"إيلاف" من القاهرة: لمناسبة ذكرى وفاته، تلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان الراحل عماد حمدي الذي لُقِّبَ بـ"فتى الشاشة الأول" لأكثر من 20 سنة، من خلال عرض مذكراته التي صدرت بتوقيع الناقدة إيريس نظمي قبل أكثر من 3 عقود، علماً أن الراحل سجلها قبل وفاته.
وفي الجزء التاسع يتحدث عن تواجده في بيروت إبان نكسة 1967 وحصوله على أموال كثيرة في وقت أغلقت فيه البنوك أبوابها. ويسرد خسائره المالية وبزواجه وطلاقه من نادية الجندي.

أيام بيروت
ويتابع "حمدي" سرده للذكريات فيقول: بيروت الجميلة، بيروت حياة والفن والجبل، السهر والأصدقاء والصخب وراحة النفس والأعصاب. وعثر لنا الصديق اللبناني على شقةٍ مريحة أقمنا فيها وأعطاني عربون قدرة خمسة آلاف ليره لبنانية. ولكن بعد أيام، اختفى هذا الصديق اللبناني. سألت عنه في أماكن تواجده وأخيراً عرفت أنه سافر بعيداً عن لبنان. فتعجبت أنه لم يخبرني. ولكي أطمئن نفسي، قلت ربما يكون سفره طارئاً ومفاجئاً وحتما سيعود. لكن بعدها بيوم أو يومين، اتصل بي المنتج طنوس فرنجية وقال لي، نحن علي استعداد لعمل فيلم سينمائي جديد ووجودك هنا ووجود مجموعة أخري من الفنانين المصرين في بيروت فرصة لكي نستفيد بطاقاتكم الفنية هل عندك مانع؟، قلت لا. فالمهم أن يكون العمل السينمائي معقولاً. وفهمت منه أن الفنانة سميرة أحمد ومحمد سلمان مرشحان للعمل في نفس الفيلم وعرفت أيضا أن منتجه أمير سعودي. 
وفي اليوم التالي كان اللقاء مع محمد سلمان الذي قال لي سنبداُ بعد ستة أيام تصوير الفيلم الذي سيموله سمو الأمير ولم يكن كلامه مجرد وعد عابر بل أعطاني عربوناً وأعطى نادية الجندي أيضاً عربوناً مقابل اشتراكنا في بطولة ذلك الفيلم المنتظر.

مفاجأة بائع الصحف
وبدأت أتهيئ نفسياً للعمل ومرّ اليوم الاول من شهر يونيو ثم اليوم الثاني والثالث والربع ولم يعد باقيا سوى يومين فقط لنبدأ بعدهما تصوير الفيلم الذي ينتجه سمو الأمير السعودي. ولكن ذات صباح استيقظت فجأةً من نومي علي دقات على باب الشقة. ولقد كانت دقات قوية لحوحة عصبية. فسألت نفسي: من يكون ذلك المزعج الذي يدق بابنا في هذا الوقت المبكر. وفتحت الباب ووجدت أمامي بائع الصحف وقبل أن ألومه على ذلك الإزعاج غير المبرر قال بصوتٍ مرتعش: "ستاذ..أستاذ.. أنت نايم ومش دريان، قلت مندهشاً: دريان بإيه، أجاب: بالنكسة! سألته: نكسة إيه؟ فقال: اللي حصلت في بلدكم في مصر!
وطار النوم من عيني. حاولت أن أتماسك، لكن ما سمعته من بائع الصحف كان حقيقة عرفتها كل الدينا. إنه شعور مؤلم أشعرني بالعذاب. فذلك اليوم لازمني كإنسان شعر أن بلده في خطر، في محنة، وهو بعيد لا يستطيع أن يفعل شيئاً. لقد كنت أعيش شعور العاجز الذي يكتفي بقراءة وسماع الأخبار المؤسفة وبتوجية الدعوات المخلصة، لعل الله ينقذ بلاده العزيزة من كل شر ومكروه.

