كنت في الثانية عشرة من عمري لما رأيت للمرة الأولى الأستاذ مصطفى الفيلالي. حدث ذلك في السنوات الأولى من عقد الستينات من القرن الماضي في يوم السّوق الأسبوعيّة في قرية العلا في منطقة القيروان، حيث كنت أدرس الإبتدائية. في ذلك الوقت كانت تونس تعيش السنوات الأولى من استقلالها. 
وكانت تواجه مصاعب على جميع المستويات. وفي أرياف القيروان كانت المجاعة تهدّد السكان. وحدها أكياس الدقيق، التي كانت الولايات المتحدة تقدّمها "هديّة إلى الشعب التونسي"، تساعدهم على مقاومة شظف العيش. وربّما لهذا السبب كان الرجال، الذين اختارهم الزعيم الحبيب بورقيبة ليبنوا معه دولة الإستقلال، يطوفون في جميع أنحاء البلاد لطمأنة الشعب، وتخفيف همومه وآلامه بالآمال وبالوعود الورديّة.
 
ولعل الأستاذ مصطفى الفيلالي، الذي كان يحظى آنذاك بثقة "المجاهد الاكبر"، اختار أن يطوف في جميع أنحاء منطقة القيروان، التي ينتمي إليها بهدف توضيح الخطوط الكبرى لسياسة الدولة الجديدة. ولست أدري إن كان قد حدث ذلك في بداية الصيف، أي عند اقتراب العطلة، أو في بداية الخريف، أي في مطلع السنة الدراسية. غير أن ما أذكره هو أن اليوم كان شديد الحرارة. وكان الغبار كثيفًا، والوجوه حزينة، والوحشة باسطة قتامتها على القرية الصغيرة الجاثمة عند سفح جبل "طرزّة". وعندما شرع الأستاذ مصطفى الفيلالي في إلقاء خطابه، التفّت حوله جموع غفيرة. في البداية ساد الصّمت تلك الجموع، ثمّ لم تلبث الأكفّ أن التهبت بالتصفيق، وانفجرت الهتافات الحماسية لتنسف الوحشة الطاغية على القلوب والنفوس.
 
وأنا الطفل الصغير استمعت إلى الخطاب من البداية إلى النهاية، وأنا في حالة من البهجة الغريبة. ورغم غموض ما كنت أسمع من كلام، فقد أحسست بإعجاب شديد تجاه صاحب الخطاب، وترسخت صورته الآسرة في ذاكرتي، لتطلّ عليّ من حين إلى آخر كلما سمعت خبرًا عنه، أو يأتي الناس على ذكره في حضرتي. ودار الزمن دوراته. وذات يوم من أيام عام 2010، وكنت قد عدت للتوّ من رحلة إلى ألمانيا، كنت أمشي في شارع القاهرة في العاصمة لما فوجئت بالأستاذ مصطفى الفيلالي يبرز أمامي منتصب القامة، رغم تخطيه سنّ التسعين. وكان مستغرقًا في التفكير، فلم أشأ إزعاجه.
 
وبعدما قرأت روايته "المانعة"، التي وصف فيها بشكل دقيق تفاصيل الحياة في مسقط رأسه، "سيدي علي بن نصر الله"، في سنوات طفولته وشبابه، وأيضًا مجموعته القصصية التي روى فيها بشكل ساخر أحداث سنوات الإشتراكية في عقد الستينات من القرن الماضي، قرّرت الإلتقاء به. وتمّ لي ذلك في الشهر الأخير من عام 2010، أي عندما كانت تونس تعيش ذلك الغليان الشعبي الكبير الذي سبق انهيار نظام زين العابدين بن علي في الرابع عشر من عام 2011.
 
إذ جاءني الأستاذ الفيلالي إلى بهو فندق "الهناء" في شارع الحبيبب بورقية في العاصمة من دون أن يتأخر دقيقة واحدة عن الموعد. وكان الحديث معه ممتعًا ومفيدًا. والأمر الذي لاحظته منذ البداية هو حضور البديهة عند الأستاذ الفيلالي، وقوّة ذاكرته، وذكاؤه المدهش الذي يقيه شرّ السقوط في المزالق، ويجعله دائم الحذر، فلا ينطق إلاّ عندما يكون على يقين من صحة حجته، وصواب جوابه. دام الحديث بيننا أكثر من ساعتين. في البداية روى لي بعضًا من ظروف نشأته. ذلك إنه التحق مبكرًا بالمدرسة القرآنية في قريته. ونظرًا إلى النباهة التي أبداها في حفظ القرآن، أرسله والده إلى العاصمة ليقيم عند خاله الذي بادر بإلحاقه بالمدرسة الصادقية.
 
في هذه المدرسة العريقة التي تخرّج منها أقطاب ورموز النخبة التونسية من أمثال الحبيب بورقيبة، والبشير صفر، ومحمود الماطري، والطاهر صفر، وصالح بن يوسف، ومحمود المسعدي وغيرهم، تحمّس الفتى مصطفى الفيلالي للنضال الوطني، وانتسب إلى الخلايا الطلاّبية المناهضة للإستعمار الفرنسي، وشارك في التظاهرات الوطنية. وكان الأستاذ علي البلهوان، وهو أحد رموز الحركة الوطنيّة في ذلك الوقت، من بين الأساتذة الذين فتحوا آفاقًا عريضة أمام الفتى الألمعي القادم من أرياف القيروان. فقد حرّضه، كما حرّض رفاقه على دراسة مؤّلفات الفلاسفة المسلمين، من أمثال الغزالي، وابن رشد، وابن طفيل وابن خلدون، والفارابي، وغيرهم.
 
