رغم تقدمه في السنّ، لا يزال الكاتب والصحافي الفرنسي المرموق جان دانييل المولود في "البليدة"، قرب الجزائر العاصمة عام 1922، يتمتع بالحيوية والصفاء الذهني، مواظبًا على كتابة افتتاحياته في الأسبوعية "لونوفيل أوبسارفتور" (أصبحت تسمى: لوبس) التي أنشأها في عقد الستينات من القرن الماضي لتكون حتى الآن واحدة من أرقى المجلات الفرنسية الجامعة بين السياسة والثقافة.
 
كما إنه لم ينقطع ابدًا عن المشاركة بجديته المعروفة في الجدل القائم في فرنسا، وفي العالم، حول مختلف القضايا، محافظًا على لغته البديعة، وعلى أسلوبه الرفيع. وفي كل ما يكتب تتجلى ثقافته الواسعة، ومعرفته الدقيقة بالتاريخ وبالفلسفة والعلوم الإجتماعية والآداب الإنسانية في مختلف العصور. كما تتجلى حكنته السياسية. وليس ذلك بالأمر الغريب. فقد التقى هذا الرجل، الذي اخترق القرن العشرين، وجزءا مهما من الألفية الجديدة، بمشاهير الزعماء السياسيين في الغرب والشرق، بل وكان صديقًا للبعض منهم، من أمثال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، والزعيم الجزائري أحمد بن بلة، وآخرين.
 
وارتبط دانييل ايضا بعلاقات وثيقة بكبار الفلاسفة والكتاب، خصوصا البير كامو، الذي ولد مثله في الجزائر. لذلك لم يتردّد في الوقوف الى جانبه في فترة احتدام المعارك بينه وبين جان بول سارتر.
 
يكنّ دانييل محبّة خاصة لتونس، باعتبارها بلدًا تمكن بفضل نخبه الفكرية والسياسية المستنيرة ان يضع الاسس لبناء الدولة الحديثة والعصرية. لذا هو دائم الحرص على متابعة ما يجري فيها من احداث سياسية.
 
ومنذ سقوط نظام زين العابدين بن علي، وهو يبدي حرصا على مواكبة التجربة الديمقراطية "الهشة" التي تعيشها تونس، والتي يمكن ان تؤدي، إن هي فشلت، الى انقراض المشروع الاصلاحي والحداثي، الذي انشغلت النخب السياسية والفكرية التونسية على تركيز اسسه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
 
في افتتاحية نشرها اخيرا في مجلة "لوبس"، قدم دنييل بعض الملاحظات الذكية والقيمة المتصلة بالهجوم المسلح الذي قامت به مجموعة من المتطرفين في مدينة بن قردان على الحدود مع ليبيا بقصد اقامة "امارة اسلامية". وبدأ افتتاحيته على النحو الآتي: "ثمة تعريف آخر لطول العمر: ان نكتب ربما لقراء مجهولين او لامبالين؟، ليس فقط. لكن لكي نعبّر عن حضورنا، حتى ولو ان الاخرين يسعون الى اقناعنا بعكس ذلك".
 
ويشير دانييل الى ان الوضع المتفجر في تونس يشغله اكثر من تظاهرات الطلبة في فرنسا، واكثر من الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة، والتي يهيمن عليها الخطاب البدائي والفاشي لدونالد ترامب. ويضيف قائلا ان العلاقات التي تربطه بتونس تشبه "الجذور المتينة". لذا فان الهجوم على مدينة بن قردان التي يعرفها جيدا روعه، اقلقه كثيرا.
 
ورغم ان التقارير تؤكد ان سكان المنطقة لم يبدوا اي تعاطف مع "الارهابيين"، فانه يعتقد ان الوضع سيظل خطيرا للغاية. فقد اكد له جنرال فرنسي ان الجماعات الاسلامية المسلحة المتمركزة في ليبيا، بالقرب من الحدود مع تونس، والتي تضم الافا من التونسيين، لن تتخلى ابدا عن مخططها الذي يقضي باقامة امارة اسلامية في الجنوب التونسي.
 
وستكون هذه الامارة القاعدة المتينة لغزو كامل البلاد، والسيطرة على العاصمة لاقامة الدولة الاسلامية. ورغم ان الرئيس التونسي لا يزال يلحّ في طلب الاسلحة، فان الدول الغربية الحليفة لبلاده لا تزال تتلكأ في تنفيذ ما وعدته به. ويكتب دانييل قائلا: "نحن نعلم انه اذا ما تمكن الليبيون من الدخول الى تونس، فإنهم لن يتوقفوا عند الحدود. وفي مثل هذه الحالة، سيسعى مئات الالاف من التونسين الى الفرار الى فرنسا". وينصح دانييل فرنسا والدول الغربية، خصوصا ايطاليا والولايات المتحدة بان تتعامل مع تحذيراته بجدية قبل ان تصبح الكارثة حقيقة قد يصعب التعامل معها، وايجاد حلول للخروج منها!