بينما تتصاعد موجة التشدد الديني، وينتشر الإرهاب في المنطقة، تتزايد بالتوازي ظاهر الإلحاد، إذ ارتفع عدد الملحدين في مصر وبعض الدول الإسلامية بشكل واضح، وصار لهم صوت في وسائل الإعلام المصرية.

القاهرة: يرى علماء أزهريون أن الجماعات الإرهابية سبب رئيسي في انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر، لاسيما أن هذه الجماعات تقدم صورة مشوهة عن الإسلام، وتساهم في نفور المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى من الإسلام والأديان بصفة عامة.

ورغم أن خالد الحسيني (واسم عائلته مستعار) مدرس بجامعة الأزهر، إلا أنه ملحد، يعبر عن معتقداته خلسة، كي لا يفصل من الجامعة، ويتعرض للمحاكمة بتهمة ازدراء الدين الإسلامي. وسبق لخالد أن تعرض للتحقيق في الأزهر بتهمة إزدراء شيخ الأزهر، عندما انتقد أسلوب التعليم في الجامعة واعتبره "مفرخة" للتطرف. وفصل من الجامعة أيضًا لسنوات جراء إنتقاداته مناهج التعليم الأزهري مع زملائه.

يصر خالد في إفادة لـ"إيلاف" على أن الإلحاد أفضل من الإنخراط في دين يستغل "كهنته" الناس، ويوزعون عليهم البركات أو الجنة بحسب الأهواء. ويرى أن الأزهر والكنيسة أساس التطرف والإرهاب، ويجب إلغاء هاتين المؤسستين وتحرير الناس من أسرهما.

ظاهرة معقدة

الملحدون في مصر يعيشون حياة طبيعية، ويجتمعون في مقاهٍ وسط القاهرة، وغالبيتهم من المثقفين والأدباء، ويعبرون عن آرائهم بصراحة في جلساتهم الخاصة، وبدأوا في الظهور علنًا في وسائل الإعلام أخيرًا، إلا أن الإعلام عادة ما يستخدمهم في دغدغة مشاعر الجمهور وإثارته ضدهم، فيظهرهم كفارًا، ويستعدي البسطاء ضدهم.

وأصدر مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية تقريرًا جديدًا يرصد فيه أسباب تزايد ظاهرة الإلحاد بين الشباب في الدول الإسلامية. وأشار التقرير إلى أن ظاهرة الإلحاد من الظواهر المعقدة التي تتداخل فيها العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية، مشيرًا إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة وفرت لهؤلاء الشباب المغرر بهم مساحات كبيرة من الحرية أكثر أمانًا لهم للتعبير عن آرائهم ووجهة نظرهم في رفض الدين، بعيدًا عن التابوهات التي تخلقها الأعراف الدينية والاجتماعية.

اتهام التكفير

ووفقًا لتقرير دار الإفتاد، فإن الشباب الملحدين لا يعارضون الدين لكنهم يرفضون استخدامه نظامًا سياسيًا، داعين إلى فصل الدين عن الدولة، في حين رفض فريق آخر منهم الدين ككل، فيما ترك فريق ثالث الإسلام إلى ديانات أخرى.

واتهمت دار الإفتاء الجماعات الإرهابية التكفيرية، التي تنتهج الوحشية والترهيب والذبح باسم الإسلام، بتشويه الدين ودفع الشباب نحو الإلحاد، لافتًا إلى أن من أسباب انتشار ظاهرة الإلحاد الخطاب الديني المتشدد الذي تصدره التيارات الإسلامية المتزمتة التي تؤصل لأهم مشكلات التدين في العصر الحاضر، وهي إشكالية الصراع بين الجوهر الروحي والخلقي الذي يمثل حقيقة الإسلام، وبين القشرة الشكلية الخارجية التي تصلح امارة وعلامة فقط، على أن هذا الإنسان ينتمي إلى ذلك الدين ويمارس تلك الشعائر، مشيرًا إلى أن هذه التيارات لا تعرف سوى التشبث بالأمور الشكلية التي قد تبعد الناس عن الدين.

