كانت الحافلة القادمة من الحمامات تدخل العاصمة من بابها الجنوبي (باب عليوه) لما شاهدت عجوزًا يرتدي ثيابًا رثة، ويضع على رأسه طاقية سوداء منقطة بالابيض واقفًا على سور مقبرة "الجلاز" يدير ظهره للمستشفى العسكري، وللمعهد العالي للتكونولوجيا، وللسيارات المنطلقة في الاتجاهين، غير عابئ لا بصفارات رجال الشرطة، ولا ببنادقهم المصوبة نحو المارة تحسّبًا لايّ فعل او حركة مريبة قد تصدر من واحد او من مجموعة منهم، ولا بأنات الشحاذين القابعين على الارصفة، ولا بأيّ شي آخر.
 
كان ساكنا مثل تمثال، ميممًا وجهه صوب غابة القبور البيضاء الممتدة امامه حتى الهضبة الخضراء المشرفة على العاصمة من الناحية الشمالية، وعلى ضواحيها الجنوبية. وكانت هيئته تدل على انه لم يعد معنيا بالحياة، ولا بما فيها من افراح واتراح، ومن مسرات ومآس وكوارث. فكل شيء باطل، وكل شيء بلا معنى، و"ماذا يستفيد الانسان من كل تعبه الذي ينهكه في هذه الدنيا (...) وما حدث في الماضي يعود يحدث، وما صنع في الماضي يعود يُصْنَعُ، لا جديد في هذه الدنيا". ولا يوجد شيء يمكن ان تقول انه "جديد"، بل هو موجود منذ القدم!، هكذا كان يفكر على ما اظن. لذا لم يعد معنيا الّا بالموت الذي بات يترصده في كل آن وحين.
 
يبدو ان الاموات الذين يتأمل قبورهم بخشوع هم اقرب اليه من الاحياء الذين يهرولون خلفه ويتراكضون، ويتنافسون، ويتصارعون طمعا في نعم الدنيا، غير انهم هم ايضا لن يحصلوا في النهاية الا على حفرة بالكاد تتسع الى جسد الواحد منهم. باطل، كل شيء باطل اذن. والحكمة تقتضي من الانسان السليم العقل ان يقنع نفسه بأنه "لا سلطان على يوم الموت". وهو عاين في حياته المديدة أن الصالحين "ينالون ما يستحقه الاشرار"، وأن الاشرار يكسبون ما لا يتمكن الصالحون من كسبه في معاركهم المريرة مع الحياة. لكن كل هذا بلا معنى لان الحياة شقاء، ولا احد يستفيد منها في النهاية .لا القوي ولا الضعيف.لا الغني ولا الفقير. والجميع مصيرهم واحد...
 
بهذه الاقوال الحكْميّة كان يواسي نفسه هو الذي كان فتى يافعا لما حصلت البلاد على استقلاها. ومثل اهالي قريته المرمية في الاحراش الوعرة بلا كهرباء، وبلا ماء صالح للشرب، وبلا مدرسة، ولا مستشفى، ولا مركز للبريد، ولا طريق معبدا يصلها بالعالم "المتحضر"، هو صفق في التظاهرات والاحتفالات، للحكام الجدد، وعلق صورة الزعيم الحبيب بورقيبة في البيت العائلي المتداعي، ورفع علم البلاد عاليا، وهو يردد ذلك المقطع البديع من النشيد الوطني "اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر ...".
 
وكان من المتحمسين لاسقاط النظام الملكي باعتباره نظاما فاسدا، وعميلا للاستعمار".أما النظام الجمهوري فسيحقق الرخاء للبلاد، والعدالة الاجتماعية، وعن الشعب سوف يرفع المظالم المسلطة عليه منذ قرون وقرون. ولما اندلعت حرب بنزرت لـ"طرد اخر جندي فرنسي من الوطن العزيز"، تطوع للقتال فيها رغم انه لم يكن يحسن استعمال بندقية صيد. ومن تلك الحرب القصيرة التي واجه فيها شبان في مثل سنه الجيش الفرنسي المدجج بأحدث الاسلحة، بأياد عارية، عاد مكدر النفس لانه فقد الكثير من الاصدقاء والاحباب الذين تقاسم معهم مرارة القتال، ومثلهم اندفع الى ساحة المعركة ملتهبا بالحماس وهو يستمع الى الاناشيد الوطنية، والى عُليّة ذات العينين الدعجاوين وهي تردد: "بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفدا....".
 
