النفسية التي ساءت جداً بعد انفصالي عن شادية. ولولا الصيد لكنت قد أصبت بأخطر الأمراض. لكن، هواية صيد السمك كانت منقذي الوحيد. وذلك لأن صيد السمك ينسي المرء همومه ويقضي علي الشعور بالوحدة، الصياد دائما في حالة انتظار وهو في حاجة باستمرار إلى قدرٍ كبير من التركيز الذهني حتي لا يفلت الصيد في لحظة شرود. فالذي يصطاد السمك يتعلم من البحر التأمل والصبر بالإضافة إلى أن الهواء المتجدد ينعش روحه المعذبة خاصةً إذا كان قد خرج من أزمةٍ نفسية غير عادية.


صيد السمك
وبعد انفصالي عن شادية ركبت سيارتي واتجهت إلى الاسكندرية والقيت بهمومي وأحزاني وسط ذلك البحر الذي ليس له نهاية لقد أفادني الصيد كثيراً في أزماتي العاطفية وخاصةً في الأيام التي أعقبت انفصالي عن شادية. والحقيقة أني أخذت هواية صيد السمك عنها. فهي كانت قد ارتبطت بهذه الهواية منذ كانت طفلة صغيرة تعيش مع والدها في أنشاص وحول البيت الذي عاشوا فيه هناك كانت توجد الترع وتنتشر بكثرة. ومن هنا تولدت هذه الهواية في نفسها وعندما تزوجتها كانت تمارس هواية صيد السمك وأصبحت أخرج معها لأشاركها هذه الهواية لدرجة إني أصبحت مرتبطاً بها أكثر منها. والغريب أن تعلقها بتلك الهواية بدأ يتضاءل في الوقت الذي ازداد تعلقي أنا بها لتصبح هوايتي الأولى المفضلة، هي تنساها وأنا اعتبرها خلاصي، فهي علمتني فن الصبر، فن صيد السمك.

لكن يجب أن اقول الحقيقة شادية لم تكن أبداً مادية. ليست من اللاتي يجرين وراء الماديات. لقد كانت المشاعر الإنسانية الصادقة أهم عندها من كل شيء. شادية إنسانة خجولة – لكن تنقصها الجرأة وهذا ما يسبب لها أحيانا بعض المتاعب. شادية إنسانة يحبها من يعرفها. صوتها هادئ ورقيقة بطبعها. تلك هي الحقيقة التي لا أستطيع إخفاءها او إنكارها، لقد افترقنا. لكني لا أحمل لها أي حقد أو ضغينه بل أحتفظ لها بكل التقدير. 
توقف قطار ما بعد منتصف العمر في محطة الفراق وأطلق صفارة الوداع. واندفعت طيور الفرح مذعورة مهاجرة إلى أرض الأحزان البعيدة بحثاً عن النسيان لعلها تجد هناك السعادة المفقودة والأمل الضائع مع العمر الذي يسرع خطاه بغير تمهل او انتظار. وأقولها صريحة: لقد اكتشفت الحقيقة في وقتٍ متاخر كما يحدث دائماً بعد فوات الاوان، كان أولاد الحرام وارء انفصالنا سامحهم الله.


الهروب إلى العمل
في الحقيقة، لم يكن الصيد لساعاتٍ طويلة الدواء القوي للشعور بالوحدة. ولم يكن التعويذة السحرية التي توصلني لطريق النسيان. لقد كان من الطبيعي أن لا أقضي كل وقتي في الصيد مع الأسماك. فالحل السليم الوحيد هو الإنهماك في العمل والاإشغال بأدوار وأفلام جديدة. فالعمل الفني متعة ويُنسي الهموم الشخصية. لقد حاولت أن أعود من جديد إلى عالمي الذي أجد نفسي فيه في الاستديوهات، والبلاتوهات. فأنا أكاد أذوب في الشخصيات التي أؤديها. أنفعل بحياتها وأعيش مواقفها. فانسى مؤقتاً همومي الخاصة. وأعود آخر الليل مرهقاً لانام وأصحو في الصباح التالي لأعيد الدورة من جديد لأدور من جديد في دائرة النسيان.

كانت عودتي إلى الاستديوهات ثقيلة في بداية الأمر. لكني تماسكت لم تهزني النظرات الشامتة ولا الإبتسامات الصفراء. لم أتاثر بكلمات الحاقدين الشامتين ومضيت متفانياً في أداء أدواري الجديدة التي بدأت تاخذ طابعاً جديدا مختلفاً. لقد ظللت "الفتى الأول" لفترةٍ طويلة أمام فاتن حمامة ومديحة يسري وشادية وبقية ممثلات السينما المعروفات. "فتى أول" من نوعٍ مختلف. "فتى أول" في الأربعين لديه وقار الكبار. لا يعتمد على صغر سنه وجمال ملامحه. أذكر مثلاً دوري في فيلم "بين الاطلال" الذي أخرجه عز الدين ذو الفقار وشاركتني في بطولته فاتن حمامة. وهو من الأفلام التي حققت نجاحاً خرافياً ولم يقل أحد أن الدور لم يكن مناسباً لي لأن الشخصية تمرّ بمراحل مختلفة بطريقة مقنعة، وأثناء تصوير ذلك الفيلم توثقت علاقتي بالضابطين السابقين عز الدين ذو الفقار ويوسف السباعي. 


