تبدو السيدة نبيلة منيب، الأمينة العامة لفدرالية اليسار الديمقراطي المغربي (تجمع لثلاثة أحزاب) ومتزعمة التنظيم لخوض الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر شبيهة في مظهرها العام بطالبة جامعية، ما زالت تتردد على قاعات المحاضرات.&

إيلاف من الرباط: لولا أثر السن (من مواليد 1960، وأم لبنتين) التي تزحف رويدًا رويدًا على محياها ذي القسمات الجذابة، لشك الناظر إليها وتحديدًا من خلال هندامها الأوروبي وأناقتها المعلنة، لشك في أنها تخالط الفئات الشعبية المعدمة، وتتنقل بين الأزقة والحواري الفقيرة، طالبة التصويت والتأييد بلغة خشنة، لفائدة التحالف اليساري الذي تقوده.&

وهذا بحد ذاته تطور مهم في مسار اليسار المغربي، بأجنحته وأطيافه، بعدما أنهكته الانقسامات المتوالية على خلفية خلافات مبهمة وقفت وراءها في غالب الأحيان والمحطات، حساسيات الأشخاص والنزوع الفردي نحو تبوؤ مقعد أو دور مميز في مقصورة القيادة السياسية في المغرب.

حتى زمن قريب، كانت أستاذة الكيمياء (تخصص الغدد الصماء) في كلية العلوم في مدينة الدار البيضاء، وجهًا مألوفًا وعاديًا في المحفل السياسي والنقابي، لا يثير انتباه أو فضول الناس العاديين، مثلما لا تشكل منافسًا مزعجًا لباقي الأحزاب. الجميع بمن فيهم &دوائر الحكم ينظرون إلى الرفيقة منيب، ويرحّبون بها كمعبّر عن مكون يساري موجود في المجتمع، كامتداد للحراك السياسي والإيديولوجي، الذي عرفه المغرب الحديث منذ استقلاله؛ وبالتالي فإن حضورها مطلوب ومرغوب فيه، حتى تكتمل شروط الديكور الديمقراطي في البلاد.

أكثر من هذا، تعد السيدة منيب، في نظر كثيرين، المختلفين أو المتعاطفين مع نهجها الفكري، نموذجًا للمرأة المغربية الجديدة، فهي الحاصلة على تأهيل أكاديمي، الناجحة في الجمع بين أدوار ربة البيت والمساهمة في إغناء الحق السياسي. برزت بقوة في المشهد المجتمعي المغربي، مع بداية العهد الجديد، بدعم وإرادة سياسية واضحة، طالما عبّر عنها وأكدها الملك محمد السادس، من خلال انتصاره للقضايا العادلة للمرأة المغربية. شقت طريقها نحو أمانة الحزب الاشتراكي الموحد فكسبتها.

كانت الأزمة غير المسبوقة التي حدثت في غضون العام الجاري، بين الأمانة العامة للأمم المتحدة والمغرب، على خلفية التصريحات الصادمة، التي تفوه بها بان كي مون، خلال زيارته لمخيمات "تندوف" الخاضعة لسيطرة جبهة البوليساريو، محفزًا ودافعًا للمغرب لكي يحشد كل طاقاته الرسمية والشعبية لوقف انحياز خطير في موقف المنظمة الدولية، التي رأت الرباط أنها زاغت عن خط الحياد الذي حددته الدول المؤسسة، وارتضته تلك التي التحقت بها بعد استعادة سيادتها كأداة للسلم وفض النزاعات المستعصية بدلًا من تأجيجها.

المواجهة السياسية والدبلوماسية بين الأمين العام الأممي والمملكة المغربية، نبهت الأخيرة إلى ضرورة مراجعة الأوراق التي تمتلكها لاستعمالها كسلاح فعال في المعركة المفروضة عليها من طرف قوى غامضة وأخرى سافرة في عدائها لها؛ إلى جانب صنف من الدول، غير ملمّة بأسباب وتفاصيل ومنعرجات نزاع الصحراء؛ وبالتالي فإن مواقف تلك الفئة من الدول تتخذها لاعتبارات إنسانية أو إيديولوجية.&

السويد وسواها من بلدان الشمال الأوروبي، البعيدة عن منطقة النزاع، التي ليس لها ماض استعماري، تستسلم لعاطفة الدعاية المكثفة وضروب الحرب النفسية المكثفة التي يشنها خصوم الوحدة الترابية للمغرب، مستغلين تقصير وقصور الدعاية المغربية لمصلحة قضيتها، وتراخي بعض التمثيليات الدبلوماسية في الخارج.&

النتيجة أن السويد، كانت على وشك الاعتراف بـ"الجمهورية" التي أعلنتها جبهة البوليساريو، من جانب واحد، في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، فوق أرض أجنبية.