تداعيات النكسة
فجأة تحولت بيروت الجميلة إلى مصيدة، إلى غرفة انتظار لا أستطيع أن أغادرها. وقد تأثرت الحياة في لبنان بما حدث في مصر وبدأنا نشعر بالآثار المترتبة على نكسة عام 1967. فقد صدر قرار بأنه ليس مسموحاً لأي لبناني أن ينفق كل يوم سوى مبلغ محدد. ورغم أن لبنان بلد البنوك والتعامل بالشيكات، أصبح التعامل مع البنوك والحياة الاقتصادية كلها تحت تأثير ما حدث في مصر. الإنفاق لم يعد كما كان وحتى إصدار الشيكات فقد قيمته لأن السيولة النقدية تأثرت. أصبحت الأموال مكدسه في البنوك. وخروجها من البنوك لم يعد سهلاً. وفجأة شعرت بأنني أصبحت من الأثرياء. من كبار الأغنياء في بيروت. لقد أصبحت أغنى من الأمير السعودي نفسه منتج الفيلم الذي يمتلك أموالاً طائلة في بنوك لبنان، لكنه غير قادر على إخراج الأموال من البنوك بسبب الظروف المُفاجِئة التي حدثت بعد النكسة التي حدثت في مصر، بينما أنا أمتلك وحدي ألوف الليرات في جيبي عربون فيلمين. لكني كنت أنفق بحذر لأني أرى أمامي الاثرياء يستدينون ولا أحد يعرف متى ستنتهي تلك الظروف الإستثنائية التي جعلت الجميع غير قادر علي مغادرة بيروت وغير قادر أيضاً على صرف أمواله من البنوك. وزاد من تعقيد الأمور فرض حظر التجول. وهل لبيروت معنى بدون تجول، بدون حركة، بدون لقاءات وزيارات، فعدت بعدها إلى القاهرة.

العودة إلى القاهرة
وعدت أفكر في الإنتاج السينمائي كنت قد أنتجت فيلمين لشادية "شاطئ الذكريات" و"ليلة من عمري". وليس غربياً أن يفكر الزوج في إنتاج فيلم لزوجته. فما المانع إذا كانت زوجته ممثلة اختارت فن التمثيل. وهكذا بدات أستعد لإنتاج فيلم "بمبة كشر" لزوجتي نادية الجندي. وهو فيلم إستعراضي غنائي من إخراج حسن الامام يتطلب نفقات غير عادية مجاميع راقصات مغنيات استعراضات وملابس وديكورات تختلف عن ملابس وديكورات الأفلام العادية.

خسائر وأرق
ولم أبخل بشيء. فقد كنت أريده فيلماً استعراضياً ناجحاً. وحتى أتحاشي متاعب الضرائب كتبت الفيلم باسمها لقد بلغت تكاليف انتاج فيلم بمبة كشر أكثر من خمسين ألف جنيه. وأصبح معروفاً أنه من إنتاج نادية الجندي. لقد كان اتفاقنا أن تاخذ هي نسبة معينة من الإيرادات، والمفروض أن الثقة موجودة في اتفاقات الأزواج. فلم أتوقع أنه من الضروري أن يكتب الزوج أوراقاً ويحضر شهوداً بعقدٍ مع زوجته. فقد كان اتفاقاً بين زوج وزوجته لا يحتاج لكل تلك الإجراءات التي تُتخذ عادةً بين الغرباء. وبدأ العرض وحقق نجاحاً كبيراً واستمر عرضة لأسابيع عديدة وحقق إيرادات معقولة. والحقيقة أن فيلم "بمبة كشر" هو الذي قدم نادية الجندي للناس كبطلة للفيلم الإستعراضي تجيد الرقص والغناء والتمثيل. ورغم أن ذلك هو الذي صنع اسمها ودفعها في طريق الفن خطواتٍ واسعة، ورغم ذلك كلة لم آخذ مليماً من إيرادات الفيلم الذي أنتجته باسم زوجتي وأردت أن أتحاشى متاعب الضرائب فخسرت كل شيء. وصدقوني لم أحزن بسبب خسارة المال، فالمفروض أن يضحي الزوج من أجل زوجته وأن يفعل ما يريحها وما يساعدها على تحقيق النجاح الذي تريده. لم أكن نادماً على ما أنفقته طالما أن الفيلم قد نجح وحقق الهدف وطالما أني قدمت خدمةً لزوجتي التي اخترتها أثناء عملي في فيلم "زوجة من الشارع" ولكن تجربة إنتاج فيلم "بمبة كشر" تركت في نفسي آثارا لايمكن إزالتها أبداً.
وهناك تفاصيل أخرى لا أحب أن أخوض فيها. لكن كل تلك الظروف بالإضافة إلى الفارق الكبير في العمر جعلت الخلافات تنشأ بيني وبين نادية الجندي التي عشت معها أطول فترة زواج، وهي ثلاثة عشر عاماً. لكن الحقيقة هي أن الاستمرارية لم تكن موجودة. فلقد انتهى العمر الإفتراضي لحياتنا الزوجية قبل ذلك بكثير. فالانسان يظل يتحمل ويتحمل حتى تاتي لحظةً معينة يصبح فيها غير قادر على التحمل أو الإنتظار