رفض الشريعة

وأشار التقرير إلى دعوة الجماعات التكفيرية من خلال فهم مختل للولاء والبراء إلى كراهية الآخر لمجرد المخالفة في الديانة، فيكون من الطبيعي أن ينفر من هذا الكثير من أصحاب القلوب الطيبة والمحبة للآخرين، لأنهم يجدون هذا مناقضًا لما فطره الله في قلوبهم من حب للآخرين الذين أحسنوا إليهم.

وأجرت هيئة الإذاعة البريطانية حلقة نقاشية على موقع تويتر بعنوان "لماذا نرفض تطبيق الشريعة الإسلامية"، وقد تجاوب معها خمسة آلاف تغريدة في يوم واحد، حيث تركز النقاش حول ما إذا كانت الشريعة الإسلامية مناسبة لاحتياجات الدول العربية والنظم القانونية الحديثة. واستطرد تقرير دار الإفتاء أن أغلبية المشاركين جاؤوا من مصر والسعودية، حيث عبر الشباب المشارك عن أسباب رفضهم للشريعة الإسلامية. وأشار أكثرهم إلى ما ترتكبه الجماعات المتشددة والمتطرفة من انتهاكات باسم الإسلام من قتل وسبي وانتهاك لحقوق الإنسان وامتهان المرأة كبيرة وصغيرة.

أقل من العدد الحقيقي

حذر الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، من خطورة استضافة وسائل الإعلام غير المؤهلين وغير المختصين في البرامج الدينية الذين غالبًا ما يتعمدون الإساءة في توصيل المعلومة الدينية الصحيحة، ما يؤدي بدوره إلى حدوث بلبلة في الأفكار واختلال في المفاهيم.

وحول انتشار ظاهرة الإلحاد في العالم العربي والإسلامي، أكد مستشار مفتي مصر في تصريحات له ضمن التقرير، أن دراسة هذه الظاهرة ليست بالأمر الهين، وتكتنفها مجموعة من الصعوبات المنهجية التي من أهمها انخفاض معدلات الاستجابة لاستطلاعات الرأي الميدانية، "فمن يعترفون بإلحادهم أقل بكثير من العدد الحقيقي الموجود، لذلك فإنه عند تقديم الأرقام حول نسب الملحدين في عدد من الدول تكون النسب في أغلب الأحيان نسبًا تقريبية.

ملحد وأفتخر

وأوضح نجم أن عددًا من الدراسات والإحصاءات أظهر أن الإلحاد في السنوات الأربع الماضية شهد نشاطًا كبيرًا، فسرعان ما ظهرت عشرات المواقع الإلكترونية على الإنترنت تدعو للإلحاد، وتدافع عن الملحدين، في مقدمة هذه المواقع الإلكترونية "الملحدين المصريين" و"ملحدون بلا حدود" و"جماعة الإخوان الملحدين" و"مجموعة اللادينيين" و"ملحدون ضد الأديان". كما ظهرت مواقع شخصية للملحدين، جميعها بأسماء مستعارة فظهر "ملحد وأفتخر" و"ملحد مصري"، و"أنا ملحد".

ووفقًا لدراسة أعدها مركز "ريد سي" التابع لمعهد غلوبال، فإن مصر تحتل المركز الأول بين الدول العربية في الإلحاد، وتضم 866 ملحدًا، ورغم أن الرقم ليس كبيرًا إلا أنه الأعلى فى الدول العربية. ليبيا ليس بها سوى 34 ملحدًا، أما السودان ففيها 70 ملحدًا فقط، واليمن فيها 32 ملحدًا، وفي تونس 320 ملحدًا وفى سوريا 56 ملحدًا، وفي العراق 242 ملحدًا، وفي السعودية 178 ملحدًا وفي الأردن 170 ملحدًا وفي المغرب 325 ملحدًا. بينما تقدر دراسة أجرتها جامعة ''إيسترن ميتشيجان'' الأميركية عدد الملحدين في مصر بمليوني شخص.