إتصال السباعي
لم أكن قد التقيت بيوسف السباعي من قبل وأذكر ذات يوم وبينما كنا نستعد للبدء في تصوير فيلم "إني راحلة" دق التليفون ورفعت السماعة وسمعت صوتا مهذبا حاولت أن أميّزه لكنه كان صوتاً غير مالوف بالنسبة لي. قال: إزي الصحة؟ أجبت: الحمدالله؟ فأردف: أنا يوسف السباعي. فقلت: أهلا وسهلاً فرصة سعيدة. فأردف: أنا سعيد لأن انت بالذات اللي هتمثل دور البطولة مع الفنانة مديحة يسري اختيار سليم فعلا، ايه رايك نتقابل؟ قلت: بعد التصوير. فسارع مجيباً: لا قبل التصوير والأفضل أن نلتقي اليوم، عايز أتكلم معاك عن شخص رواية "إني راحلة" خصوصاً الشخصية اللي هتمثلها إنت بالذات ضروري أشوفك.
شعرت بالدهشة فلم يكن مألوفاً في ذلك الحين أن يطلب مؤلف القصة بطل الفيلم ليتحدث معه عن دوره في الفيلم قبل البدء في التصوير. وتكرر نفس الموقف عندما بدأنا نستعد لتصوير فيلم بين الأطلال. فذهبت إليه وظل لساعاتٍ يُحدثني عن البعد السينمائي لشخصية البطل التي سأؤديها وعن تفاصيل الرواية كلها. وأثناء التصوير جاء إلى الاستديو أكثر من مرة ليشاهدنا ونحن نقدم أعماله الأدبية علي الشاشة. كان حريصاً على عمله. ليس هدفه فقط أن يوقع العقد ولا يهمه فقط أن تظهر روايته على الشاشة. كان يهمه أولا أن تظهر على الشاشة بالصورة اللائقة التي يتمناها. والحقيقة أنه كان لطيفاً في إبدائه لملاحظاته حتى عندما كانت له بعض الإنتقادات التي كان يقدمها هامساً كما يفعل المهذبون. وكدت لا أصدق أنه كان ضابطاً في سلاح الفرسان. فالضباط عادةً بحكم حياتهم العسكرية يكونون جادين أكثر من اللازم إلى حد الغلاظة، لكن "السباعي" أخذ من الأديب الفنان رقته وأدبه وإنسانيته. فكان رجلاُ رقيقا وأديباً كبيراً. كان يشعر نحوي بالإرتياح وأنا أيضاً كنت أبادله نفس شعور الإرتياح.

دموع ولدي نادر
المهم أن "بين الأطلال" حقق نجاحا كاسحاً. ولا أنسى أبداً تلك الليلة التي ذهب فيها إبني نادر إلى دار سينما ديانا ليشاهد الفيلم الذي أظهرني في مشهده الأخير وانا أحتضر وأموت وفجأة ووسط الصمت المخيم على دار السينما، ومن شدة التأثر سمع الجمهور صوتاً يصرخ: "لا لا بابا ماماتش بابا ماماتش"! وكان ابني نادر هو الذي يصرخ. فبعدما رأى والده يموت على الشاشة ظنها الحقيقة بحكم صغر سنه. وحاول الحاضرون أن يهدأوا من روعه، وأن يفهموه بأن ما يراه علي الشاشة ليس إلا تمثيلاً. لكنه لم يصدق ولم يتوقف عن البكاء إلاعندما رأني عائداً إلى البيت، فصرخ من الفرح وراح يقبلني ودموع الفرح تسيل على خديه.

 

صورة نادرة لابنه نادر
صورة نادرة لابنه نادر

 