إنفصال
ولقد أخذت حقيبة وضعت فيها بعض ملابس ثم تركت بيت الزوجية وعند منتصف الليل كنت أدق جرس باب بيت أخي الذي نظر إلي منزعجاً، وقال: إيه يا عماد فيه إيه؟ فقلت بوجوم: لالا مفيش حاجة! كنت أحاول أن أبدو هادئاً لكن أخي توأمي الذي هو جزء من كياني فهمني دون أن أتكلم. وشعر بأني لا أرغب في الكلام، فاحترم صمتي. لم يشأ أن يزيد من آلامي. فلم يطلب أية تفاصيل وانشغل بترتيب المكان الذي سأنام فيه لاني لم أكن قادراً على شيء.
كنت أشعر بإرهاق شديد ونمت نوماً عميقاً، وكأني لم أنم من شهورٍ طويلة. وبقيت في بيت أخي 6 أيام متواصلة، ثم ذهبت إلى المأذون القريب من البيت في حي الزماك وأتممت إجراءات الإنفصال ووصلتها ورقة الطلاق.
لم أندم على شيء. لا على الإنتاج السينمائي الذي كلفني آلالاف ولا على شقة الزمالك، شقة تمليك كانت في الأصل شقتين حولتها إلى شقةٍ واحدة من تسع غرف لا يقل ثمنها حسب أسعار الثمانينات عن ربع مليون جنيه كتبتها أيضا باسمها، لكني لم أكن نادماً. فالمال يأتي ويذهب. وإذا اكتشف الإنسان في حياته الخطأ يجب أن يصححة. اذ اكتشف أن حياته الزوجية لم تحقق له الاستقرار الذي كان يريده، فلماذا يتمادي في تعذيب نفسه وتعذيب من يعيشون حوله، ولماذا الاستمرار؟ أهو حب في تعذيب النفس، وحب للالم؟!

راحة البال
واقتنعت أن راحة البال تساوي كل أموال الدينا. كنت أريد فقط راحة البال. فالحياة الزوجية الفاشلة قد تدفع بعض الأزواج إلى الجنون وإلى الانتحار، لكني والحمد لله خرجت من تلك التجربة سليم العقل ولم أفكر أبداً في إلقاء نفسي من أقرب نافذة. راحة البال هي الكنز الذي لا نكتشفه في الوقت المناسب. وأعظم شيء هو أن ينام المرء كل ليلة مرتاح البال. فالأرق أسوأ صديق. وعندما يلازمنا الأرق ويقيم في غرف نومنا تصبح الحياة عذاباً لا يطاق. فما أهمية أن يكون الإنسان صاحب ملايين وهو يتقلب كل ليلة في فراشه، وكأنه يتقلب مثل الجمر على النار.
خرجت خالي الوفاض وكأني أبدأ حياتي من جديد. لكن، لا يهم الطعام والشراب. فهذ ليس مشكلة. المهم هو راحة البال. والله كريم قادر على كل شيء. وما يريحني هو أنني كنت حسن النية حتى في الأخطاء التي وقعت فيها. فليذهب كل شيء وليبقى فقط شعوري بالرضا عن نفسي. سيقول عني الناس أنني رجل مزواج لكن هذا القول يظلمني كثيراً. فمن هو الذي يحب الطلاق؟ وهل هناك من لا يتمني أن يعيش تجربةً زوجية واحدة مستقرة سعيدة؟ لكن، لكل إنسان ظروفه.
ونحن لسنا أول إثنين في العالم تنتهي حياتهما الزوجية بالطلاق. ولن نكون آخر إثنين يفعلان ذلك. والأفضل لنا ولإبننا هو أن ننفصل بهدوء وبدون إزعاجات لامبرر لها. فالمهم ألا نكون سبباً في إصابة الولد بعقدة نفسية، ويجب ألا يتحمل هو نتائج الأخطاء التي وقعنا بها. فقلت لها: نريد أن نفترق أصدقاء دعيه يعيش معك لا أريد ان أحرمه منك فهو وحيد. وأنا اعلم أنك لا تستطعين أن تعيشي بدونه. إنني استطيع أن ازوره باستمرار في المدرسة المهم ألا نشعره بأي نقص أو حرمان. ولقد كانت عاقلة في تلك اللحظات. ولأول مرة أراها تفضِّل العقل على العاطفة. 