لكن سرعان ما استعاد الامل في حاضر ومستقبل افضل، بعد ان اعلن النظام انه سيطبق نظاما اشتراكيا لحماية الفقراء من بطش الاغنياء، وردم الهوة بين المناطق المحرومة والمناطق الثرية. وكان يمضي الساعات الطويلة في الاستماع الى خطب الحكام الجدد في الراديو الوحيد في القرية، مركزا انتباهه بالخصوص على خطب من كان اكثرهم تحمسا للنظام الاشتراكي، والذي كان يتمتع بتاييد مطلق من الزعيم بورقيبة حتى انه قلده خمسة مناصب وزارية. غير ان احوال البلاد راحت تسوء يوما بعد اخر، حتى ان اهالي القرية لم يعد بامكانهم ان يضمنوا القوت اليومي لاطفالهم.
 
واشتد القحط على الناس فكانت السنوات تمر ببطء وليس فيها غيرالاكاذيب، وعواصف الغبار، والحزن المتراكم على القلوب. وفي صباح ما جاء خبر من العاصمة يقول إن النظام الاشتراكي سقط، وإن الذي جاء به القي به في السجن لمحاكمته. وقد اسعده الخبر كثيرا ظانا انه سيكون بداية الفرج. ومعتقدا ان حياته ستكون افضل لو انه نزح الى العاصمة مثلما فعل الكثيرون من اهالي القرى التي زادها النظام الاشتراكي بؤسا وشقاء، غادر مسقط رأسه بصحبة زوجته الشابة وابنيه الصغيرين ليستقر في حيّ "الجبل الاحمر" حيث اكواخ القصدير، وحيث يتجمع كل الفارين من القحط والمجاعات وقسوة الحياة في الارياف الجبلية والصحراوية.
 
وكان عليه ان يمتهن مهنا مختلفة، ومهينة لكي يضمن العيش لعائلته الصغيرة. وواجف القلب كان يتابع ما يحدث في البلاد خصوصا بعد تكاثرت محاكمات الطلبة والنقابيين والمثقفين. فلم يكن يمرفصل من فصول السنة من دون مواجهات ومظاهرات ومتاعب وقلاقل من مختلف الاصناف. وكان يوم الثامن والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) 1978 يوما اسود. فقد واجه النظام مظاهرات النقابيين بالرصاص فسقط العشرات من الضحايا في مختلف مدن البلاد، وفرض منع الجولان. وانتهت المواجهة الدموية بمحاكمة القادة النقابيين والعديد من انصارهم. وفي "حيّ الجبل الاحمر" فقدت بعض من العائلات ابناءها فكان نواح الامهات يتعالى في الليل والنهار. أما هو فتحصن في بيته تجنبا لما يمكن ان يسبب شرا له ولعائلته. وبعد الهجوم المسلح على ليبيا، المدعوم من نظام العقيد معمر القذافي في الثامن والعشرين من يناير 1980، شهدت البلاد انفراجا سياسيا، فانتعش هو بنسمة الحرية التي هبت، واهدى زوجته وابناءه الذين اصبحوا اربعة ثيابا جديدة، ومعهم تجول في حديقة "البلفدير"، وشاهد فيلما مصريا لم يعد يذكر عنوانه.
 
لكن الانفراج سرعان ما شهد انتكاسة. حدث ذلك في مطلع عام 1984، عندما خرج الشعب الى الشوارع احتجاجا على رفع اسعار الخبز والعجين. ومرة اخرى لعلع الرصاص وسالت الدماء وتساقط عشرات القتلى والجرحى .لكن الزعيم بورقيبة رحيم القلب، ونبيل النفس .لذا سارع بالتراجع عن القرار المذكور ليتدفق الاف من "ابنائه الافاضل وبناته الفضليات" على قصر قرطاج ممجدين خصائله، ونضالاته، وهاتفين بحياته، وراجين له طول العمر. مع ذلك لم تنته المتاعب، بل راحت الازمات تتفاقم، وتتراكم، خصوصا بعد ان اشتدت الصراعات بين الاجنحة لخلافة الزعيم العجوز، وظهرت جماعات دينية متطرفة كانت تحرّض الناس في الشوارع، وفي الاسواق، ومن داخل المساجد على اسقاط النظام "الكافر".
 
