"إيلاف" من القاهرة: فقد الفن المصري والعربي الأسبوع الماضي إحدى أهم نجماته وأكثرهن إنتاجاً، الفنانة القديرة مديحة يسري التي رحلت عن عمر يناهز97 عاماً بعد صراعٍ مع طويل مع آلام المفاصل والعظام. "إيلاف" تُلقي الضوء على سيرتها الذاتية والفنية عبر سلسلة حلقات.

البداية
ولدت في3 ديسمبر عام 1921 ورغم أن تعليم الفتيات لم يكن منتشراً في تلك الفترة، إلا أن والدها أصر على تلتحق بالمدرسة حيث تنقلت عائلتها بين حي الحلمية في مولودها وحي شبرا لاحقاً. كما التحقت بمدرسة التطريز وكانت صاحبة حس فني عالي.
ولقد كان حديثها عن عائلتها محدوداً للغاية في لقاءاتها الإعلامية. لكن ما ذكرته دوما، هو أنها كانت شديدة التعلق بوالدتها التي كانت تروي لها تفاصيل حياتها بالكامل. كما أنها تعلمت منها النوم والاستيقاظ مبكراً. وهي العادة التي حافظت عليها حتى رحيلها فكانت ترد على هاتفها في التاسعة صباحاً بصوت يملؤه الحب والحيوية.

ولقد ذكرت أن ابن عمها كان يتفاءل بها ويذهب إليهم في المنزل كلما وضع بالبورصة مبلغاً كبيراً حتى ترتفع اسهمه، فكان يراها وجهاً للخير. وهو أمر لم يكن غريباً، لكونها الفتاة التي كانت ترى في الاحلام ما سيتحقق في المستقبل. ومنها حلمها بوفاة شقيقتها الكبرى منيرة التي سافرت مع زوجها وشاهدت مديحة وفاتها في الحلم قبل أن يصل خبر الوفاة للأسرة بأيامٍ قليلة. ولقد سردت هذه الحكايات عن حياتها في مقابلاتٍ قديمة ببدايتها الفنية عندما كانت تعرّف عليها الجمهور، فعمرها على سبيل المثال في واقعة وفاة شقيقتها لم يكن يتجاوز 14 عاماً.

ورغم جمالها الأخاذ وطولها الذي يوحي دائما لمن يشاهدها بأنها أكبر من عمرها الحقيقي، إلا أن والدها لم يكن يضايقها في الحركة. فكان يسمح لها بالذهاب كل أسبوع مع صديقاتها إلى حديقة جروبي بوسط القاهرة لتناول الشاي وهو المكان الذي كانت تقصده بنات الطبقة المتوسطة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. فكانت تغادر منزلها مستقلة التروماي لتصل مع صديقتها ويجلسن للسمر وتناول الشاي والكيك.

إهتمت "يسري" بأناقتها منذ طفولتها وحتى رحيلها. فكانت تتجول في شوارع وسط القاهرة التي تصلها الموضة مع العواصم الأوروبية وتشاهد أحدث ما وصلت إليه خلال تلك الفترة. صحيح أنها لم تكن تشتري ملابس باهظة الثمن، لكنها كانت تجيد الإختيار وفق الإمكانيات المادية لها ولعائلتها حتى لا تشكل عبئاً على أسرتها. وكانت مستشاراً فنياً لصديقاتها ومستشاراً ثقافياً أيضا تنصحهم بالكتب والصحف التي يمكن أن يقرأوها، لكونها كانت حريصة على القراءة باستمرار لتنمية خلفيتها الثقافية وهو ما تُرجِمَ لاحقاً باهتمامها بمجالس الثقافة والأدب بعد شهرتها.

وذات مرة كانت على قاب قوسين أو أدنى من ارتباطٍ يغيّر مسار حياتها ويجعلها تبتعد عن الفن قبل أن تبدأ رحلتها. فأول من أحبته وبادلها نفس الشعور كان زميل شقيقتها الطالب بكلية الهندسة، الذي تقدم للإرتباط بها رسمياً من خلال أسرته، وكانت دراسته آنذاك مهمة للغاية وقلة هم الذين نجحوا في الإستمرار للوصول لمدرسة الهندسة. لكن الشاب الذي تعلقت به واتفقت معه على الزفاف بموافقة عائلتيهما قرر التخلي عنها فور تخرجه، واتخذ قراره بالسفر إلى الصعيد وفق مقتضيات عمله الجديد رافضاً الإرتباط بها. فترك أثراً نفسياً سلبياً في حياتها لكونه الرجل الأول الذي أحبهت وتعلقت به. الأمر الذي دفعها للتعلق بالسينما خلال دراستها. فحديقة جروبي لم تكن المكان الوحيد الذي كانت تذهب إليه برفقة صديقاتها، بل كانت سينما دوللي وجهتها أيضا مساء الخميس أو في الحفلات الصباحية يوم الجمعة. وكانت الأفلام التي تشاهدها في غالبيتها من الأعمال الأجنبية. حيث كانت تتخيّل نفسها في بعض الاعمال مكان البطلة، خاصةً الممثلة الأميركية الشهيرة غريتا غاربو التي شاهدت الكثير من أعمالها.

