أنهى الأمير سعود الفيصل 40 عاما في قيادة الدبلوماسية السعودية، لكنه سيبقى حاضرًا، إذ جرى تعيينه مشرفا على الشؤون الخارجية مع احتفاظه بكرسي مجلس الوزراء، وتمكن الفيصل من إدارة دفة الدبلوماسية السعودية في العديد من الأزمات التي ألمّت بمنطقة الشرق الأوسط وسجل سلسلة من الاختراقات المميزة.

الرياض: ترجّل الامير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي من منصبه، بعد أربعة عقود قضاها رئيسًا للدبلوماسية السعودية، حيث قبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، طلب الوزير بإعفائه من حقيبة الدبلوماسية السعودية لظروفه الصحية.

مشرف على الشؤون الخارجية

وجاء في الأمر الملكي الصادر صباح اليوم الاربعاء 29 ابريل، أنه " بعد الاطلاع على ما رفعه لنا الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية عن طلبه إعفاءه من منصبه لظروفه الصحية، فقد أمرنا بالموافقة على طلبه".

ورغم أن حقيبة الخارجية آلت للسفير السعودي السابق في واشنطن عدل الجبير، إلا أن الفيصل تسنّم منصبا استحدث للاستفادة من خبراته الطويلة في المجال الدبلوماسي إذ تم تعيينه مشرفا على الشؤون الخارجية مع احتفاظه بكرسي مجلس الوزراء، وهو ما يعني أنه سيمثل المرجع لكل ما يخص الشؤون الخارجية للمملكة قبل إقرارها من الملك.

البدايات

وكان قد تم تعيين الأمير سعود الفيصل وزيرا للخارجية في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1975، وهو العام& نفسه الذي كان فيه "جيرالد فورد" رئيسا للولايات المتحدة، كما انتهت في السنة نفسها "حرب فيتنام" وبدأت حينها شركة مايكروسوفت العملاقة في الظهور، حيث يعتبر الفيصل صاحب أطول فترة بقاء في المنصب كوزير للخارجية مقارنة بنظرائه في دول العالم، حيث عاصر اربعة ملوك سعوديين واتمم عند اعفائه من منصبه، اربعة عقود (1975- 2015) من العمل الدؤوب والجهد اللامتناهي في خدمة السعودية والوطن العربي.
&
الاستعانة بخبرته
&
سعود الفيصل، وان ترجل من مهام وزارة الخارجية، الا انه لم يغادر المهام الرسمية بشكل نهائي، حيث أصدر العاهل السعودي الملك سلمان أمرا آخر بتعيينه "وزير دولة" وعضواً في مجلس الوزراء، ومستشاراً ومبعوثاً خاصاً لخادم الحرمين الشريفين، ومشرفاً على الشؤون الخارجية"، وذلك بهدف الاستفادة من خبرته الطويلة في مجال العمل الدبلوماسي، فيما كان آخر "اعادة تعيين" للامير سعود الفيصل في 29 يناير من العام الجاري، بعدما اصدر الملك سلمان 34 امرا مليكا تضمن إحداها إعادة تشكيل مجلس الوزراء، مع احتفاظ سعود الفيصل بمنصبه.
&
أول منصب
&
ولد الأمير سعود الفيصل في مدينة الطائف في 2 كانون الثاني (يناير) عام 1940، وهو ابن الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ووالدته الأميرة عفت الثنيان آل سعود، وقد نشأ وتربى في مدرسة الفيصل الأب والملك، و نهل منه الادب و الثقافة الواسعة، والإدارة المحنكة والدبلوماسية الرفيعة، واكسبت منه العديد من الصفات الشخصية، كالحكمة والتروي والنظرة الثاقبة، والامير حاصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة برنستون في الولايات المتحدة عام 1964، وتقلد اول مناصبه مسؤولاً عن العلاقات النفطية في شركة بترومين، وتدرج في المناصب حتى عُين وكيلاً لوزارة النفط والثروة المعدنية في عام 1971 ولمدة خمسة أعوام.
&
وفي عام 1975، تولى الأمير الشاب حقيبة الخارجية، اذ كان عمره وقتها 35 عاما، فيما كانت المنطقة العربية تمر بمرحلة أزمات عدة ولا زالت، وتمكن الفيصل من قيادة دفة الدبلوماسية بحنكة واقتدار، وهو ما جعل الكثيرين يلقبونه بـ فارس الدبلوماسية، كما كانت خبرته و ثقافته الواسعة، واضحة للعيان خلال المؤتمرات الصحافية، فقد كان متحدثا لبقا لا تتعثر كلماته، متنقلاً من العربية إلى الإنكليزية أو الفرنسية، كما لا تخلو مؤتمراته الصحافية اضافة للجدة والحزم، من روح الدعابة والسخرية التي يتميز بها اثناء ردوده على اجابات الصحافيين.
&
وزير خارجية العرب
&
لم يكن سعود الفيصل وزيرا للخارجية السعودية فقط، بل كان ايضا وزير خارجية المنطقة العربية، بحسب وصف الدبلوماسيين العرب، حيث تولى منذ تعيينه تقديم الدعم السياسي والمادي للقضايا العربية سواء عن طريق طرح مبادرات التسوية أو القيام بجولات مكوكية في كل دول العالم للحصول على الدعم الدولي للقضايا العربية،حيث لعب دوراً قيادياً في الجهود الدبلوماسية في الشرق الأوسط لإقرار حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي، و بذل جهوداً مضنية لتحقيق التوافق العربي حول مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002.
&
الحرب الأهلية اللبنانية
&
واستطاع سعود الفيصل إدارة الكثير من الملفات العربية الشائكة، ففي لبنان والتي صنفت حربها الاهلية كأصعب القضايا التي عاشتها المنطقة في الفترة من ( من أبريل 1975م حتى أكتوبر 1990م) استطاعت الدبلوماسية السعودية ان تحقق اختراقا نوعيا وصلت بالازمة إلى الهدف المنشود، حيث نجح الأمير سعود الفيصل في جمع كل أطراف الصراع في أغسطس عام 1989م في السعودية ولعب دوراً في تذليل العقبات بين الأطراف المتصارعة، ليوقع الجميع اتفاق الطائف الذي أنهى المجازر والصراعات الدموية التي عاشتها لبنان طوال هذه الفترة.