غضبت الرباط غضبًا شديدًا، وثارت ثائرتها ضد الخطوة التي أقدمت عليها استوكهولم، وظهرت في الأفق أجواء ملبدة وعلامات تصعيد خطير؛ لولا أن العقل الدبلوماسي المغربي اهتدى إلى عواقب المنحدر الذي يمكن أن تنتهي إليه العلاقات بين المملكتين، خاصة وأن دولة السويد معروفة في العالم بالوجه الإنساني لسياستها الخارجية، بدليل اعترافها بدولة فلسطين.

بات ضروريًا للمغرب فتح قنوات إضافية مع حكومتها عبر الاستعانة بالدبلوماسية الموازية التي يضطلع بها بكيفية تلقائية وبمحفز الشعور الوطني، الأحزاب السياسية من المعارضة والموالاة، وتعبيرات المجتمع المدني الناهض في المغرب.

من أرشد صاحب القرار الدبلوماسي إلى جدوى اختيار الزعيمة اليسارية، لقيادة &الفريق المصغر الذي تقرر سفره إلى السويد، لشرح أبعاد ملف الصحراء ووضع الخارجية السويدية والأحزاب السياسية الحاكمة، في الصورة التامة بكل موضوعية وحياد مع التأكيد على المبدأ الثابت أن الصحراء جزء من التراب الوطني، والمغرب منفتح على حوار هادف ينهي النزاع بلا ضرر ولا ضرار.

لا يهم معرفة الخطة الدفاعية التي نسجها فريق "نبيلة" المفاوض، وما أثاره من ردود فعل رافضة أو متفهمة لدى الطرف الآخر. فكما يحدث في المواجهات العسيرة، فإن الحوار بين السويد والمغرب انتهى إلى التهدئة، ثم تراجع السويد عن الخطوة التي كانت قد أوشكت على الإقدام عليها، فارتفعت الغمة السياسية.

هل أبانت الرفيقة "نبيلة" عن مواهب قيادية استثنائية في الإقناع ودحض الحجج السويدية؟، وكيف استعدت للمباراة في زمن قياسي، وهي ليست من الجهاز الدبلوماسي؟، بل كيف استطاعت أن توصل جوهر خطابها وفكرها بتنسيق مع مكونات الوفد، عبر لغة لا يجيدها كل من تحدثت إليهم. صحيح أنها كانت مسنودة بأعضاء ذوي تكوين سياسي جيد وخبرة في المفاوضات والحوارات المستعصية، وبمترجمين يزنون الكلمات حق وزنها، من قبيل الاتحادي محمد بنعبد القادر، عضو لجنة العلاقات الخارجية في الاتحاد الاشتراكي، العارف بتعقيدات الأسرة الاشتراكية الدولية، كما إنه ذو طبع هادئ ومحاور مقنع.

من الواضح أن الدولة المغربية راضية عن أداء الرفيقة منيب، ولذلك يتوجب وينبغي مكافأتها على الدور الوطني الذي قامت به، ليس بإسناد منصب يليق بها، بل بفسح المجال لها ولحزبها لكي يحتل مكانه الطبيعي في المجتمع. وفي مقابل ذلك، لينت الرفيقة &خطابها الإيديولوجي العتيق، وصاغت فكرها وتوجهات حزبها في قوالب حديثة وعصرية، تجد قدرًا من القبول لدى الفئات العريضة من المجتمع، وغامرت بتغطية جل الدوائر الاقتراعية، والحقيقة أن "منيب" محظوظة بأكثر من معنى.&

بعض الحظ جلبته لنفسها بعملها ودأبها من خلال نجاحها في توحيد صفوف اليسار الديمقراطي، وراء مخططها الساعي إلى التغيير من خلال المشاركة السياسية، ما مكنها من تذليل الصعوبات التنظيمية التي تتفجر عادة خلال الاستحقاقات الانتخابية بسبب الصراع الضاري على الترشيح للمجالس التمثيلية.