السينما من حديقة جروبي
لم تسع "يسري" للتمثيل، بل حدث العكس في مسار حياتها. فالمخرج محمد كريم عندما شاهدها في "جروبي" مع صديقاتها توجه لها، وبدأ في مخاطبتها دون صديقاتها واخبرها باسمه وطبيعة عمله، وطلب منها أن تكون معه بفيلمه الجديد "ممنوع الحب" الذي يقوم ببطولته محمد عبد الوهاب. فصمتت لدقائق قبل أن تجيبه بالموافقة ليخبرها بأن الدور بالرغم من أنه في ثواني قليلة إلا أنه مناسب لها بسبب جمال عينيها.

وكان المشهد لمحمد عبد الوهاب وهو ينظر لفتاةٍ جميلة ويغنّي لها "بلاش تبوسني في عينيا". فلم يجد "كريم" أفضل منها للقيام بهذا الدور. فطلبت منه أن تكون بمفردها دون أي فرد من عائلتها. فرفض بسبب صغر عمرها. فلجأت إلى خالتها لترافقها لمكتبه للاتفاق على الفيلم ومرافقتها في التصوير دون أن تخبر والديها خاصة وأن التصوير كان ليومٍ واحد فقط.
والتقت في المكتب للمرةِ الأولى مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وحصلت على أول أجرٍ لها في نفس اليوم. فقد كان 10 جنيهات وهو رقم كبير بمعايير تلك الفترة. لكنه لم يكن كافياً لها لشراء فستان سهرة مناسب لطبيعة الحفل الذي ستظهر به في الفيلم، خاصةً وأن السينما في تلك الفترة لم تكن قد عرفت مهنة مصمم الملابس، وكان على الممثلين مسؤولية توفير ملابسهم، وهو ما اضطرها إلى رهن ساعتها الذهبية حتى تشتري فستاناً قيمته 15 جنيه.
والمفارقة أن والد مديحة وهو صديق الصائغ الذي رهنت عنده ساعتها قد أخبره بما حدث، فقام الأب بفك الرهن. وعندما سأل ابنته عن السبب أخبرته بأنها كانت ترغب في شراء فستان جديد، وطلب منها أن لا ترهنها مجدداً، وأعادها إليها في نفس اليوم. فيما توجهت هي في صباح اليوم التالي للتصوير برفقة خالتها وهناك تعرفت على أول أزواجها الفنان محمد أمين، الذي تصادف وجوده في الاستوديو وبدأ يرمقها بنظرات الإعجاب.

اللقاء مع عبد الوهاب
والجدير ذكره أنها كانت تُدعى في شهادة الميلاد "غنيمة" لكنهم ينادون عليها باسم هنومة. فيما دارت مناقشات حول الإسم الذي سيُطلَق عليها فنياً بحضور "أمين" فاختار لها اسم مديحة، وأضاف لها عبد الوهاب إسم" يسري" وهو الاسم الذي ظلت معروفة به حتى وفاتها.
وقبل أن تغادر الاستوديو بعد الزيارة الأولى، كانت قد وقعت على فيلم قصير بأجر جنيه تقوم فيه بدور ممرضة توعي الفلاحين من الأمراض والأوبئة، وهو الفيلم الذي صورته في اليوم التالي مباشرةً، ودون علم أهلها اأضا باستثناء خالتها التي كانت توقع مكانها نظراً لحداثة عمرها.
ومع عرض الفيلم في الصالات، شاهده المنتج اللبناني جبرائيل خوري الذي طلب في اليوم التالي طريقة للتواصل معها. والحقيقة ان مديحة استفادت في تلك الفترة من بحث السينما عن وجوه نسائية. فلم يكن على الساحة الفنية سوى اسمهان وليلي مراد. وهذه المرة كانت أسمهان مشغولة بسفرها إلى بيروت. وهو ما دفع المنتج اللبناني للبحث عن فنانة شابة تُشارك فريد الأطرش بفيلمه الجديد "أحلام الشباب". ووافقت على الفيلم لكن ظلت مشكلة العائلة هي العائق الأكبر أمامها. لكنها لم تتردد في الإستعانة بخالتها التي وقعت التعاقد معهم بينما كانت الأزمة التي بدأت في التفكير بها هي كثرة مواعيد التصوير هذه المرة، فهي لن تذهب يوم أو يومين.
لكن، قبل أن تبدأ مديحة بالتصوير كان والدها قد عرف بأنها ستقوم بالبطولة أمام فريد الأطرش من خلال صورتها الموجودة في إحدى المجلات التي كان يطالعها بالصدفة، وعندما علم، انفعل عليها، لكنه اكتشف بأن التعاقد يحمل شرطاً جزائياً كبير يجعله غير قادر على منع ابنته من التمثيل في الفيلم.
فوافق والدها على مضض، واشترط على ابنته أن تكون هذه التجربة هي الأولى والأخيرة لها في السينما مع ضرورة التزام الحشمة والوقار في عملها وملابسها. وهو ما التزمت به في جميع الفساتين التي اشترتها، فكانت مهتمة بالتفاصيل للدرجة التي جعلتها تنفق أجرها بالكامل وكان 120 جنيهاً على الفساتين التي قامت بالظهور بها في الفيلم.
المزيد في الحلقات اللاحقة