الحزم

وكان واضحا في خطابات الأمير سعود الفيصل رفض السعودية لأي عدوان على الدول العربية، وكان يؤكد في كل مناسبة رفضه العمليات العدوانية المتكررة على الاراضي الفلسطينية، وكان له مواقف معادية للكيان الإسرائيلي، حيث دأبه على انتقاد ممارساته في الأراضي العربية المحتلة، كما كان الفيصل رافضا لغزو الولايات المتحدة للعراق.

وحذر بشكل علني إدارة جورج بوش بعدم غزو العراق، وعمل على وضع تصور من شأنه أن يؤدي إلى حماية العراق من التعرض لضربة عسكرية، فيما كانت آخر مواقفه المشرفة رده القوي على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ.

الوضوح

وفي أزمة مكافحة الإرهاب، اختار الفيصل خطاً دبلوماسياً فريداً ومتميزاً، يقوم على الصراحة و الوضوح، حيث كان للفيصل حضور غير عادي طيلة مرحلة الازمة، فمنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2011م دخل في معارك دبلوماسية شتى مع نظرائه في الغرب من أجل التأكيد عليهم وإقناعهم بأن الإرهاب ليس له أية علاقة بالإسلام، وهو ما نجح فيه بقوة غيرت من وجهات نظر الكثير بحسب الكثير من الدبلوماسيين والسياسيين في الغرب، وكان يؤكد دائما ان الرياض تسعي لوضع الحد من الأنشطة الإرهابية التي بإمكانها أن تشكل تهديدات أمنية خطيرة ضد حلفائها الغربيين.

انحياز للشعوب

وفي مرحلة الربيع العربي، اتسمت سياسة سعود الفيصل بالثبات الشديد والقدرة على تبني مواقف منحازة للشعوب، وهو ما ظهر جليا في موقف السعودية إزاء الأزمة السورية، ووقوفه ضد نظام بشار الاسد ودعمه للمعارضة السورية، فضلا عن موقفه في اليمن وتبنيه ودعمه للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وفي مصر حين قامت ثورة 30 يونيو 2013، وفرت الدبلوماسية السعودية كافة سبل الدعم للقاهرة، ووقفت في وجه الضغوط الدولية والإقليمية التي تعرضت لها مصر في ذلك الوقت.
&
يرفض مبدأ الدبلوماسية السرية
&
و يحظى سعود الفيصل بتقدير واحترام جميع الدبلوماسيين والسياسيين حول العالم، سواء من الدول الاعداء والاصدقاء، حيث تمكن خلال دبلوماسيته الهادئة ومواقفه من أن يكون صوت الأمة الإسلامية والعربية، كما كان من الدبلوماسيين القلائل الذين يرفضون مبدأ الدبلوماسية السرية، حيث كانت مواقفه من مختلف القضايا معروفة ومعلنة للعالم أجمع، بحسب وصف المراقبين منه، والذين اكدوا ان علاقته بموظفيه والعاملين معه كانت إنسانية في المقام الأول، وكان ايضا يقدس الوقت لأبعد درجة، ومشغول بعمله لأقصى الحدود، جدوله اليومي لا هوادة فيه، ولا تتوقف جولاته الخارجية ورحلاته المكوكية حينما يتعلق الأمر بمصلحة وطنية.
&
#شكرا_سعود_الفيصل
&
و فور صدور قرار اعفاء الامير سعود الفيصل، دشن مغردون على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" هاشتاغ يشكرون خلاله الأمير على جهوده واعماله طوال الاربعة عقود الماضية،& وجاء في الـ"هاشتاغ"، الذي حمل عنوان: "#شكرا_سعود_الفيصل"، عبارات الشكر والثناء والتقدير للجهود المبذولة التي يقدِّمها في خدمة الوطن؛ منذُ تعيينه وزيراً للخارجيَّة، كما وصف المغردون "الفيصل" بأنه رجل المهمات الصعبة، مؤكديِّن أنه يعرف التوقيت المناسب للتسامح مثلما هو الوقت الأفضل للحزم، واعادوا نشر كلمته الشهيرة "لا نتدخل فيِ شؤون الآخرين، ولا نقبل التدخل في شؤوننا، وأي إصبع يمتد في وجه المملكة سنقطعه".