ولم يصدق هو ما سمع فجر يوم السابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني )1987 عندما اعلن الراديو في اول نشرية له ان بورقيبة ازيح من السلطة هو الذي اراد ان يكون رئيسا مدى الحياة حتى ان الكثيرين من ابناء البلاد، وهو من ضمنهم، باتوا اشبه متيقنين انه سيكون حاكما ابديا!... وابتهج الشعب لان الحاكم الجديد اعلن انه سيصلح ما فسد ملغيا "الرئاسة مدى الحياة"، ومُتعهّدا بتحقيق ما يطمح اليه الشعب في مجال الديمقراطية العدالة الاجتماعية. وهو يعترف انه ابتهج هو ايضا بما حدث عملا بالمثل الشائع الذي يقول: ”الله ينصر من صبح"، وبالمثل الاخر: ”تبديل السروج فيه راحة". ومرت السنوات بسرعة. وكبر الولدان والبنتان. والولد الاكبر هاجر سريا الى ايطاليا. وفي البداية كان يبعث اليه رسائل مطمئنة، واعدا اياه بارسال ما يحتاجه من مال لتحسين وضع العائلة. ثم انقطعت اخباره فلم يعد يدري ان كان ميتا ام حيا. أما الابن الثاني فقد دخل السجن اكثر من مرة بسبب السرقة والنشل واستهلاك الحشيش.
 
وتزوجت البنت الكبرى من معلم في الابتدائية، غير انه طلقها بعد ان انجبت منه طفلا. وتورطت البنت الثانية في قضايا اخلاقية، ثم اختفت هي ايضا. وكان عليه ان ينتظر اكثر من سنة لكي يعلم انها استقرت في سوسة، وانها تعمل راقصة في احد الفنادق السياحية. وظل هو مع زوجته العجوز التي تكالبت عليها الامراض يعانيان وحدهما متاعب الشيخوخة المريرة. وفي كل مرة يذهب فيها الى المقهى القريب من بيته، لا يسمع غير الحديث عن فساد عائلة الرئيس وزوجته، وعن التجاوزات الخطيرة التي تحصل بسببهما، حتى ان كبار الوزراء والمسؤولين اصبحوا عاجزين عن الحد منها.
 
وبعد انهيار نظام زين العابدين بن علي في الرابع عشر من شهر يناير 2011، ذهب الى مكتب الاقتراع في الحيّ مصحوبا بزوجته وابنته المطلقة وهما محجبتان ليصوّتوا لحركة النهضة، مثل غالبية سكان الحي. ومثلهم كان يظن ان جماعة هذه الحركة الذين لا يغيبون عن الصلوات الخمس، يخشون الله. لذا سوف يكونون الى جانب الفقراء والمساكين امثاله. وربما سوف يعرف في السنوات الاخيرة من حياته سعادة وهناء لم يعرفهما من قبل ابدا. ولكن الاحلام سرعان ما هوت لتصبح كوما من الرماد امام عينيه، وتحولت الحياة الى حجيم لا يطاق، وانتشر الرعب في البلاد فما عاد احد يعرف الامان والطمأنينة.
 
وفي كل يوم، تتهاطل الاخبار السيئة مراكمة في نفسه المزيد من الاحزان والاوجاع. وها هو يتبين ان الذين يخشون الله، والذين يتحدثون عن الديمقراطية وعن حقوق الانسان على مدار الساعة جياع هم ايضا للمال والجاه والسلطة، ولا يعنيهم مصير امثاله من المعذبين في الارض. وفي هذا الصباح المقفر من الامل، ترك بيته وزوجته المريضة، وجاء ليقف على سور مقبرة "الجلاز" املا ان ينتبه اليه الموت فيخطفه الى العالم الاخر حيث السكون والراحة الابدية!