وداع الفتى الأول
ولقد لاحظت فجأة أنني لم أعد شابا كما كنت الشعرات البيضاء تسللت الي رأسي التجاعيد، أصبحت واضحة فوق وجهي لكن المخرجين لم يقتنعوا بذلك وظلوا يصرون علي ترشيحي لأدوار الرجل العاشق الذي تهواه النساء وكان لابد أن أقول Stop. وقلت لنفسي: لقد مضى زمن "الفتى الاول" لا أريد أن أؤدي بعد الآن أدوار "الفتى الأول" على الشاشة. 
كنت أستطيع أن أذهب للخارج، لأجري عملية شدّ وجه في إنجلترا بالذات. حيث يتم هناك ببراعة إخفاء تجاعيد الوجه وبصمات الزمن الواضحة. كنت أستطيع أن أخفي شعري الأبيض بصبغة سوداء لن تكلفني أكثر من بضعة قروش. ولكن ما قيمة ذلك كله، ولماذا نقف ضد حركة الطبيعة ومنطق الأشياء. وكنت أحاور نفسي فأقول: من الصعب أن تعترف المرأة بأنها دخلت مرحلة الشيخوخة، والنساء لهن أعذارهن المقبولة. ولكن لماذا يفعل الرجل ذلك وماهي اعذاره، وما معني أن يخفي الرجل حقيقة عمره؟ ولماذا يتوارى خلف الأصباغ التي لن تنجح في خداع الآخرين؟ ماذا سيقول عني الجمهور الذي ظل يراني على الشاشة منذ ما يقرب من عشرين عاما. وماذا سيقول عني وهو يراني متمسكا بأدوار "الفتى الأول" التي لم تعد تناسبني. بالطبع سيسخر الجميع مني، فلماذا أجعل نفسي أضحوكة في أعينهم؟ و لماذا أبدو متصابياً. فالناس لن يصدقوني في تلك الحالة. وعندما لا يصدق الناس ممثلاً، تكون قد أتت نهايته. لقد شعرت بأن أحاسيسي ستكون مزيفة مصبوغة مثل شعري ومشدودة مثل جلد الوجه. فقلت: لالا لن أصبغ شعري ولن أشد جلد وجهي. سأبقي كما أنا بدون إدخال أي تحسينات أو تعديلات. فإلى متي سأظل أقول للبطلة "شايفة القمر يا ليلى"؟ وهذا لا يعني أني اخجل من أدواري التي أديتها في تلك المرحلة. بل بالعكس. فأنا أعتز بدوري في فيلم "أقوى من الحب" وأدواري في "شاطئ الذكريات" و"ليلة من عمري" و"إني راحلة" و"بين الاطلال"، وكيف أنسى فيلم "موعد مع الحياة" كيف أنسى الموقف العجيب الذي تعرضت له أثناء تصويره. 

عمادي حمدي ويوسف السباعي

اللحظة المُخجِلة
كان البعض يتصور إني سكير كبير بل وتمادوا في تخيلاتهم وتصوروا إني من مدمني المخدرات أيضا، قد يكون السبب اني ظهرت كسكير في بعض أفلامي لكن ذلك ليس صحيحاُ تماماً فليس شرطا أن يكون الممثل حشاشاً حتي يستطيع أن يعبِّر عن إنفعالات شخص يدخن الحشيش. فأنا لا أنكر أني أتناول بعض المشروبات الكحولية، ولكن ليس للدرجة التي تفقدني وعيي.
وحدث مثلاً ذات مرة أن رشحني المخرج عز الدين ذو الفقار لأداء دور أمام فاتن حمامة في فيلم "موعد مع السعادة" وكان المفروض أن أبدو سكيرا في بعض مشاهد الفيلم ولم أكن سكيراً في الواقع. بل كانت المرة الأولى التي سأودي فيها دور السكير الذي يفقد وعيه تماماً وينسى كل تصرفاته. وفكرت أن أجرب بنفسي أن اتناول الشراب بنفس أحاسيس السكران وحتي أؤدي دورالسكير علي الوجه الأكمل وبالفعل أحضرت زجاجة ويسكي وظللت أشرب وتصورت إني قد أصبحت في الفورمة وإني بهذه الطريقة سأعرف كيف اؤدي دور السكير بأفضل صورة، سأعرف كيف أندمج في الدور اندماجاُ كاملاُ وكانت أفلام عز الدين ذو الفقار مشهورة بالحوارات الطويلة فجمل الحوار فيها ليست قصيرة سريعة بل معظم المشاهد طويلة. 

المهم أن وقت التصوير كان قد حان وأنا في غاية الاندماج ليس في التمثيل ولكن في تناول الويسكي ووقفت أمام الكاميرا وكان المفروض أن أقول الحوار الذي كان مكتوباً في ثلاث صفحات ولم أتذكر كلمةً واحدة. حاولت أن أسترجع ما قرأته وحفظته ولكن بلا جدوى. ضاع الكلام من ذهني وأصبح لساني ثقيلاً بطيئاُ في حركته. وحاولت أن أندمج ولكن بلا فائدة وتطلع نحوي المخرج عز الدين ذوالفقار مندهشاً. وسألني: إنت شارب. قلت : أيوه. فسألني مجدداً : ليه؟ أجبت:علشان أندمج في الدور! فقال لي: وعايز تمثل! قوم قوم روح علي البيت بكرة تجيلي فايق.
وخرجت من الاستديو وأنا غارق في خجلي وعرقي. كان منظري يدعو للرثاء. وكان درساً لا أنساه أبداً.
في الحلقة المقبلة، يسرد "حمدي" قصة اللقاء مع نادية الجندي و قصة حبه لها.

ملاحظة: تتابع "إيلاف" نشر سلسلة المذكرات الشخصية للفنان الراحل "عماد حمدي" تباعاً ويومياً حتى الحلقة الحادية عشر. علماً أنها عملت جاهدة على الإختصار لمدوناته الطويلة. 
(يمكنكم قراءة الحلقات السابقة عبر النقر على عناوينها إلى الشمال أعلاه تحت عنوان "مواضيع ذات صلة")