وبهدي منه أيضًا قرأ أعمال الجاحظ، والتوحيدي، وعبد الله بن المقفع... وبسبب مثابرته على الدراسة، نجح الفتى مصطفى الفيلالي في امتحان الباكالوريا ( الثانوية العامة) بتفوّق. وبعد الحرب العالميّة الثانية، سافر إلى فرنسا لينتسب إلى جامعة السوربون العريقة، وفيها درس الآداب والفلسفة، وتعرف إلى خفايا الثقافة الغربية، وعلى شعرائها، ومفكريها، وفلاسفتها.
 
وفي أول حكومة أنشأها بورقيبة بعد الاستقلال، اضطلع الاستاذ الفيلالي بمهام كبيرة في صلب دولة الإستقلال. فقد كان ضمن النخبة التي أعدّت دستور 1959.. وكان وزيرًا للزراعة، ورئيسًا للبرلمان.. وفي لقائي معه، عبّر لي عن إعجابه ببورقيبة، وعن تقديره لسياسته الرشيدة التي مكّنت تونس من ان تحتلّ دورا مهمّا مغاربيا، وعربيا، ومتوسطيّا، وعالميا. وأذكر أنه قال لي: "أكيد أن بورقيبة ارتكب أخطاء، لعلّ اخطرها تشبثه بالحكم رغم تردي أحواله الصحيّة. وقد استغل البعض من حاشيته والمقربين منه هذا الخطأ ليكثروا من تدبير المؤامرات والدسائس بهدف خلافته. مع ذلك كان بورقيبة وطنيّا عظيما. 
 
واضاف الفيلالي انه - اي بورقيبة - كان يضيق بفساد البعض من وزرائه. ومرة طلب من الهادي نويرة إعداد قانون للضّرب على أيدي الفاسدين والمرتشين .غير أن ذلك القانون لم ير النور لأسباب يطول ذكرها. كما ذكر أن ابن بورقيبة اشترى بيتًا. فلما علم بورقيبة بذلك، أحضره الى مكتبه، وقال له: "الراتب الذي تتقاضاه لا يسمح لك بشراء بيت... فماذا فعلت؟". وأجابه ابنه بأنه اقترض من البنك. عندئذ اغتاظ بورقيبة غيظا شديدا، وأمره بأن يبيع البيت حالا، ناصحًا إياه بأن يقيم لدى أصهاره في المرسى. امتثل الابن لأمر والده، وبعد سقوط نظام بن علي، دأب الفيلالي على الظّهور على ركح الساحة السياسية من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ليبسط رؤيته، ويعرض أفكاره بشأن القضايا التي تعيشها تونس راهنًا. وهو يفعل ذلك بقدرة مدهشة، وبحسّ وطنيّ رفيع، وبدراية عميقة بخفايا الأحداث، وبألغاز السياسة في هذا الزمن المتقلّب، المضطرب مثل بحر هائج.
 
وفي جميع مواقفه، تجلّت رصانة الفيلالي، وحنكته السياسية، وسطع ذكاؤه الوقّاد، وانعكس تمرّسه بالواقع التونسي، وتأكّد إخلاصه لوطنه، وحبّه لشعبه. ويمكن القول إن الرسالة الشهيرة التي بعث بها الى راشد الغنوشي، والتي حملت عنوان: "فاضت الكأس ياشيخ"، وثيقة تاريخية ستظلّ حيّة في ذاكرة التونسيين. ففيها أظهر الفيلالي معرفته الواسعة بالفقه الإسلامي، وبالفلسفة، وإلمامه الواسع بالتاريخ الإسلامي في مختلف مراحله. كما فضح فيها الأهداف الحقيقية لحركة النهضة ولزعيمها الذي يستغل الثورة التي أطاحت بنظام بن علي، ليفرض مشروعه المتخلف، وليبسط استبدادًا جديدًا على البلاد والعباد.
 
وفي مطلع هذه الرسالة كتب الفيلالي يقول: "فاضت كأس الإحتمال المتسامح في أنفس مجتمع مسلم، إيمانه عريق على مدى ثلاثة عشر قرنا من عمر الدين المحمدي، وأمجاده في ترسيخ العقيدة وإشاعة ثقافة الدين أبعد زمنا، وأبقى آثارًا مما يعلم ضيوفك (يقصد الدعاة المشارقة الذين دعتهم حركة النهضة الى تونس) المتقاطرون على عاصمة الزيتونة قرأوا أو لم يقرأوا من موطئ سيدي علي بن زياد تلميذ إمام دار الهجرة ومن أعلام الفكر على مرّ العصور وصولا إلى آثار الإمام الطاهر بن عاشور. مجتمع هذا الوطن مجتمع مسلم عريقة قدماه في الإسلام، ولا يحتاج ضيوفك لأسلمته وليجددوا له دينه، ففيه رجال أفذاذ هم أنفذ قدرة وأوسع في العلم باعًا، وفي السياسة نضجًا، وعند قومنا انصياعًا، واتباعا".
 
وفي الرسالة ينتقد الفيلالي تواطؤ الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي مع زعيم حركة النهضة سامحًا للدعاة المتطرفين بـ"غزو" تونس لتسميم عقول التونسيين ونشر الفتن بينهم، وحثّهم على التنافر والتباغض. كما يتّهم الغنوشي بـ"جحود فضل" من انتخبوه لولاية أمورهم، وتنكره لوعوده، وتلاعبه بمصالح البلاد لخدمة أهدافه الخاصّة، المتمثّلة أساسًا في تغيير نمط المجتمع، ونسف طابعه العقائدي. وقد كان لرسالة الفيلالي صدى كبير لدى كل الاوساط، بما في ذلك الاجيال الجديدة، اذ انها عكست الحكمة التونسية في اجل واعمق مظاهرها.