خبرٌ عادي
عندما انفصلت عن شادية ظلت الصحف والمجلات تكتب لفترة طويلة وكان انفصالنا حدث هام يستحق الكلام والتعليقات والتاويلات والتفسيرات لماذا وقع الانفصال، وهل هناك احتمال للتفاهم وللعودة وما هو دور أولاد الحلال من الوسطاء والاصدقاء، كان انفصالي عن شادية اشبه بالمفاجاة غير السارة التي صدمت اغلب الناس حتي الناس العادين من الخارج الوسط الفني، إناس لا اعرفهم معرفة شخصية كنت القاهم في الاماكن العامة فيسألونني بحب ومودة امتي ترجوا لبعض يا استاذ عماد.
لكن عندما حدث انفصالي عن نادية الجندي لم تكتب الصحف أكثر من خبر موجز عن واقعة الإنفصال. وكأن أحداً لم يندهش لما حدث. وكأن تلك النهاية كانت منتظرة، ومتوقعة، ولم تكن هناك مفاجأة أو صدمة أو استغراب أو حتي مجرد سؤال لماذا حدث الإنفصال؟


لست مزواجاً
وهكذا عشت تجربة الزواج ثلاث مرات المرة الأولى مع المنولوجست المعروفة فتحية شريف عام 1946 والمرة الثانية مع شادية 1953 والمرة الثالثة مع نادية الجندي عام 1961 وأرجوكم لا تظلموني مرة أخرى قائلين إنني رجل مزواج. فكم كنت أتمنى أن أعيش تجربة زواج واحدة مستقره. لكن فارق العمر كان مسؤولاً عن الفشل الذي أصاب زيجتين منهما. الفارق الكبير في العمر يجعل الزوجين منفصلين متباعدين ليس بينهما تفاهم أو اقتراب. وليس بينهما أسلوب واحد، ولا تفكير بلغةٍ مشتركة. فيصبح كل منهما وكأنه يعيش بجزيرة معزولة ويصبح التلاقي مستحيلاً وصعب التحقيق.

نصيحة
ويا أبنائي الشبان الراغبين في الزواج. خذوا هذه النصيحة المخلصة من زوجٍ سابق عاش التجارب. لا تتزوج يا ابني من تصغرك بعشرين عاماً لأنك ستتزوج الأرق والخلافات. وستتزوج الهموم والمتاعب. وسيصبح هدفك الوحيد أن تتحرر من القيود، أن تكون طليقاً حراً مرتاح البال والضمير حتى لو خسرت كل أموالك التي جمعتها بعرق الأيام وسهر اليالي وتعب السنين. والمزيد في الحلقة القادمة

ملاحظة: تتابع "إيلاف" نشر سلسلة المذكرات الشخصية للفنان الراحل "عماد حمدي" تباعاً ويومياً حتى الحلقة الحادية عشر. علماً أنها عملت جاهدة على الإختصار لمدوناته الطويلة. 
(يمكنكم قراءة الحلقات السابقة عبر النقر على عناوينها إلى الشمال أعلاه تحت عنوان "مواضيع ذات صلة")