زعيم الملحدين

أحمد حرقان ملحد مصري، يعرف أحيانًا بـ"زعيم الملحدين"، يقول إنه أمضى 27 عامًا من عمره في قراءة الدين الإسلامي وتلاوة القرآن والسنة النبوية، مشيرًا إلى أنه كان تلميذًا للشيخ ياسر برهامي، زعيم الدعوة السلفية في مصر بمدينة الإسكندرية، وتحول إلى الإلحاد "لعدم إعترافه بوجود الذات الإلهية".

وأعلن أنه يتحدى من يثبت له وجود الله أو القرآن، معتبرًا أن الحديث عنها خرافات وتناقضات. ويرى حرقان أن أعداد الملحدين في مصر تقدر بالملايين وليس بالآلاف، مشيرًا إلى أن من يعلنون عن أنفسهم أقل بكثير ممن يعتقدون الأفكار اللادينية على الأرض.

ولمواجهة انتشار ظاهرة الإلحاد، قدم تقرير دار الإفتاء عددًا من الاقتراحات، منها ضرورة التنسيق بين المؤسسات الدينية المعنية ببيان صحيح الدين، وهي الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، لتطوير وسائلها للوصول إلى قطاعات الشباب والتواصل معهم واحتوائهم وعدم تركهم فريسة لتلك الجماعات المتطرفة التي تخالف الشريعة. واقترح التقرير أيضًا تجديد الخطاب الديني ليتفاعل مع الواقع المعاصر.

تعاون الأزهر والكنيسة

يعتبر الأزهر والكنيسة أن الإلحاد ليس موجهًا ضدهما، بل إلى الجماعات المتطرفة، ويعملان معًا على مواجهة الظاهرة. وعقد الأزهر مؤتمرًا لمواجهتها، وعقدت الكنيسة أيضًا مؤتمرين الأول تحت عنوان "الرد العلمي على الإلحاد"، والآخر تحت عنوان "ربنا موجود".

وقال الأنبا مرقص، عضو المجمع المقدس بالكنيسة الأرثوذكسية، لـ"إيلاف"، إنه لا يمكن إنكار وجود ظاهر الإلحاد في مصر، مشيرًا إلى أنها ليست بالضخامة التي يروج لها البعض. ولفت إلى أن الخطورة تكمن في أن الملحدين في السابق كانوا يستترون، أما الآن صاروا يجاهرون بإلحادهم، معتبرًا أن هناك أسباباً مختلفة وراء ظاهرة الإلحاد منها: زيادة التطرف، وغياب العدالة الإجتماعية. ونبّه إلى أن الأزهر والكنيسة يتعاونان معًا من أجل مواجهة الظاهرة التي اعتبرها داخلية على المجتمع المصري. لفت إلى أن مواجهة الظاهرة يكون بنشر المحبة والصبر على الشباب الملحد، وإجراء حوار معهم، وليس من خلال نبذهم.

ليست ظاهرة

وبحسب وجهة نظر الدكتور محمد الشحات الجندي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فإن الحديث عن انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر غير دقيق، وأضاف لـ"إيلاف": "إنها لم تتحوّل إلى ظاهرة في المجتمع، والمجتمع المصري متدين بطبعه، والإعلام هو ما جعل منها ظاهرة، بسبب استضافة بعض المحلدين عبر شاشات الفضائيات، والأزهر ووزارة الأوقاف يتعاونان مع الكنيسة لمواجهة الإلحاد والحد منه".

لم تقف الإجراءات ضد الملحدين في مصر عند حد المواجهة الفكرية، بل تخطتها إلى المواجهة بالعنف. وأعلنت محافظة القاهرة أنها أغلقت مقهى بمنطقة الفلكي بالقرب من ميدان التحرير وصفته أنه "تحول إلى تجمع للملحدين وعبدة الشيطان". وآثار القرار عاصفة من الإنتقادات والسخرية في الوقت نفسه، لاسيما أن مصر تحتل&مركزًا متقدمًا في قائمة الدول الأكثر فسادًا، بالإضافة إلى أنها تضم ظواهر أخرى خطيرة، منها انتشار أطفال الشوارع، وتجارة المخدرات، ولا تتخذ الحكومة الإجراءات نفسها في مواجهتها.