هي تدرك مسبقًا أن حصتها من الكعكة الانتخابية ستكون متواضعة، لكنها ضمنت بالتأكيد إسماع صوتها الشخصي في المؤسسة التشريعية، على اعتبار أنها تتصدر القائمة الوطنية لمرشحات الحزب، من دون استبعاد حدوث مفاجآت في نتيجة باقي رفاقها، بالنظر إلى الحملة الذكية التي يقوم بها مرشحو اليسار الديمقراطي، ما أكسبهم تعاطف الذين أصابتهم خيبة أمل من اليسار الاشتراكي التقليدي.

إلى أي مدى يمكن أن تصل الزعيمة وحزبها؟. الواقع أن ظروف الانفراج الديمقراطي لا تكفي وحدها للتجذر في التربة المجتمعية، فما زالت أفكار اليسار العلمانية تثير حفيظة فئات من المجتمع المغربي المحافظ في مجمله، كما إن المخاطب الذي تراهن عليه الرفيقة ينحصر في الفئات الواعية المتعلمة، وليس الطبقات الكادحة، حيث منسوب الأمية مرتفع.

من اللافت للنظر في رحلة السيدة، نبيلة منيب، الجديدة، ما من شأنه أن يثير تساؤلات بخصوص أهدافها السياسية المعلنة والمضمرة. لقد أكدت وقوفها الرافض لأية مشاركة في حكومة قادمة يرأسها حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية أو غريمه الضاري "الأصالة والمعاصرة"، الذي يدّعي انتسابه إلى معسكر الحداثة ومحاربة الإسلاميين.&
&
تموقع الرفيقة بين العملاقين، وعلى مسافة متساوية من كليهما، سيقلل من حظوظ إيجاد مقعد لها في التشكيلة الحكومية المنتظرة. فهل يعني إصرارها على الابتعاد عن الغريمين الكبيرين أنها اشتمت رائحة سياسية معينة، توحي باستبعاد زعيمي الحزبين (عبد الاله ابن كيران وإلياس العماري) من قيادة الجهاز التنفيذي، ويصبح البديل حكومة ائتلاف وطني عريض، يمكن أن تجد لها مقعدًا فيه، حتى ولو شاركت "العدالة والتنمية" و"الأصالة والمعاصرة" اضطرارًا في تدبير الشأن العام لولاية تشريعية مقبلة؟.

يوجد سؤال آخر ربما هو أكثر إلحاحًا من سابقيه، يتمثل في ما تسعى إليه الرفيقة منيب بخصوص بلورة ما أصبح يدعى بـ"الخط الثالث" في المغرب، البعيد عن سلطتي المخزن والدين، في إشارة واضحة إلى الرمزين المجسدين لهما: العدالة والأصالة. فما هي حظوظ هذا التوجه، علمًا أن حزب الأصالة ينشد، حسب زعمه، الحداثة والعلمانية والتصدي للإسلاميين.

في هذا السياق، يتراءى "الخط الثالث" بعيدًا، حتى لا أقول كالسراب يحسبه الظمآن ماء، فيشتد عطشه ويجف حلقه. وهذا الاختيار لم ينجح حتى في الدول الغربية الراسخة في الديمقراطية، بل كان السبب في الويلات في بعضها (مشاركة توني بلير في غزو العراق)، كما إن الرمز الآخر لهذا التيار، الرئيس باراك أوباما، أخفق في غالبية أحلامه السياسية. فما هي، ياترى القوة والمرجعية التي ستستند إليها الرفيقة نبيلة في مجتمع مغربي عالي الاستقطاب الحزبي والحراب الإيديولوجي؟.

البيان الرسالة الذي وجّهه إلى زعيمة اليسار الديمقراطي، مائة مثقف وأكاديمي مغربي، ونشر أخيرًا كإعلان في بعض الصحف، لا ينفع، بل ربما يضر معنويًا بالزعيمة، التي يفترض أن تشق طريقها بعناية وحذر نحو العبور إلى المستقبل، ببرنامج &عملي واضح مجدد الأهداف والوسائل. فلا معنى لخط ثالث، وقد اختفى مبرره الإيديولوجي، المتمثل في الصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
&
&